عن المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر في بيروت، صدرت دراسة تنظيريّة- تطبيقيّة، تقع في 326 صفحة، لروَند سليمان بركة، والّتي تتناول مصطلح "التّكثيف" في الأدب وحُضوره في النّصوص الشّعريّة خاصّة منذ زمَن الجاهليّة وحتّى يومنا هذا، وتُبيِّنُ الفرْقَ بينه وبين مصطلحات أدبيّة أخرى لإزالة لثام الغموض والبلْبلةِ والتّشابُك عنه، كما توضّح علاقة "التّكثيف" بثلاثة مصطلحات هي: الإيجاز، والإطناب والمساواة. إضافة إلى أنّ الدّراسة تُظهِر أهمّيّة "التّكثيف" وعلاقته بالمعنى المُرادِ به في النّصّ.
فـ"التّكثيف"، كما جاء في تصدير الدّراسة هو مصطلح مشترك لشتّى المناحي الحياتيّة، ويُرجّح أنّه بدأ من مجال علم النّفس، ثمّ استُعمل في مجالات أخرى فعُرّف وفقًا لاستعماله في كلّ مجال.
وفي استعمال المصطلح أدبيًّا يُلاحَظُ خلْطه بمصطلحات أخرى، واستخدامه في مواضع متناقضة أحيانًا، ممّا يشير إلى عدم وضوحه بشكل كافٍ، فيحدّ، في بعض الأحيان، من القدرة على تناوله بشكل صحيح في موضعه الملائم. إضافة إلى أنّه مصطلح يظهر في الدّراسات المختلفة ويُذكَر، غالبًا، بشكل عابر وكأنّه مفهوم ضمنيًّا، وضمن ميّزات أجناس أدبيّة معيّنة، رغم عدم وضوح المقصود من إيراده أحيانًا.
وقد اختارت الباحثة فحْص مصطلح "التّكثيف" وانعكاسه في النّصوص الشّعريّة تحديدًا لأنّه النّوع الأدبيّ العربيّ الأقدم ممّا وصلنا من موروث أدبيّ، كما أنّه قطع شوطًا كبيرًا في تطوّره عبر الأزمنة.
يطّلع القارئ في المقدّمة على "التّكثيف" وحضوره في الدّراسات الأدبيّة السّابقة المختلفة، وعلى توضيح معناه المعجميّ والقاموسيّ، كمرتَكزٍ لبناء قالبٍ نظريّ تستخدمه الباحثة لتوضيح المصطلح وتعْريفه وفهْمِه عبْرَ جعْله أمرًا مَلْموسًا، بالإمكانِ قياس نسْبَتِهِ عن طريق اقتراح مُعادَلةٍ حسابيّة، حاولت الباحثة تطويرها ممّا سبَق، والعمل على تعديلها، رغم تحفّظها من استخدام الأرقام في الأدب، الّذي يصعب حصره في إطار المعادلات الرّقميّة.
لكنّ هذه المعادلة الحسابيّة ضروريّة كي ترصد آليّات "التّكثيف"، وبالتّالي تَفْتَحُ المجالَ لمقارنةِ القصائد مِنْ فترات زمنيّة مختلفة، بهدف معرفة العوامل الّتي تؤثّر على "التّكثيفِ" ونسبته في النّصوص المعيّنة فيما يرتبط بالقارئ وقراءته الشّخصيّة.
ولهذا الغرَض، تُحدِّد الباحثة آليّات مستَخْدَمَة أكثر من غيرها في النّصوص الشّعريّة، والّتي من شأنها تحفيز ذِهْنَ القارئ، وهي كَمّيّة بالأساسِ، ويعتمِد عليها النّصّ ليكونَ "مُكثَّفًا". ثمّ تَرْصُد هذه الآليّات في النّصوص الشّعريّة قيْدَ البحْثِ، لِتُطَبِّقَ بعدها المعادلةَ المُقترَحَةَ وتَحْسِب نسبة "التّكثيفِ" لكلّ نصّ على حِدة.
تعتمِدُ منهجيّةُ الدّراسةِ على النّصّ الشّعريّ فقط، دون التّطرّق إلى أيّة عوامل خارجيّة، باعتبار النّصّ مُلْكًا للقارئ وقراءته الذّاتيّة، الّتي تتضمّن ثقافته، وبيئته، ومعتقداته، وذائقته.
وهكذا فإنّ حضور "التّكثيف" يفرض عمليّة تبادل للأدوار بين القارئ والشّاعر مؤلّف القصيدة، بحيث يعمل الأوّل على ملء الفجوات الّتي تركها له الثّاني، متحدّيًا ثقافته وفكره الذّاتيّ للتّوصّل إلى الدّلالات الكامنة بين الكلمات.
مِمّا تقدّم، فإنّ نظريّة البحْث تعمل على قياس نسْبَةِ "التّكثيف" النّصّيَ وفْقَ القراءة الذّاتيّة للقارئ، وهذا يعني أنّ النّاتج يتفاوتُ بين قارئ وآخَر بِحسَبِ التّداعيات الّتي راودتْهُ أثناء القراءة، وبِحسَبِ تأويل المعاني المترابطة للنّصّ بشكل منطقيّ.
ينتقل البحْث بعدها إلى فصلين نظريّين يمهّدان للفصل التّطبيقيّ؛ الفصل النّظريّ الأوّل- يوضّح العلاقة بين "التّكثيف" والمعنى الخفيّ، وبين "التّكثيف" والمعنى الصّريح. ثمّ يعرض آليّات "التّكثيف" المقترحة ويًعرّفها سعيًا لتوضيح خطوط التّقاطع مع المصطلح المدروس.
الآليّات المطروحة الّتي أحْصَتْها الباحثة، هي: الأضداد والثّنائيّات، التّناصّ، الرّمزيّة، الحذْف، أساليب لغويّة فنّيّة تشمل: الكناية، والتّشبيه، والاستعارة، والتّشخيص، والمجاز المرسَل، توظيف العنوان، توظيف الشّكل الطّباعيّ، والتّركيب النّحويّ للجمل.
وخلال ذلك، تمّ التّطرّق إلى مصطلحي الفصاحة والبلاغة وفحْص ملاءمتهما، ضمن تعريفهما القديم، عند دراسة نصوص حديثة من عصرنا الحاليّ.
كذلك، تمّ الّتوضيح بإنّ النّصّ في الواقع قد يكون أكثر تكثيفًا ممّا يبدو عليه في الحقيقة بسبب عوامل يصعب قياسها، كالمعاني العاطفيّة المرتبطة بعوامل بيئيّة وفكريّة مختلفة.
أمّا الفصل النّظريّ الثّاني- فيعرِض تطوّر الشّعر العربيّ على مرّ العصور، ليعكِس روح كلّ فترة، والمواضيع الّتي شاعت في القصائد، والأنواع الشّعريّة، والظّروف المحيطة الّتي مهّدت للتّغيّرات بجوانبها المختلفة.
وتشير الدّراسة إلى أنّه بلا شكّ تختلف النّصوص من شاعر إلى آخر، ولكنّ روح الفترة والشّعر في نقطة زمنيّة ما في الغالب متلائمة، من حيث أسلوب الكتابة والشّكل، وانحسار الأغراض الشّعريّة أو اتّساعها.
كذلك فإنّ اختيار الشّعراء كان بناءً على اتّفاق كثير من الباحثين حول كونهم مِنْ خيرة شعراء عصرهم، كما أنّ التّقسيم بين الشّعر القديم والشّعر الحديث لا يعني وجود فاصل حقيقيّ بين الفترات، بل تُدرك الباحثة بأنّ تلك الفترات كانت متداخلة.
يعرضُ هذا الفصل أسماء الشّعراء مع نبذة عن حياتهم وقصائدهم المختارة، كأمثلة لوصل هذه المعلومات مع المعلومات الّتي سبق ذكرها عن تطوّر الشّعر.
نقف عند الشّعراء القدامى: امرئ القيس، وحسّان بن ثابت، وجرير، وسمنون المُحِبّ، والمُتنبّي، وشَرف الدّين الأنصاريّ، ولسان الدّين بن الخطيب.
أمّا الشّعراء المُحدثين هم: ناصيف اليازجي، ومحمود سامي البارودي، وأحمد شوقي، وخليل مطران، وميخائيل نُعيْمة، وأمين نخلة، وسعيد عقل، ونازك الملائكة، وأدونيس، وصلاح عبد الصّبور، وعبد القادر الجنابي، وإيمان مرسال، وسِنان أنطون.
بعد التّمهيد النّظريّ، نجدُنا عند الفصل الثّالث - الأساسيّ التّطبيقيّ، الّذي تقوم فيه الباحثة باختبار المعادَلة المقترَحة وتطبيقها على النّصوص المختارة، وتضعُ القصائد وفق ترتيب زمنيّ تصاعديّ يعتمد على سنة ولادة الشّاعر.
وتعمل منهجيّة هذا الفصل على عرْض معلومات عن القصيدة، كعنوان الدّيوان الّذي اندرجَت فيه، وعدد كلماتها، وأبياتها أو أسطُرها، ثمّ تنتقل إلى إدراج كلّ آليّات "التّكثيف" الّتي تمّ رصدها في القصائد بِحسبِ ترتيب الآليّات في الفصول النّظريّة، ووفقًا لترتيبها المكانيّ في القصائد.
وقد ضمّت الدّراسة القصائد كاملة في مَلاحق الكتاب، مع وجود رَوابط تُتيح إمكانيّة التّنقّل مِنَ التّحليل في القسم التّطبيقيّ إلى النّصوص الشّعريّة في المَلاحق، ويمكن الانتقال بالعكس، عند الضّغط على أسماء الشّعراء في النّسخة الإلكترونيّة للبحث، بهدفِ تسهيل متابعة الأبيات على القارئ.
إضافة إلى أنّ الكتاب أوْردَ الأبيات الشّعريّة كاملة في القصائد الطّويلة، واكتفى بتعابير وأجزاء من الأبيات أو الأسطر في القصائد الأخرى. كما أشار إلى الصّفحات الّتي وردت فيها كلّ قصيدة في الملاحق.
قسم من القصائد، في المَلاحق، هي قصائد من نفس ديوان قصيدة مختارة معيّنة، تحمل اسم الدّيوان، وقد تمّ إدراجها بهدف إيجاد الرّابط بينها وبين القصيدة المدروسة، من نفس الدّيوان، كما يظهر ذلك ضمن فرع تحليل العنوان.

تقوم الباحثة بعد أن استخرجت جميع الآليّات المرصودة في النّصّ باحتساب نسبة "التّكثيف" وفقًا للمعادلة المقترحة في مقدّمة الدّراسة، بالاعتماد على عدد من الآليّات المرصودة، بحيث تمّت إضافة نقطة "تكثيفيّة" لكلّ آليّة خدَمت المعنى، وتمّ إنقاص نقطة "تكثيفيّة" من كلّ آليّة لَم تَخدمه، بالاستناد إلى المعلومات الواردة عن القصيدة في التّحليل.
بعد هذه العمليّة، يتمّ تقسيم عدد كلمات النّصّ على النّقاط الكلّيّة النّاتجة للحصول على نسبة "التّكثيف" النّصّيّة. وكلّما كان الرّقم أقلّ، كان التّكثيف أكبر.
فيما يلي المعادلة المعتمدة الّتي توصّلت إليها الباحثة:
بعد عرض النّظريّة والمعادلة الحسابيّة، يتمّ توضيح بعض المصطلحات وعلاقتها بالتّكثيف: الإيجاز، الإطناب والمساواة.
في نهاية الدّراسة، تُقارِنُ الباحثة بيْنَ النّصوص المدْروسة في عدّة محاور، هي: تقدُّم الزّمَن، طُول النّصّ المتمثّل بعدد الكلمات، الالتزام بالقافية مقابِل التّحرُّر منها، تَعدُّد المواضيع مقابِل أحاديّة الموضوع، وعلاقة مضمون القصيدة بمدى "التّكثيف" فيها.
إنّ الوقوف عند هذه المحاور، آنِفة الذّكْر، وتحليلها في النّصوصِ من شأنها أن تساعد على فهْم العوامل الّتي "تُكثِّفَ" النّصّ، وتؤثّر على نسبة هذا "التّكثيف". وتجدر الإشارة إلى أنّ الباحثة تستعينُ برسوم بيانيّة، حيث أمْكَنَ ذلك، بغيةَ توضيح الأفكار والنّتائج.
مع الإشارة المهمّة إلى أنّ النّتائج تختلف باختلاف القارئ والآليّات الّتي يرصدها، لكنّ النّتائج، بحسب فرضيّة البحْث، وإن اختلفت رقميًّا، فلن تختلف كثيرًا عند الوصول إلى مرحلة المقارنة بين النّصوص المختلفة.
نورد هنا أهمّ النّتائج الّتي توصّلت إليها الدّراسة؛ عند بحث العنصر الزّمنيّ، وإن كان ليس بشكل مطلق، فإنّ هناك علاقة بين موضع القصيدة زمنيًّا وبين نسبة "التّكثيف" النّصّيّة. فكلّما كانت القصيدة أحْدث، مالت إلى "التّكثيف" أكثر.
وعند فحص العلاقة بين طول النّصّ ونسبة التّكثيف، يكون النّصّ "مكثّفًا" أكثر، عندما تقلّ الكلمات فيه ويكون أقصر. وميْل النّصوص الأحدث، عامّة، إلى القِصر أكثر من الشّعر القديم.
أمّا في فحص تأثير القافية على "التّكثيف"، فقد تمّ تقسيم القصائد المدروسة إلى ثلاث مجموعات؛ المجموعة الأولى- حافظت على قافية ثابتة في جميع أبياتها، والمجموعة الثّانية- تحرّرت بشكل جزئيّ، بينما المجموعة الثّالثة- تحرّرت بشكل كامل منها. والنّتيجة كانت أنّه كلّما مالت القصائد نحو التّحرّر من القافية الثّابتة أكثر، ازدادت، عامّة، احتماليّة أن تكون أكثر "تكثيفًا".
وفي فحص نسب التّكثيف في القصائد متعدّدة المواضيع ومقارنتها بالقصائد أحاديّة الموضوع، فإنّ القصيدة الّتي طرحت موضوعًا واحدًا، مالت نحو "التّكثيف" أكثر.
بعد ذلك، تمّ فحص معيار أخير، عبر التّساؤل حول قصيدة سمنون المحبّ، الّتي تُعتبر من أقدم القصائد المدروسة، ومع ذلك كانت ضمن القصائد الأكثر "تكثيفًا"، من حيث النّتائج. والخلاصة تفيد بأنّ تحرّر القصائد من الأغراض الشّعريّة المألوفة، ضمن أطر محدّدة، يجعل القصيدة تميل نحو "التّكثيف" بشكل أكبر.
في ختام الدّراسة، ننكشِفُ على الاستنتاجات الّتي ترتبط بنسب "التّكثيف" عند مقارنة معطيات القصائد، وبعلاقة "التّكثيف" بجودة النّصّ الشّعريّ.
ومن أهمّ الاستنتاجات؛ أنّه عند اجتماع المعايير المذكورة معًا، يكون احتمال أن يكون النّصّ "مكثّفًا" أكثر من غيره، أكبر بكثير مِنْ لو كانت القصيدة تُحقِّق معيارًا واحدًا فقط. وكلّما ازدادت نسب المعايير، المذكورة، داخل القصيدة، يُتوقّع أن تقود النّصّ نحو "التّكثيف" بشكل أكبر.
هذا الاستنتاج نابع من نتيجة فحص قصيدة الجنابيّ، فهي من أكثر القصائد حداثة بين القصائد المدروسة، وهي الأقصر، ومتحرّرة من القافية، ومتشبّثة بموضوع واحد فقط، وبالتّالي فإنّها الأكثر "تكثيفًا".
ولا يُعبّر "التّكثيف" عن جودة النّصّ معيّن أو قلّة جودته، فهو عائد إلى عوامل عديدة تُحدّد نسبته، واستساغة "التّكثيف" مرتبطة بذائقة القارئ وما يُفضِّله. فلا شكّ أنّه كلّما ازدادت آليّات "التّكثيف" الّتي يعمد إليها النّصّ ليرسم خطوط المعنى، وكلّما ازداد "التّكثيف" نسبةً في النّصّ الشّعريّ، أوكل للمتلقّي مفاتيح المعنى بشكل أكبر، جاعلًا إيّاه شريكًا ذهنيًّا في تشكيل الطّبقات المعنويّة، ليخلق بذلك نصًّا ذاتيًّا مختلفًا لكلّ قارئ للنّصّ ذاته.
