الحصار المر

مخيم اليرموك تحت حصار نطام الأسد، معدلة.

سمير الزبن

كاتب من فلسطين

مع استمرار القصف بالبراميل المتفجِّرة، دُفِنَت عائلاتٌ وأشخاصٌ تحت الأنقاض ولم يستطع أحدٌ أن يفعل شيئًا لهم، هناك من بقيَّ حيًّا تحت الأنقاض وسمع الآخرون أصواتهم مثل وجيه، وهناك من ماتوا فورًا،

للكاتب/ة

ولم يسمع أحدٌ لهم أيَّ صوتٍ. في كلِّ الحالات كان الركام قبرهم، ولم يستطع أحد أن يدفنهم بطريقةٍ لائقةٍ بعد موتهم. بعد أن دفنت الأنقاض وجيه، لم أعد أفكِّر بالأخرس، صحيحٌ أنِّي بقيت أنظر في المرآة وأقارن نحولي، بجسد الأخرس الذي مات من الجوع.

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

04/11/2025

تصوير: اسماء الغول

سمير الزبن

كاتب من فلسطين

سمير الزبن

اختفى الموت الطبيعيُّ من المخيَّم. عندما تجاوز عدد الذين ماتوا من الجوع المئة، كان الطعام قد اختفى منذ أشهرٍ، وأصبحنا نحن المحاصرين، نرى الطعام في كلِّ شيءٍ، حتَّى صرنا نرى الشمس رغيفًا من الخبز. كلُّ يومٍ وعدٌ جديدٌ بدخول المساعدات، مرَّة المساعدات قادمةٌ من حاجز البطيخة، ننتظر، لا يصل شيءٌ سوى القنص. مرَّةً المساعدات قادمةٌ من حاجز الكابلات في السبينة، ننتظر، لا يصل شيءٌ سوى القذائف. مرَّةً المساعدات قادمةٌ من حاجزٍ على الوحش في ببيلا، ننتظر، لا تصل سوى البراميل المتفجِّرة. لم نعد نصدِّق الوعود، وليس أمامنا خيارًا سوى المزيد من انتظار الوعود الكاذبة، لعلَّها تكون مرَّةً وعدًا صادقًا. ناشدت الأمم المتحدة السلطات السوريَّة من أجل دخول المساعدات، لأنَّنا مهدَّدين بالموت جوعًا، وكذلك فعلت الكثير من الدول، ومع كلِّ مناشدةٍ يرتفع أملنا، ومع كلِّ وعدٍ يخبو الأمل. لذلك عندما دخلت أوَّل دفعة مساعدةٍ بعد سبعة أشهرٍ لم نصدِّق ما نرى، وكنَّا قد نسينا شكل الطعام، مع أنَّنا نهجس فيه كلَّ لحظةٍ، تُذكِّرنا أمعاؤنا أنَّنا جياعٌ دائمًا. لم نشبع مع المساعدات التي دخلت المخيَّم، صحيحٌ توقَّف الموت جوعًا، أمَّا الجوع نفسه فإنه سيرافقني بقيَّة حياتي.

مع اشتداد الجوع، لم أعد قادرًا على الهرب من القذائف، التي انتظمت منذ حصار المخيَّم في وجباتٍ من قذائف الهاون تأتي من ثكنة سفيان الثوريِّ ومن قرب مخفر شرطة القدم. كانت تأتي ثلاث وجباتٍ يوميًّا من قذائف الهاون من المكانيين على نحوٍ دائمٍ، وجبة الفطور في الصباح، ووجبة الغداء في الظهيرة، ووجبة العشاء في المساء، في كلِّ وجبةٍ تسقط خلالها عشرات قذائف الهاون المتفرِّقة على المخيَّم. هذه الوجبات الثابتة، أحيانًا يضاف إليها قصفٌ من أماكن أخرى، أظنُّ أنَّها كانت تأتي من فروع المخابرات في القزَّاز عند المتحلِّق الجنوبي، ما يجعل الوجبة أكثر دسامةً عندما يكون فيها بعض الصواريخ. ولا يقتصر القصف على الوجبات الثلاث، بل هناك قصفٌ من نوعٍ آخر، صواريخ بأنواعها، كاتيوشا وصواريخ فيل والبراميل المتفجِّرة وغيرها من أشياء تنفجر في المخيَّم لا أعرف ما هي. أُلقِيَت البراميل التي تحتوي عشرات الكيلوغرامات من المواد المتفجِّرة على المخيَّم بين الحين والآخر لتذكيرنا، بأنَّ القذائف قادرةٌ على فعل أيِّ شيءٍ في المخيَّم، والبراميل المتفجِّرة سلاحٌ مرعبٌ لا أعرف أيَّ مجرمٍ اخترعه، لأنَّه أينما سقط في المخيَّم، كنت أشعر أنَّه سقط فوق بيتنا من قوَّة الانفجار. خبرت رعب البراميل المتفجِّرة عن قربٍ، عندما ألقت طائرة الهليكوبتر البرميل المتفجِّر على بعد أربع بناياتٍ من بيتنا، شعرت أنَّ الانفجار اقتلع البيت بطوابقه الأربعة واقتلعني وألقاني في مكانٍ آخر. ملأ الغبار المكان على بعد عشرات الأمتار، صُمَّت أذني وخنقني الغبار، تفقَّدت جسدي، وجدته سليمًا، ضربت وجهي لأرى أنِّي صاحٍ ولا أعيش كابوسًا. عندما هدأ الغبار قليلًا واستعدت سمعي، خرجت من البيت أتفقَّد المكان الذي وقع فيه البرميل. الجميع يصرخ، وجارنا العجوز أبو العبد، يقول: «أنا شفتُه، فات على البيت قبل شوي من سقوط البرميل» قلت: «عمي أبو العبد، مين شفت فايت على البيت؟» قال: «مين يعني؟ وجيه» عندما نطق الاسم التفت إلى البناية التي يسكنها وجيه والبناية التي وراءها، وقد حوَّلهما البرميل الذي انفجر فوقهما إلى ركامٍ. فجأةً، شعرت بالشلل، لأنَّه إذا كان وجيه في الداخل، فهو في مركز الأنقاض التي خلَّفها البرميل.

إعلان

ظنَّ وجيه أنَّه يملك أكثر مكانٍ آمنٍ في المخيَّم، في صدر مدخل بيتهم غرفةٌ خلف المحلات التجاريَّة التي فتحوها في بنايتهم، تستند هذه الغرفة على البناية التي خلفها، لا يوصل شيءٌ إليها سوى مدخل البناية، وكانوا يستخدمون هذه الغرفة كمخزنٍ، ظنَّ وجيه أنَّه سيكون في هذه الغرفة آمنًا من القذائف والصواريخ، وفي حال سقوط قذيفةٍ أو صاروخٍ، لن يشكِّل خطرًا عليه، فهو محميٌّ من كلِّ الاتجاهات بما لا يقلُّ عن خمس إلى ستِّ جدرانٍ، والمدخل هو المكان الأضعف، ولكن من الصعب أن تسقط عليه قذيفةٌ أو صاروخٌ مباشرةٌ، لأنَّ ضيق الشارع يمنع الصاروخ أو القذيفة من إصابته مباشرةً. نظَّف وجيه الغرفة وأعاد تأثيثها لتصلح للسكن، واستقرَّ في غرفته المنيعة التي أحسَّ فيها بالأمان. وجيه مثلي، خرجت عائلته وأهله وإخوته الذين يسكنون في بنايةٍ واحدةٍ مثلنا، وبقي هو ليحرس المكان. وعندما سألته مرَّةً مازحًا: «شو بتعمل يا وجيه، إذا وقع صاروخ، وهدم الدرج، وسكر عليك الباب» ضحك وهزَّ رأسه، كأنَّه يتوقَّع هذا السؤال، وينتظر من أحدٍ أن يسأله، قال: «لا تخاف عليّ، أنا مجهِّز حالي. أنا حاطط مطرقة كبيرة بالغرفة، إذا صار زي ما بتحكي، بهدم الحيط وبطلع من البناية الثانية اللي ورانا»، تذكَّرت كلام وجيه وأنا أنظر إلى البنايتين وما حولهما وقد حوَّل البرميل المتفجِّر كلَّ المنطقة إلى ركامٍ وحطَّم كلَّ الاتجاهات التي يمكن أن يخرج وجيه منها، لقد حسب حساب الاحتمالات كافَّةً، لكنَّه لم يحسب حساب البرميل الذي سقط عليه. اتخذ الاحتياطات ليتجنُّب أذى القذائف والصواريخ وكانت احتياطاته معقولةً، لكنَّها جعلت موته أصعب، ولم يقتله البرميل مباشرةً. بعد أن هدأ كلُّ شيءٍ، جاء صوتٌ ضعيفٌ من وسط الركام، صوت صراخٍ بعيدٍ. صمت الحاضرون، وأنصتوا للصوت القادم من تحت الأنقاض، كان صوت إنسانٍ. صوت وجيه القادم من تحت الأنقاض أصاب الحاضرين بالرعب، من الطريقة التي سيموت بها الرجل، لم يكن باستطاعة أحدٍ منَّا فعل شيءٍ، لم تكن هناك معدَّاتٌ لرفع الأنقاض، ولا يمكن رفع هذه الأنقاض بالعمل اليدويِّ. أصاب الرعب الموجودين واستسلموا لمصير الرجل. في الأيام التالية، باتت حياة وجيه وموته هاجسي، ومزار للفضوليِّين. كنت أشاهد الركام الذي أحدثه البرميل فوق وجيه من برندة بيتي، وأشاهد بين الحين والآخر رجلًا أو امرأةً يمرُّون من المكان بالقرب من الركام، يقفون من دون حراكٍ للحظات، يصغون ليتأكَّدوا هل ما زال وجيه يصرخ؟! قضيت وقتًا طويلًا أراقب المارَّة وهم يفعلون ذلك، وأتساءل لماذا يفعلون ذلك، هل ليتأكَّدوا أنَّه مات وارتاح، أو لعلَّ معجزةً تحصل ويخرج من تحت الأنقاض؟! رغم تساؤلاتي الغبيَّة، كنت أفعل ما يفعلون، كلَّ يومٍ أتفقَّد صوت وجيه مرَّاتٍ عدَّةً، حتَّى بعد أن اختفى صوته نهائيًّا بعد ثلاثة أيَّامٍ من سقوط البرميل، وبقيت طيلة المدَّة التي قضيتها في الحصار، أتفقَّد صوته كلَّما مرّرت بأنقاض بيته. أقف هناك من دون حراكٍ وأصغي لعلِّي أسمع صراخه يأتي من عمق الركام. لم أفعل ذلك وحدي، كلُّ الذين شاهدتهم من برندة منزلي مرُّوا من المكان، وفعلوا ما فعلت، يقفون وينصتون لعلَّهم يسمعون صوته، وهذا ما أصبح عادة المارِّين بالمكان.

إعلان

مع استمرار القصف بالبراميل المتفجِّرة، دُفِنَت عائلاتٌ وأشخاصٌ تحت الأنقاض ولم يستطع أحدٌ أن يفعل شيئًا لهم، هناك من بقيَّ حيًّا تحت الأنقاض وسمع الآخرون أصواتهم مثل وجيه، وهناك من ماتوا فورًا، ولم يسمع أحدٌ لهم أيَّ صوتٍ. في كلِّ الحالات كان الركام قبرهم، ولم يستطع أحد أن يدفنهم بطريقةٍ لائقةٍ بعد موتهم. بعد أن دفنت الأنقاض وجيه، لم أعد أفكِّر بالأخرس، صحيحٌ أنِّي بقيت أنظر في المرآة وأقارن نحولي، بجسد الأخرس الذي مات من الجوع. بعد حادثة وجيه أصبحت مرعوبًا أكثر من أن أقضي تحت الأنقاض، وأُحاصر من الجهات جميعها وأموت ببطءٍ من الجوع والعطش والعتمة. وأخذت أبحث عن أنسب مكانٍ أنام فيه، يكون من السهل الوصول إليَّ إذا تكرَّر معي ما حصل مع وجيه. فكَّرت في النوم في حديقة المدرسة، كان ذلك مستحيلًا بسبب برد الشتاء. وبعد تفكيرٍ قرَّرت النوم في الغرفة التي على سطح البناية، رغم أنَّها باردةٌ، لكنَّها تبقى أفضل من النوم في العراء، إذا تحطَّم البناء أبقى على سطح الركام حيًّا أو ميِّتًا، وكأنَّ البرميل المتفجِّر لن يمزِّق جسدي بفعل انفجاره! ما كنت أخاف منه هو الموت البطيء تحت الأنقاض، وإمَّا أن يتمزَّق جسدي وأموت فورًا، شعرت أنَّ هذا الخيار أقلُّ سوءًا. 

 

مقطع من رواية "صوت السماء ـ حكايات عن الحرب والحب" الصادرة حديثاً عن دار لاماسو ـ السويد.

الكاتب: سمير الزبن

هوامش

موضوعات

للكاتب/ة

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع