ثنائية الدونية والفوقية في النظام الاستعماري عند فانون: الحالة الفلسطينية نموذجاً

Streetart: Vinci Vince. Villeneuve-Saint-Georges, France

سليم أبو ظاهر

كاتب من فلسطين

ويمكن القول إن المحور الأول يتمثل في الفوقية التي يستبطنها العرق اليهودي والتي تقول بدونية كل ما هو غير يهودي، ، فالإنسان عندهم هو اليهودي، وأعداؤه هم باقي الأمم الذين لا يعتبرونهم بشراً، وقد جاء في التَلْمُودِ:

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

12/04/2024

تصوير: اسماء الغول

سليم أبو ظاهر

كاتب من فلسطين

سليم أبو ظاهر

وأكاديمي.

“ينظر القاتل إلى شبح القتيل، لا إلى عينيه، بلا ندم، يقول لمن حوله: لا تلوموني، فأنا خائف. قتلت لأني خائف، وسأقتل لأني خائف.. وكان على القتيل أن يعتذر عما سبب للقاتل من صدمة!”

محمود درويش: شريعة الخوف

في اللحظة التي يرتفع فيها سقف المواجهة مع الظلم وتكثر الدعوات إلى استخدام العنف بوصفه خياراً مشروعاً لمقاومة منظومة العنف الاستعماري المنهجي والمُمَأسس -على يد جنود تمثل قدرتهم على استخدام العنف ركيزة أساسية، إن لم تكن الوحيدة، لتثبيت وجودهم كواقع استعماري يدّعي أحقيته الإلهية بالأرض وما فيها وما عليها، تتعالى الأصوات الداعية لمناقشة شرعية استخدام العنف من عدمها؛ فاتحة الباب على مصراعيه أمام خلق شكل جديد وجدلي للعلاقة بين المستعمِر والمستعمَر بطريقة يمكن أن تكون لها إسقاطات جدية على طبيعة النضال الفلسطيني في وجه الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.

وفي هذا الزحام، تتزايد الدعوة لاستحضار ثورية فرانز فانون وتحليلاته التي لطالما شكلت ركيزة أساسية في دحض أطروحة “الأبوية الكولونيالية”. ذلك أن فانون أدّى دوراً مركزياً في معرض سعيه الحثيث لفضح السردية الاستعمارية وأكد على أنه لن يكون هناك تحرر حقيقي إلا بالقدر الذي تستعيد فيه الأشياء مكانتها بأقصى ما لها من معنى مادي، فالأسود، كما يشير في معرض حديثه حول عقدة تبعية المستعمَر المزعومة، يبدأ يتألم من كونه ليس أبيضاً على قدر ما يفرض الإنسان الأبيض تمييزاً عليه، يجعله مستعمَراً ويجرده من كل قيمة، وعندها سيحاول أن يجعل نفسه أبيضاً كي يرغم الأبيض على الاعتراف بإنسانيته.

والحقيقة أن المساهمة في دراسة البنيات الكولونيالية بطريقة نتجاوز فيها ثنائية المستعمِر والمستعمَر، لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الحالة الاستعمارية التي تشهدها فلسطين قبل استحضار أي نمط من المتقابلات أو الثنائيات الرنانة كالدونية والفوقية لتفسير الواقع المركب والمعقد لعلاقة طرفي الصراع؛ الذي أرى أن كليهما يستبطن في داخله مزيجاً متناقضاً من الدونية والفوقية في آن معاً، مضافاً إلى ذلك شريعتي الخوف والانتقام، وتفسير ذلك يندرج ضمن عدة محاور.

ويمكن القول إن المحور الأول يتمثل في الفوقية التي يستبطنها العرق اليهودي والتي تقول بدونية كل ما هو غير يهودي، ، فالإنسان عندهم هو اليهودي، وأعداؤه هم باقي الأمم الذين لا يعتبرونهم بشراً، وقد جاء في التَلْمُودِ: “أيها اليهود إنكم من بني البشر لأن أرواحكم مصدرها روح الله، وأما باقي الأمم فليست كذلك”، فإذا ضرب أميٌّ – أي غير يهودي- إسرائيليًّا، فكأنما ضرب العزة الإلهية، وقد ورد على لسان الحاخام إسحق أباربانيل (Isaac Abravanel): “ليس من العدل أن يشفقَ الإنسان على أعدائه ويرحمهم”، ويستطرد الحاخام بقوله: “وخلق الله الأجنبي على هيئة الإنسان؛ ليكونَ لائقًا لخدمة اليهود الذين خُلقت الدنيا لأجلهم، لأنه لا يناسب لأمير أن يخدمه ليلًا ونهارًا حيوانٌ وهو على صورته الحيوانية.” 

