مسافر يطا: سواعد تحفر الصخر

مسافر يطا

سليم أبو ظاهر

كاتب من فلسطين

بطريقة تحول دون انهيار المشاعر في لحظة قد يذهب معها كل أمل ممكن، تحلق الجميع حول خمسيني يعرض صورة يتيمة وقديمة لجده وعماته متحسراً على "جهير" وبلاد اغتصبت عام 1948 بين "مسافر يطا" و"عراد"، ذلك قبل أن يروي كيف تآمر عليه الجنود الإسرائيليون لإلقائه في البئر حين أتوا لترحيله من بيته قبل نحو ربع قرن.

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

22/08/2023

تصوير: اسماء الغول

سليم أبو ظاهر

كاتب من فلسطين

سليم أبو ظاهر

وأكاديمي.

في مشهد لا يمكن وصفه بالطوعي أو الاختياري، حيث يمتزج الغرائبي بالمألوف، اعتادت الغالبية العظمى من أهالي تجمعات “مسافر يطا” جنوب محافظة الخليل العيش في كهوف نحتت عددا منها سواعد حفرت الصخر فجعلت منها ملجأً ومأوى لتستقر عوائل بأكملها “تحت سقف البؤس الواطي ولكن في الصف العالي من المعركة” –على غرار سكان المخيمات الذين أشار إليهم غسان كنفاني في روايته الملحمية “أم سعد”. هناك حيث بمقدورك أن تحتسي كوباً من الشاي “الحلو” بنكهة “الميرمية”، على مرمى بصر الجنود الإسرائيليين ونطاق مراقبتهم ومرمى نيران أسلحتهم، فيما تستمع إلى ذكريات أليمة ومرة لأشخاص يواجهون كل يوم مختلف أصناف القتل المعنوي والجسدي، ويقاومون حر الصيف وبرد الشتاء تماماً كما يرفضون سلب الإرادة وتطبيع الفكر والذاكرة وما يرافق ذلك من مساعي الإقصاء والمحو الممنهج لفلسطين الإنسان والقضية على حد سواء.

في أقصى جنوب الضفة الغربية، حيث يعمل جدار الفصل العنصري على خنق ومحاصرة نحو اثني عشر قرية فلسطينية ويساهم في تهديد الوجود الفلسطيني هناك، يتجلى خطر التهجير القسري والإخلاء الذي يحيط بنحو ألف ومئتي شخص من أهالي “مسافر يطا” -بينهم حوالي خمسمائة طفل. ذلك في مسعى مستمر وواضح من السلطة الاستعمارية لإخلاء وتفريغ التجمعات السكانية الفلسطينية الموجودة في المناطق المصنفة “ج” -والتي تعتبر خاضعة من حيث السيطرة الإدارية والأمنية لسلطة الاحتلال بموجب اتفاقيات أوسلو، وادعاء أن المنطقة واقعة ضمن نطاق مناطق “إطلاق النار”، وهي مناطق خصصتها سلطات الاحتلال لغايات الدريب العسكري عام 1999، ويطلق عليها منذ ذلك الحين “منطقة إطلاق النار 918”. ولا يكف الإسرائيليون عن تكريس إجراءاتهم القمعية بحق السكان الفلسطينيين ومصادرة مركباتهم ومنعهم من الوصول إلى أراضيهم الزراعية، بل ويمعنون في ترويعهم باستخدام العصي وإلقاء الحاجرة من قبل قطعان المستوطنين وإطلاق الكلاب لمهاجمة رعاة الأغنام وقطعانهم وتفريقها، وحرمانهم من أبسط حقوقهم، وإعاقة تزويدهم بالخدمات المختلفة وأبسط مقومات الحياة، ويهدمون المنازل والمدارس ويدمرون خطوط المياه.

هناك حيث حيث لا تستيطع السيارات الوصول بسهولة –فيما تحلق الطائرات العسكرية الإسرائيلية على مقربة منك فتستشعر لهيب الهواء الساخن المندفع بفعل مروحيتها الضخمة- يمكنك ملاحظة غزال الجبل الفلسطيني يتراكض على سفوح أودية أعياها القيظ كما الزمهرير، ليشكل لوحة فنية رائعة تعلن للجميع أن الوجود الفلسطيني على هذه الأرض سابق لكل وجود، رغم القلق الذي سرى في عروق أطفال وشيوخ ونساء يترقبون في كل حين أن يتم تهجيرهم من أرض اعتادوا سكناها بعد أن رفضت ما تسمى “محكمة العدل العليا الإسرائيلية” التماس الأهالي ضد قرار الاحتلال القاضي بطردهم من أراضيهم وتصنيفها ضمن حدود مناطق “إطلاق نار”. تهجير قسري وجريمة حرب أشار إليها وزير العدل الفلسطيني بوصفها مخالفةً لنص المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن “النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أيا كانت دواعيه”. الأمر الذي لا يهدف لشيء سوى لتكريس الممارسة العنصرية ودعم سياسة الاستيطان الإحلالي المرتبط بتغيير واقع التركيبة الديمغرافية وتفريغ الأرض قسراً من سكانها الأصلانيين بما يتيح تحقيق الهيمنة الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية واستخدامها لأغراض استعمارية استيطانية.  

في “مسافر يطا”، وعبر طرق بدائية غير معبدة -حيث لا سبيل أمام السكان سوى الصمود، يقودك المسير للقاء كهل يحمل عصاً أتقن صنعها واعتمر كوفية بيضاء معقودة إلى الخلف فلا يعود العرق يسيل على جبهته التي لوحتها أشعة الشمس لتضيف إلى سمرتها عزة وشموخاً. بدوي مرفوع الهامة، رغم حضور السنين الواضح وأثرها في انحناء قامته، يروي كيف استخدم حفاراً يدوياً بسيطاً على امتداد سنوات لحفر ملجأ يؤيه وأفراد عائلته، فبات هناك ثمة حياة في جوف الأرض تذكرنا أن الإنسان منها وإليها. في الناحية المقابلة عجوز لا تقل بأساً ولا رباطة جأش عن مضيفنا الكهل، دعتنا إلى بيتها، أو إن شئت قل غرفتها، حيث الخزانة الوحيدة مفرغة من كل شيء تأهباً لاحتمالية هدم البيت في كل حين، فيمكنها بذلك إنقاذ بعض من ملابس وأوانٍ قديمة؛ طنجرة معدنية، إبريق الزيت، صحن مكسور، وكأسٌ مليئٌ بماء الحياة ممزوجاً بالأنفة والكبرياء، فلا مكان هنا للذلة أو المهانة. في “المسافر” جار ثالث أتقن “صناعة الفرح”، وأعد كهفاً آخر لاستقبال عروس ابنه، فهنا شعب “يرقص بين كهفين”، يزرع الأرض بينهما ورداً وزيتوناً وتين، يحيل الألم أملا وانتصاراً معلناً في كل يوم ولادة حياة جديدة ترفض كل معاني اليأس والانكسار، “ويحب الحياة ما استطاع إليها سبيلا”.  

بطريقة تحول دون انهيار المشاعر في لحظة قد يذهب معها كل أمل ممكن، تحلق الجميع حول خمسيني يعرض صورة يتيمة وقديمة لجده وعماته متحسراً على “جهير” وبلاد اغتصبت عام 1948 بين “مسافر يطا” و”عراد”، ذلك قبل أن يروي كيف تآمر عليه الجنود الإسرائيليون لإلقائه في البئر حين أتوا لترحيله من بيته قبل نحو ربع قرن. حتى هذا البئر كان قد تم اقتطاعه سابقاً من أحد الكهوف، عجيب أنت أيها الكهف، والأكثر عجباً قدرة هؤلاء على الصبر والبقاء. حالة غريبة من القدرة على التأقلم أو التحكم بالعواطف تلك التي تسيطر عليك في “مسافر يطا” حين يستضيفك جار رابع في الكهف الذي صار قاعة احتفال بعيد ميلاد طفليه التوأم، حيث يمكن رؤية الزينة تغطي الجدران وإلى جانبها بالونات بالزهري والأزرق. كذلك ثمرة الخوخ او البرقوق التي تقطفها من شجرة مغروسة بعناية تعادل شهد الدنيا بأكمله، فيما صارت خلايا الطاقة الشمسية ورسومات الجرافيتي والعبارات على الجدران الخارجية لبضع غرف صفية -وأخرى من صفيح تمت مواءمتها فاستحالت مسكناً رغم قساوة الظروف وضيق الحال، صارت شاهداً حياً أن “على هذه الأرض ما يستحق الحياة” وتعلمك أينما وليت وجهك أن هناك طلبة وأناساً لا يعرفون معنىً للخنوع ولا الخضوع. 

قبل نحو عام من الآن، أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني محمد إشتية، عن إطلاق رزمة مشاريع في مسافر يطا لتعزيز صمود المواطنين في وجه عمليات الاستيطان ومحاولات التهجير المستمرة. جاء ذلك في كلمة له خلال افتتاحه مؤتمر “الصمود والتحدي”، حيث أبدى استعداد الحكومة لترميم ثلاثمائة كهف يستخدمها الأهالي لغايات السكن. وقد بدأت وزارة الأشغال العامة والإسكان بتنفيذ هذا التوجه فعلاً، حيث أعلن الوزير في آب الماضي عن البدء بترميم وتأهيل العديد من الكهوف والوحدات السكنية وتسهيل الطرق، موضحاً أن العمل يجري بطرق غير تقليدية في كافة الأوقات بجهود من الطواقم الفنية والأهالي، حيث أكد أن الوزارة ستستمر في الأعمال رغم إعاقات الاحتلال وصعوبة إدخال المواد اللازمة لعمليات الترميم والتأهيل، مشيرا إلى أنه مع مرور الوقت ستكون هناك نتائج تراكمية يشعر بها السكان وتعزز من صمودهم في مواجهة خطر التهجير. ويبدو أن واقع مسافر يطا مستمر في أخذ صداه على المستويين الإقليمي والدولي، حيث ساهمت مؤسسات أممية ودولية في إقامة بعض المشاريع في مسافر يطا، فيما تم الإعلان، في كانون الأول 2022، عن مصادقة مجلس وزراء الإسكان والتعمير العرب في دورته التاسعة والثلاثين، على قرارين لصالح دولة فلسطين، والتي من شأنها دعم الفلسطينيين لتحقيق إسكان آمن ميسر ومستدام، وقد ذكر بيان صادر عن الوزارة أن القرارات المصادق عليها تدعم جهود دولة فلسطين في تهيئة وتوفير سكن آمن وملائم للأسر الفلسطينية، وتحسين ظروف السكان في تجمعات مسافر يطا والمناطق المهددة بالاستيطان. ورغم كل ما يعانيه الأهالي المهددون بالترحيل من قسوة الحياة وشظف العيش في مسافر يطا، إلا أنهم يؤكدون على استمرار تمسكهم بحقوقهم وأراضيهم المصادرة قسراً، ويرفضون التفريط بها. 

الكاتب: سليم أبو ظاهر

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع