Author Name

مجلة ثقافية فلسطينية

للكاتب/ة

وتصبح الأسئلة البديلة؛ هل يمكن الخروج من عباءة الغرب؟ هل يمكن تفكيك الغرب من داخله؟ وكيف ننتقل من تفكيك الاستعمار إلى تجاوز النموذج الذي أنتجه؟ كيف نحيا خارج شروط الخصم؟ في نظر حلاق، هذا شبه مستحيل إن لم يصحبه وعي أخلاقي جذري، يتبنى منظومة قيم بديلة حقًا.

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

06/05/2025

تصوير: اسماء الغول

هزار حسين

مجلة ثقافية فلسطينية

هزار حسين

حين يُذكر الاستعمار بوصفه خطابًا، لا واقعةً تاريخيةً فقط، يتقدم اسم إدوارد سعيد في طليعة من فضحوا بنيته الثقافية والمعرفية، وعرّوا علاقة الهيمنة المتجذّرة في تمثيلات "الشرق"؛ إذ فتح أفقًا جديدًا لفهم كيف تتحالف المعرفة مع السلطة، وكيف يُعاد تشكيل الآخر في خدمة المشروع الإمبراطوري. ولا يمكن الحديث عن الاستشراق دون الاعتراف باللحظة الفارقة التي مثّلها في تاريخ الفكر النقدي. كما أسهم في إظهار كيف أن الأوروبيين لم يدرسوا "الشرق" ليفهموه، بل ليُخضعوه، ويُعيدوا تشكيله بما يخدم خطابهم. وليس من قبيل المصادفة أن ينبثق مشروع "الاستشراق" من قلم رجل منفيّ، مشرّد بين جغرافيا اللجوء وخرائط الاغتراب الرمزي.

لم يكن سعيد باحثًا عن الحقيقة الأكاديمية في أرشيف الاستشراق، بل ثائرًا على الطريقة التي يُصنع بها "الآخر". كان يدرك، بحسّه الفلسطيني، أن هذا الخطاب لم يكن بريئًا، بل كان –على الدوام– مُعبّأً بالرغبة في السيطرة، بالحاجة إلى تبرير الاستعمار، وبنزعة التفوق الثقافي التي تتلطى وراء أقنعة "العلم" و"الفضول المعرفي". ومع كل هذا التأثير الهائل، لم يكن فكر سعيد بمنأى عن النقد.

ولعلّ من أعمق هذه القراءات النقدية ما قدّمه المفكر وائل حلاق، الذي رأى في مشروع سعيد، على الرغم من رديكاليته الظاهرة، امتدادًا للحداثة الليبرالية الغربية، بل ومؤسسًا لنموذج معرفي يستبطن أدوات الاستعمار ذاته، وإن زعم معارضته. فسعيد لم يكن مفكرًا من الهامش، بل من المركز ذاته، وابنًا للحداثة الغربية؛ درس في جامعاتها، وتشكل فكره من خلال أدواتها. ولعل هذا ما أتاح له التأثير في قلب الخطاب الغربي، وجعل من كتابه تأسيسًا حقيقيًا لحقل الدراسات ما بعد الكولونيالية. لكنه –في الآن ذاته– ظل وفيًّا لحسّ عميق بالانتماء لقضايا الشعوب المقهورة، وفي مقدمتها فلسطين، التي بقيت جوهر قضيته السياسية والأخلاقية.

مفكران مثل إدوارد سعيد ووائل حلاق، أحدهما فضح البنية الاستشراقية، والآخر فضح حدود النقد الليبرالي نفسه، فكيف نتعامل مع مشاكلنا الظرفية اليوم -في ظل الاستعمار، الانقسام، الفقر، الهيمنة المعرفية- من دون أن نقع إما في تكرار أدوات المستعمِر، أو في العجز الرومانسي عن الفعل؟