وبذلك بات ممكنا القول إن شخصاً يستبطن هذه النظرة الفوقية تجاه المجموع البشري لن يكون قادراً على استيعاب فكرة أن يكون مرؤوساً أو منقاداً لتعليمات الآخر غير اليهودي، وإن كل مسعى من الآخرين للحكم والسيطرة سيثير في داخل اليهودي إحساساً بالدونية والنقص لعدم قدرته أن يكون هو المسيطر، الأمر الذي سيولد بداخله شعوراً بالخوف من غضبة الآخر ويثير لديه رغبة في الانتقام.

أما المحور الثاني، فيتمثل في استبطان اليهود للذل والدونية تاريخياً، حيث شكلت عقيدة الشتات جوهر الشخصية اليهودية عبر العصور. ولعل أحد أبرز المحطات التاريخية المتعلقة بإذلالهم وتشتيتهم ما لاقوه في مصر من استعباد وقتل للأطفال واستحياء للنساء على يد الفراعنة والسبي البابلي الذي قام به نبوخذ نصّر، وإجلاؤهم في شبه جزيرة العرب على يد المسلمين، وإبادتهم في معسكرات النازية في العصر الحديث. وإذا ما كان المفكر الفرنسي جان بول سارتر يرى أن “اليهودي هو إنسان يعامله الآخرون كيهودي” وأن “اللاسامي هو الذي يصنع اليهودي”، فإنه يبدو أن استبطان النظرة الفوقية عند اليهود، ابتداءً، والتي فضلت الكلاب على غير اليهود، قد أدت إلى حراك مضاد عند غير اليهود لإذلالهم، وعليه يظهر أن معاداة غير اليهود لليهود هي صنيعة اليهود أنفسهم، وليس اليهودي صنيعة اللاسامي، بل إن صورة اليهودي القاتمة عبر الحضارات والمجتمعات المختلفة ليست سوى نتاجاً لفوقيته المزعومة.

ويبدو أن استبطان الدونية لدى اليهود في سياقاته التاريخية المختلفة، ولّد لديهم -تالياً لقناعتهم بأنهم العرق البشري الأوحد وما سواهم ليس كذلك- رغبة شديدة بالانتقام. ومرة أخرى لعبت الأيديولوجيا الدينية دوراً هاماً في هذا المحور أيضاً حيث قامت بترسيخ شريعة الانتقام داخل الوعي اليهودي، فأعطت الحق “لأي يهودي أن يقتل الأغيار” وجعلته واجباً عليه، فغير اليهودي عدو الرب وعدوهم ولا يجوز استعمال الرأفة معه، وقد نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية بتاريخ 21 نوفمبر 2000 تصريحاً لمجموعة من كبار حاخامات إسرائيل جاء فيه “إن واجبنا الديني يفرض علينا أن نقتلهم جميعاً بمن فيهم النساء والأطفال وجميع حيواناتهم إلى آخر قطة أو كلب لهم.” وقد أجاز التلمود لليهود خديعة الأغيار وغشهم؛ وطالبهم بعدم المبالغة في مدح “المسيحيين” أو وصفهم بالحسن إلا إذا قصدوا مدحهم مثلما يمدح الإنسان –اليهودي- الحيوان، كما أعطى الإنسان الحق في أن يكون مؤدبا مع الكافر ويدعي محبته كذباً إذا خاف أن يؤذيه.

ولعل ما جاء في المحاور الثلاثة الأولى يعتبر تمهيداً وتفسيراً، لكل ما يتلوه من محاور؛ إذ يبدو أن المشروع الصهيوني منذ بداياته كان يستشعر الفوقية التي رسختها الأيديولوجيا الدينية لدى العرق اليهودي، وينتفض إزاء دونية اليهود في مختلف أصقاع الأرض، داعياً إلى إقامة دولة قومية “لليهود” في فلسطين، مستلهمين من وصايا التلمود “لا تسرق مال القريب” معتبرين أن الأغيار ليسوا أقرباء وأن السرقة غير جائزة من الإنسان –اليهودي-، أما الأجنبي فسرقته جائزة وأمواله مباحة، ولليهودي الحق في وضع اليد عليها. 

لقد آمنت الحركة الصهيونية منذ نشأتها، وسعت إلى إقناع الكثيرين، بأحقية اليهود في فلسطين، وأنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وأنَّ الوجود العربي ليس سوى ظلال أضعف من أن تصمد أمام المد الصهيوني العنيد. وقد ورد أن كاتباً بولندياً عرض انطباعاته عن فلسطين على رئيسة وزراء الكيان الصهيوني غولدا مائير خلال اجتماعها بعدد من الكتاب عام 1970م، قائلاً: “العروس جميلة، ولكن لديها عريس”، لتجيبه مائير: “وأنا أشكر الله كل ليلة؛ لأنَّ العريس كان ضعيفاً، وكان ممكناً أخذ العروس منه.” بل إن رغبتها الأفقرأسية في الانتقام العابر لحدود الزمان والمكان ونظرتها التوسعية قد بلغتا أقصاهما حين وقفت على شاطئ خليج العقبة وقالت مقولتها الشهيرة: “إني أشم رائحة أجدادي في خيبر.” 

لقد كانت مائير مثالاً صارخا على نتاج التركيبة المعقدة لاجتماع الدونية والفوقية، وما صاحبها من خوف ورغبة في الانتقام، فقد كانت دائمة النظر إلى الأطفال الفلسطينيين باعتبارهم قنبلة بشرية موقوتة وبذرة لكلّ إرهابي محتمل ومصدراً لشقاء الشعب الإسرائيلي، فكانت تقول: “كل صباح أتمنى أن أصحو ولا أجد طفلاً فلسطينياً واحداً على قيد الحياة.” ويبدو أن طرح فانون حول أن المستعمِر رغم كونه “أقلياً” ليس صاحب إحساس بالدونية لا ينسجم مع الواقع الاستعماري المحلي، فالمستعمِر هنا ليس أقليا، وعدد سكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والداخل مساوٍ تقريبا لعدد السكان اليهود البالغ نحو 7 مليون نسمة وفق تقديرات 2023، إلا أن الكيان الصهيوني يستشعر “الدونية الديموغرافية”، ولطالما كانت هناك مساعٍ إسرائيلية لتغيير الواقع الديموغرافي -نابعة من خوف أن يلتهمهم المد الفلسطيني.

وبالانتقال إلى الطرف الآخر للصراع، نستحضر مجدداً رؤية فانون القائلة إن الأشكال الاستغلالية تتشابه، وكلها تبحث عما يجعلها ضرورية؛ الإنسان. ولكن يبدو أن عمومية الرؤية الفانونية، قد أغفلت خصوصية الحالة الفلسطينية التي تكمن في أن الاستعمار الصهيوني يريد تفريغ الفلسطينيين من أرضهم وإقصاءهم ليحل مكانهم، فهو ليس معنياً –كما يروج لذلك ظاهرياً بصفة عامة- بعمالة رخيصة أو أسواق جديدة ولا بعبيد “فلسطينيين” يرون أنفسهم أصحاب الأرض التي يرى فيها الإسرائيليون حقاً تاريخياً أصيلاً لهم، وما نراه من ارتكاز السوق الإسرائيلي على العمالة الفلسطينية يأتي في سياق استهداف هذه العمالة “النهارية” التي تأتي صباحاً إلى عملها وتعود بحكم القرب المكاني المحتم بين المستعمِر والمستعمَر إلى أماكن سكناها دون أن تشكل خطراً أو عبئاً اقتصاديا واجتماعيا على كيانية الدولة الصهيونية.     

يقول فانون: “إن مريضه يشكو من عقدة دونية، برغبة أن يكون أبيض، لأنه يعيش في مجتمع يجعل من عقدة نقصه أمراً ممكناً.” وأنه “سيحاول أن يجعل نفسه أبيضاً كي يرغم الأبيض على الاعتراف بإنسانيته.” وهنا يجب الوقوف عند هذه المقاربة محلياً؛ فالمستعمَر الفلسطيني وإن شكا من عقدة الدونية واستبطنها عبر الممارسات الاستعمارية المهينة، إلا أنها ليست نتاج رغبته في أن يكون أبيضاً -إسرائيلياً- بل قد تكون نمطاً من الدونية الذي يمني النفس بزواله دون زوال فلسطينيته. فالفلسطيني يستشعر قوة الكيان الصهيوني وسطوته، وجودة خدمات دولته الاستعمارية ومنتجاتها التي قد يفضلها على المنتجات الفلسطينية، ويمكن القول إنه يستبطن عقدة الدونية ويستشعر الخوف، ويطمح إلى أن يكون في وضع أفضل اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، ولكنه يرفض وبشكل مطلق أن يعيش في جلباب الاستعمار أو أن يتموه بقناعه “الأبيض”، فالفلسطيني يريد إيصال رسالة إلى العالم مفادها أنه يستحق الأفضل دون أن يغير جلده أو يتلون. 

والمقابل المناقض لهذه الحالة، هو عدم استشعار الفلسطينيين للدونية، وعدم انسياقهم خلف سياسات الذل العنصرية، فهم أصحاب نظرة فوقية يرون في أنفسهم حماة الأرض والحق، وأنهم أصحاب مشروع تحرري من استعمار يستعلي عليهم بقوة السلاح لا بتفوقه العرقي، فالفلسطيني وإن كان يستشعر الخوف بداخله من هذا المستعمِر الغاصب، إلا أنه يسعى لقتله وطرده من أرضه والانتقام من جرائمه بكل السبل، وينظر إليه على أنه يهودي قذر ولصّ مخادع. فالاستعمار الصهيوني لم يكن يوما رعاية ولا وصاية، بل احتلالاً واستيطاناً لأرض يعتقد أحقيته بها ولا يرى فيها أحداً غيره وإن كان وجود الآخر سابقا لوجوده.

وبإيجاز، يمكن القول إن الاستعمار الصهيوني ورغم استشعاره واستيحائه لدونية الفلسطيني الذي لا يعتبره موجوداً ويرى في أرضه فراغاً مستباحاً، فهو أيضاً يستشعر نفس الفوقية تجاه بقية الأعراق غير اليهودية، بل ويستوحيها من الأيديولوجيا الدينية التلمودية المتطرفة التي ترى أن بقية البشر حيوانات، فعنصرية اليهودي الأوروبي الأبيض -في دولة تنادي إلى إعلان نفسها دولة قومية لليهود رغم تعدد قومياتها- واضحة تجاه اليهودي العربي أو الأثيوبي أيضاً، فهو يراه أقل مرتبة ولازمة ديموغرافية وعمالة مستوردة بديلة للفلسطينيين الذين يرى فيهم كلا إرهابيا محتملا، يهدف إلى قتله سواء كان جنينا أو طفلا أو امرأة، ويسعى إلى عزله وحصاره وتطويقه بكل السبل، وما نشهده من عدوان على غزة يشكل تجسيدا واضحا لهذا التوجه.

ونستنتج أن الصراع الاسرائيلي الفلسطيني لا يتمثل في استشعار عقدة الفوقية أو الدونية لدى طرف واحد، بل إن الحبكة والعقدة تكمن في استشعار العقدتين معا لدى كل طرف. فالإسرائيلي الذي يسعى لتثبيت فوقيته وينظر إلى الفلسطيني على أنه مسخ أو حيوان، يخشى في نفس الوقت أن يقتله الفلسطيني. أما الفلسطيني فمهما بلغ استبطانه للدونية إلا أنه قد بلغ مبلغاً يدفعه إلى جعل الأبيض مرغماً على الاعتراف بحقه الإنساني كفلسطيني دون أن يتنازل عن فلسطينيته أو أن يتماهى مع غيره. ذلك في مسعى منه لقلب جدلية ثنائية الجلاد والضحية، بين المستعمِر والمستعمَر جاعلاً من ثنائيات الصراع أزواجاً متقابلة؛ فوقية في وجه فوقية وخوفاً مقابل خوف وانتقاماً ضد انتقام ودونية مقابل دونية. وإذا ما كان مصير العصابي رهن يديه فعلاً، على حد تعبير شارل أودييه، فيبدو أن الحقيقة التي يطالبنا فانون أن نتجرأ على إعلانها والمتمثلة في أن “العرقي هو الذي يصنع الدوني” تكون صحيحة فقط إذا ما اقتنع المستعمَر باستبطان الدونية، والدليل هو ما يمثل أمامنا على الأرض في كل يوم يرفض فيه الفلسطينيون أن يذعنوا لقهر الفلسفة الاستعمارية.

الكاتب: سليم أبو ظاهر

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع