تشكّل الأرشيفات البصرية والصور الفوتوغرافية أدوات رئيسية في استعادة السرديات التاريخية والثقافية، لا سيما في السياقات التي تتعرض فيها الشعوب لمحاولات المحو والتهميش. وفي الحالة الفلسطينية، تتخذ الفوتوغرافيا طابعًا مزدوجًا؛ فهي ليست مجرد وسيلة لتوثيق الأحداث بالقدر الذي تشكل فيه أداة لاستعادة ملامح الحياة اليومية، والإضاءة على نماذج مختلفة من حيوات الناس وحضور تفاصيل حياتهم البسيطة والمألوفة وتجاربهم التي تتجلى في ذاكرتهم وذكرياتهم الفردية والجماعية. ومما لا شك فيه أن استعادة هذه التجارب عبر الصور تمنح الفلسطينيين صوتًا بصريًا استيعادياً يساهم في استحضار وتأكيد وجودهم في التاريخ، مقابل السرديات التي حاولت طمسهم أو تحويلهم إلى مجرد أرقام في تقارير سياسية.
وفي سياق إعادة تشكيل السردية الفلسطينية عبر الفوتوغرافيا، يبرز كتاب "أثر الصورة: الفوتوغرافيا وتاريخ فلسطين المهمش" (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ٢٠٢٤)، لمؤلفيه عصام نصار، ستيفان شيحا، وسليم تماري، بمعالجته لذلك النوع من العلاقة الجدلية بين الصورة والتاريخ المهمّش، مستندًا إلى الأرشيف الفوتوغرافي الفريد لواصف جوهرية، أحد أبرز الموسيقيين والمؤرخين البصريين للحياة الفلسطينية -الذي ضم أرشيفه نحو تسعمائة صورة توثق التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية للحياة اليومية في فلسطين خلال أواخر العهد العثماني وفترة الحكم العسكري البريطاني، حيث يقدم الكتاب استكشافًا نقدياً وتحليلاً معمقاً لهذا الأرشيف البصري، ويربط بين تاريخ التصوير الفوتوغرافي في العالم العربي والتاريخ الاجتماعي لفلسطين. وتناقش هذه المراجعة "الموجزة" الكيفية التي يعيد الكتاب من خلالها تشكيل السردية الفلسطينية عبر الفوتوغرافيا، وكيف يمكن للصور أن تنقل مشاهد من الحياة اليومية التي لم تكن تحظى بتوثيق رسمي، لكنّها تظل أساسية لفهم التجربة الفلسطينية.
يضع الكتاب صور جوهرية في إطار نقدي يعيد تعريف دور التصوير في التوثيق الفلسطيني، بعيدًا عن التصورات الاستشراقية والقراءات الاستعمارية. فالصور هنا لا تمثل مجرد لحظات متجمدة من التاريخ، بل تعمل كأدوات استعادة للذاكرة الجماعية، وتشهد على حياة الفلسطينيين كوجود مستمر وليس كما ينظر إليها البعض بوصفها حالة زائلة. ويُظهر الكتاب أن ألبومات جوهرية لم تكن مجرد توثيق بصري، بل تشكل نوعًا من السرد التاريخي الذي يتحدى السرديات الاستعمارية. فالأرشيف، الذي يضم صورًا التقطها مصورون أوروبيون وعرب، يُبرز التحولات الاجتماعية والتاريخية التي مرت بها فلسطين، كما يعكس طرقًا مختلفة في رؤية الذات الفلسطينية ضمن منظومة استعمارية تحاول طمسها. ولعل أحد الجوانب البارزة في الكتاب هو قراءة التصوير كفعل مضاد للاستعمار. فالصور لا تُعرض كأدلة نوستالجية لفلسطين ما قبل النكبة، بل كأدوات لإثبات الاستمرارية الفلسطينية على الرغم من المشروع الاستعماري الصهيوني الذي يسعى إلى طمس الوجود الفلسطيني وإعادة تشكيل المشهد البصري للبلاد وفق سردياته الخاصة.
كما يولي الكتاب اهتمامًا خاصًا لدور الأرشيف في تشكيل الوعي التاريخي، ويدفعنا إلى استحضار مسألة السلطة في التصوير ومن يملك الحق في سرد التاريخ؟ ومن يحدد كيف يتم تمثيل الجماعات المهمشة؟ فالكتاب لا يقتصر على قراءة الصور بوصفها توثيقًا زمنيًا، بل يسعى إلى تفكيك البنية المعرفية التي تنتج هذه الصور، متسائلًا عن علاقتها بالسلطة، والاستعمار، والمحو التاريخي والجغرافي. فبينما تستخدم الدول الاستعمارية الأرشيف لفرض قراءتها للتاريخ، فإن الفلسطينيين، كما يظهر في ألبومات جوهرية، يستخدمونه لاستعادة ماضٍ لا يزال حاضرًا في الذاكرة الجمعية. ويجادل الكتاب بأن هذا الأرشيف ليس مجرد سجل للماضي، بل هو امتداد للزمن الفلسطيني المستمر، رغم محاولات التغييب والإقصاء. وبحسب المؤلفين، فإن الصور التي التقطت في القدس ويافا وحيفا خلال العهد العثماني لا تمثل مجرد وثائق تاريخية، بل هي دليل على استمرارية الوجود الفلسطيني، وامتداد العلاقة بين الأرض والناس، حتى بعد التهجير القسري والاحتلال.
وفي الوقت الذي كانت فيه الكاميرا أداة مكلفة ومحدودة الاستخدام، وغالبًا ما ارتبطت بالنخب السياسية والاجتماعية، يثير الكتاب تساؤلًا مهمًا حول إشكالية الوصول إلى الفوتوغرافيا في فترات تاريخية سابقة، وعلاقة ذلك بكيفية تمثيل الفئات المهمشة واستعادة أصواتهم في التاريخ البصري، حيث كانت الصور المتاحة غالبًا ما تعكس رؤية الطبقات المهيمنة. ويبدو أنه قد تم محاولة معالجة هذه الفجوة عبر استعراض محاولات التصوير الشعبي والاستفادة من الأرشيفات الشخصية والعائلية كوسيلة لإدراج أصوات الناس العاديين في السرديات التاريخية، كذلك من خلال الإشارة إلى المبادرات الحديثة التي تستخدم التقنيات الرقمية ووسائل الإعلام الجديدة لإعادة تفعيل الذاكرة البصرية من منظور غير نخبوي، أي من خلال صور تعكس حياة الفلسطينيين العاديين وتساهم في كسر احتكار التصوير الفوتوغرافي من قبل النخب وإعطاء مساحة للمهمشين.
ولعل إحدى الأطروحات الأساسية في الكتاب تتمثل في أن التصوير الفوتوغرافي لم يكن يومًا أداة محايدة، بل كان دائمًا محكومًا بالسياقات السياسية والاجتماعية التي أنتجته. فمنذ بداياته في القرن التاسع عشر، استُخدم التصوير كأداة استعمارية لترسيخ هيمنة القوى الأوروبية على الشرق الأوسط، خاصة من خلال التصوير الاستشراقي الذي قدم فلسطين كأرض فارغة تنتظر "التحضر". لكن الكتاب يبين أن الفلسطينيين، ومنهم واصف جوهرية، أعادوا توظيف التصوير الفوتوغرافي بطريقة مضادة ومقاومة لهيمنة السردية المركزية الغربية، ليصبح وسيلة لإثبات الوجود الفلسطيني، وتوثيق الحياة اليومية، ورواية التاريخ من منظور محلي. وكما يشير عنوان الكتاب الفرعي، فهو يركز على "التاريخ المهمش"، أي التاريخ الفلسطيني الذي حاولت السرديات الاستعمارية تهميشه أو محوه، لكنه ظل حاضرًا عبر هذه الصور رغم مساعي التهجير والإلغاء.
يندرج "أثر الصورة" ضمن سياق أوسع من الدراسات ما بعد الاستعمارية، ويناقش كيف أصبحت الصورة نفسها ساحة نضال تتحدى نطاق هيمنة السرديات الرسمية. ويستلهم الكتاب جانبا من الأفكار التي تؤكد أن التصوير الفوتوغرافي ليس مجرد تقنية أو انعكاس محايد للواقع، بقدر ما هو جزء من علاقات القوة، حيث يقرر المصور والمُصوَّر والجمهور كيف يتم تأويل الصورة. ومن هذا المنظور، يمكن اعتبار ألبومات جوهرية محاولة فلسطينية لاستعادة حق تمثيل الذات، بعيدًا عن الإملاءات الاستعمارية، حيث يركز الكتاب على كيفية استخدام جوهرية للكاميرا كأداة للحفظ والتوثيق. بهذا المعنى، تصبح الصور الفوتوغرافية وسيطاً يُعيد تشكيل الطريقة التي نتذكر بها الماضي ونوعًا من "الأرشيف البديل" الذي ينافس الروايات التاريخية الرسمية ويضيء على الجوانب المسكوت عنها في التاريخ الفلسطيني. ورغم أن جوهرية لم يكن مجرد مراقب محايد، ذلك أنه كان انتقائيًا في صوره، مفضلًا توثيق الأحداث التي تعكس تفاعلات الناس اليومية أكثر من الأحداث السياسية الكبرى، إلا أن هذا الاختيار يعكس وعيًا بأهمية التفاصيل الصغيرة في تشكيل السردية التاريخية.
ومن خلال تحليل الصور التي جمعها جوهرية، يسلط الكتاب الضوء على الأطر البصرية الإقصائية التي استخدمها المستعمرون البريطانيون والصهاينة في تقديم فلسطين للعالم. فبدلًا من التركيز على الحياة الحضرية المزدهرة للمجتمع الفلسطيني، كان التركيز على الصور التي تعزز سردية "الأرض القاحلة"، التي تم استخدامها لاحقًا لتبرير الاستعمار الاستيطاني. لكن قراءة جوهرية لهذه الصور، ومن ثم إعادة استخدامها في ألبوماته، تعد بمثابة تفكيك لهذه السردية. وكما يرى المؤلفون، فإن ألبومات جوهرية ليست مجرد تجميع للصور، بل هي شكل من أشكال السرد البصري الذي يعيد ترتيب اللقطات بحيث تعكس الواقع الفلسطيني بعيدًا عن عدسة المستعمر. فنجد أن الكتاب يركز على كيفية قراءة هذه الصور بوصفها "نصوصًا بصرية" تحمل دلالات ثقافية وسياسية، ويكشف كيف يمكن للصورة أن تصبح بديلاً للوثيقة المكتوبة، وأداة مقاومة ثقافية ضد محاولات الطمس والإقصاء -فهي تقدم دليلاً ملموسًا على وجود مجتمع حي، ومتنوع، ومتفاعل مع التحولات السياسية والاجتماعية التي مر بها. ذلك أن صور جوهرية تُبرز مشاهد من الفعاليات والأنشطة الاجتماعية-الاقتصادية المختلفة، ما يجعلها نافذة بصرية على المجتمع الفلسطيني قبل النكبة، وتوضح كيف كان الفلسطينيون يشكّلون هوية مدينية حديثة، تتجاوز الصور النمطية عنهم كفلاحين معزولين عن الحداثة.
ومما قد يجول في الأذهان هو أن "أثر الصورة"، بكليّته وشموليّته، يمثل دعوة لإعادة النظر في الصور الفوتوغرافية الفلسطينية باعتبارها جزءًا من النضال من أجل استعادة التاريخ والهوية، ومحفزاً لإطلاق العنان للتفكير في حدود الأرشيف البصري، وضرورة استكماله بمصادر أخرى تتيح قراءة أكثر شمولًا للتاريخ الفلسطيني. فالفوتوغرافيا، مع قدرتها على حفظ اللحظات، إلا أنها بحاجة إلى تحليل نقدي يأخذ بعين الاعتبار إطارها التوثيقي وسياقات إنتاجها وتأويلاتها المتعددة. الأمر الذي يثير تساؤلات منطقية ومبررة حول أن التركيز على الأرشيف الشخصي لواصف جوهرية، رغم قيمته التاريخية، ربما يغفل جوانب أخرى من التجربة الفلسطينية، خاصة خارج نطاق المدن الكبرى -فالحياة الريفية، وعلاقات القوة داخل المجتمع، وأدوار النساء، تبقى أقل حضورًا في هذا الأرشيف مقارنة بالحياة الحضرية الذكورية التي وثّقها جوهرية.
ختاماً يمكن القول إن الكتاب يعد إضافة بارزة في مجال الدراسات الفلسطينية، إذ يبحث في العلاقة بين الصورة والسلطة، ويسلط الضوء على موضوع نادرًا ما تم تناوله بهذا العمق -وهو دور التصوير الفوتوغرافي في تشكيل الهوية الفلسطينية، ويضع بين أيدينا نموذجًا للبحث متعدد التخصصات الذي يجمع بين التاريخ والسوسيولوجيا ودراسات الصورة، متجاوزاً بذلك المفهوم التقليدي للصورة كأداة توثيقية، ليقدم تحليلًا نقديًا وقراءة شاملة لدور التصوير الفوتوغرافي في بناء وإنتاج الذاكرة الجمعية، مما يجعله مرجعًا مهمًا للباحثين في هذا المجال. إن هذا العمل ليس مجرد دراسة أكاديمية، بل هو أداة لمقاومة المحو البصري وشهادة على أن فلسطين لم تكن يومًا مجرد مكان على الخريطة، وأنها تاريخ حيّ، يُعاد سرده في صورة تروي قصة شعب.