وائل حلاق: تفكيك التفكيك

في أعماله الكبرى مثل قصور الاستشراق والدولة المستحيلة والإصلاح الإسلامي، لا يكتفي وائل حلاق بنقد الاستشراق، بل يذهب أبعد من ذلك نحو مساءلة الأسس الأخلاقية والمعرفية التي يقوم عليها الفكر الغربي نفسه، بما فيه النقدي منه. وهنا يأتي نقده الجذري لإدوارد سعيد. فيعتبر حلاق أن سعيد، على الرغم من نزعته النقدية، ظل محكومًا بالبنية الليبرالية الغربية، لا يتجاوزها. فهو لم يرفض المنظومة، بل اكتفى بتفكيك بعض تمثيلاتها، مستخدمًا الأدوات المعرفية الغربية نفسها، دون أن يقترح بدائل تتجاوز الحداثة إلى منظومات أخرى –دينية أو حضارية– قادرة على تقديم تصور أخلاقي مغاير. كما يرى حلاق أن سعيد اختزل الإسلام إلى ثقافة، دون أن يلتفت إلى كونه نظامًا أخلاقيًا ومعرفيًا متكاملًا. وبذلك، أعاد إنتاج الاستشراق بصيغة "نقدية"، بقيت على الرغم من كل شيء، أسيرة مرجعية المركز الأوروبي. يقول حلاق في هذا السياق: "لقد سعى إدوارد سعيد إلى تحدي الاستشراق، لكنه لم يتحدَّ الفلسفة السياسية الليبرالية التي أنتجته. (قصور الاستشراق، المركز العربي. 87، 2006).

فلسطين مفترق الرؤية

تتجلى الفروقات بين الطرحين بشكل جليّ في النظر إلى القضية الفلسطينية. بالنسبة لسعيد، فلسطين هي ضحية استعمار استيطاني يجب مقاومته بالخطاب الحقوقي والسياسي، والضغط عبر أدوات القانون الدولي، مع بناء دولة فلسطينية حديثة. أما عند حلاق، فالمسألة أعمق: فالدولة الحديثة –بما فيها الفلسطينية– لا تمثّل تحررًا حقيقيًا، لأنها تنتمي إلى النموذج الليبرالي نفسه الذي أنتج الاستعمار. النضال إذًا، لا يقتصر على إنهاء الاحتلال، بل على تجاوز النظام الأخلاقي والسياسي الغربي الذي يشرعن العنف والهيمنة باسم السيادة والقانون. يقول حلاق في الدولة المستحيلة: "الدولة الحديثة غير قادرة على إنتاج العدالة، لأنها ولدت من رحم العنف، وتستند إلى بنية قانونية علمانية لا تستوعب الأخلاق في جوهرها". (الدولة المستحيلة، ص. 142، 2014).

التعليم بوصفه أداة استعمارية

من النقاط التي قلّما يُلتفت إليها أن سعيد -رغم انتقاده للمعرفة الاستشراقية– لم يُسائل المؤسسة التعليمية الغربية بحد ذاتها، بل بقي مؤمنًا بإمكانات التنوير من داخلها. أما حلاق، فيرى أن النظام التعليمي الغربي ليس مجرد وسيط محايد، بل أداة هيمنة في حد ذاته. في "الإصلاح الإسلامي"، ينتقد حلاق المناهج الحديثة لأنها تعلّم الإنسان أن يرى العالم من خلال مفاهيم الحداثة وحدها، ما يؤدي إلى "استعمار العقل" قبل استعمار الجغرافيا.

يرى حلاق أن مجرد إدخال قضايا مثل "الاستعمار" أو "الاستشراق" في مناهج جامعية ليبرالية لا يعني تحريرًا، بل قد يكون إعادة إنتاج للهيمنة بصيغة أكثر نعومة، لأن الإطار المفاهيمي نفسه لم يتغير. ويقول: "حين يتم تعليم الاستشراق داخل منظومة معرفية ليبرالية، فإننا لا نتجاوز الاستعمار، بل نُعيد تدويره في قوالب نقدية ظاهرية".

سؤال الدولة؛ حقل المعركة الجوهري

الدولة الحديثة، في نظر سعيد، كانت ضرورة لفلسطين: مؤسسة سيادية قادرة على حماية الحق. لكن حلاق يرى في الدولة ذاتها بنية استعمارية في الأصل. فهي ليست محايدة، ولا يمكن تطويعها لخدمة العدالة الحقيقية. الدولة –كما يشرح– "تشترط طاعة القانون قبل أي قيمة أخلاقية، وتُفرّغ الدين من مضمونه المعنوي، لتُخضعه لمقتضيات النظام العام". (الدولة المستحيلة، ص. 88، 2014). ولذلك، فإن مشروع التحرر، من وجهة نظر حلاق، لا يمكن أن يُختزل في بناء دولة، بل يجب أن يسعى إلى تأسيس مجتمع أخلاقي مستقل عن الدولة، يستند إلى قيم العدالة والرحمة والتكافل، لا إلى القانون القسري المجرد. وهذا ما يسميه بـ"البديل الأخلاقي المعرفي" الذي يجب أن ينبع من داخل مجتمعاتنا لا من نماذج غربية جاهزة. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن إدوارد سعيد فتح الأبواب؛ لقد كشف زيف حياد المعرفة، وفضح تواطؤ الأكاديميا الغربية مع مشاريع السيطرة. وحين نقرأ حلاق، فإننا لا نرفض سعيد، بل نكمل ما بدأه، ولكن من موقع أكثر راديكالية. 

نحو تفكيك لا يعيد الاستعمار

في كتابه المفصلي "الاستشراق"، شنّ إدوارد سعيد حربًا فكرية على الخطاب الغربي الذي صنع شرقًا متخيّلًا ليبرّر سيطرته. لكن سعيد، على الرغم من حدّته، بقي داخل الإطار الليبرالي، إذ إن نقده اعتمد على أدوات فوكو وغرامشي، وسلاحه كان التحليل الخطابي، لا الرفض الأخلاقي للمنظومة. فلم يشكّك في الليبرالية ككل، بل في تطبيقاتها الاستعمارية، في ازدواج معاييرها، في نفاقها المتجلّي في خلط المعرفة بالقوة. وهنا يكمن الحدّ الفاصل بينه وبين حلاق، الذي لا يتوقف عند "كيف تم تمثيلنا؟"، بل يسأل: "من يملك الحق أصلًا في التمثيل؟". فمشروعه ليس تفكيك الصورة، بل مساءلة البُنية التي تنتج الصور الليبرالية ذاتها. ويرى حلاق أن الدولة الحديثة، مهما كانت علمانية أو ديمقراطية، محكومة بسلطة تشريعية دنيوية لا تقبل بأي مرجعية أخلاقية تتجاوزها، وبالتالي فهي مناقضة جذريًا لأي مشروع إسلامي حقيقي.

بعكس سعيد، لا يرى حلاق أن الغرب يمكن إصلاحه من الداخل أو "تنويره"، بل يعتبره مشروعًا أخلاقيًا منهارًا، محكومًا بانفصام بين السياسة والأخلاق، وبين الإنسان والسوق، وبين الحرية والاستلاب. 

من مقاومة الظرف إلى بناء البديل

إذا كانت مساهمات سعيد وحلاق تكشف وجهي الصراع المعرفي مع الغرب، فإن التعامل مع مشكلاتنا الراهنة -من استعمار وهيمنة وتفكك– يتطلب استراتيجية مزدوجة لمقاومة آنية واعية للتعامل مع الحاجات الملحّة من موقع تكتيكي، دون الارتهان للنموذج الليبرالي.

تكمن أهمية الجمع بين الطرحين في فهم طبيعة الاستعمار الحديثة؛ لم يعد مجرد احتلال عسكري، بل بنية فكرية، أخلاقية، ومؤسساتية. ولفكفكتها لا يكفي تفكيك الخطاب الغربي، بل يجب أيضًا تخيّل نظام معرفي بديل، يمتلك جذوره الخاصة. بل مرحلتين في مشروع واحد؛ الأول شقَّ الجدار، والثاني يحاول العبور. ومن خلال هذا العبور، يمكن أن نعيد تعريف المقاومة، لا كفعل سياسي فقط، بل كخيال أخلاقي ومعرفي جديد. كذلك استخدام أدوات القانون والخطاب والسياسة بوعي أنها ليست الغاية، بل وسائل ضمن معركة أوسع. وبهذا المعنى، كلاهما يشتبك مع الهيمنة، لكن سعيد يشتبك معها من داخلها، بوصفه مثقفًا ليبراليًا غاضبًا، بينما حلاق يقف خارجها، بوصفه ناقدًا للحضارة الليبرالية ذاتها. هذا الفارق ليس تفصيلًا منهجيًا، بل يحدّد إلى أين يمكن أن نذهب، وكيف ننهض من ركام ما بعد الكولونيالية؛ هل نطالب بحقوقنا ضمن المنظومة؟ أم نعيد بناء العالم بلغة أخرى، وأخلاق أخرى، تبدأ من جذورنا لا من اعتذاراتنا. 

لا يمكن للمشروعين أن يُختزلا إلى صراع بين "الإسلامي" و"الليبرالي"، بل هما معًا –على اختلاف المسافة– خطوات في درب التحرر من قبضة الغرب، أحدهما يحرّر الصورة، والآخر يحرّر الذات. وتصبح الأسئلة البديلة؛ هل يمكن الخروج من عباءة الغرب؟ هل يمكن تفكيك الغرب من داخله؟ وكيف ننتقل من تفكيك الاستعمار إلى تجاوز النموذج الذي أنتجه؟ كيف نحيا خارج شروط الخصم؟ في نظر حلاق، هذا شبه مستحيل إن لم يصحبه وعي أخلاقي جذري، يتبنى منظومة قيم بديلة حقًا.

هوامش

موضوعات

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع