واحدة من محاولات استعادة الأجساد الخائفة كانت تكمن في الألفة. وأنا الآن لا أكتب، بل أحاول تجاوز الهشاشة التي جرّدت الجسد الفلسطيني من المعنى، وحوّلته إلى رقم. الأرقام لا تحلم ولا تنام، بل تتراكم، تتكدّس فوق بعضها بعضًا. أما الجزء الأساسي من لغة انتباه المصوّرة فاطمة حسونة فتكمن في تجاوز الجسد، في محاولةٍ استعادة معناه من خلال تجسيد وأحلامه ومخاوفه وسبل نجاته. لعلّ التصوير الفوتوغرافي يكون هناك، في تأهيل الصورة ضمن معناها، لتكون مثالًا واضحًا لوجوهٍ أقرب إلى برك ماء صغيرة ترتعش وتجفّ.
استُشهدت في فجر السادس عشر من أبريل/نيسان الجاري المصوّرة فاطمة حسونة، في غارة جوية إسرائيلية استهدفت منزل عائلتها في غزة. رحلت باسمها الكامل، دون أي تفاوت بالأرقام ضمن شريط الخبر العاجل. لربما هذا ما حاولت من أجله، لها ولغيرها، استعادة السردية في لحظة مكتظّة بالمعلومات؛ إنه شيء أعمق من الحقيقة. لقد حاولت مرارًا تحويل الصورة إلى قولٍ مأثور، أو حكمة، أو مثل. لقد تجاوزت المعلومة وما ينتج عنها، في محاولةٍ قد يستعيد فيها الحاضر أُلفته ليكون مسموعًا، بحيث لا تكون الضحية هي المثير الرئيسي للاستهلاك السريع أو للقيمة. حتى في استشهاد فاطمة حسونة، شيءٌ مما كانت تحاول استعادته باستمرار، حيث الصخب لا يكمن في الصورة ذاتها، بل في ما تحاول قوله. منذ بداية الحرب على غزة وهي تترك انطباعًا أن الصورة المُحتفى بها ناقصة طالما لا تطرح سرديّتها؛ كبيانٍ أوّلي يقدّم لنا القصة من منتصفها، كأنّ ما قبلها يتجاوز ما بعدها، ما يجعل قدرتنا على فهمها تتجاوز الشاشة السوداء التي تعلن عن النهاية.
علّمتنا الحياة مرارًا أن الحكاية لا تكمن في أحداثها بل في ذاتية من يُنصتون لها. إنه الإنصات كفعلٍ يتجاوز صنعة التصوير، حيث الوحشية التي حاولت فاطمة نقلها لا تكمن في حقيقة وتقنية الصورة ذاتها، بل في المغزى الذي تحاول إيصاله، وكان في استشهادها جزءٌ من هذه الملامح. اغتيلت حسونة مع كامل أفراد عائلتها، عشرة أفراد كانوا معها، لطالما تمّت محاولة تصويرهم كجزء من لغة جسد الخائف؛ أفراد العائلة الذين لم تتعامل معهم كشهود، بل جمعتهم براحة يد واحدة كاستعارةٍ تُمثّل أكثر ما قد حُرم منه الغزّي، وهو الأُلفة.
في صورة علّقتها المصوّرة فاطمة حسونة لتظهر في الصف الأول في حسابها على إنستغرام، نرى ملامح حياتها قبل سبعة أشهر من الحرب على غزة تقريبًا. تبدو الصورة وكأنها لعائلة في نزهة ضمن غابة كثيفة الأشجار؛ على يمين الصورة ثلاث سيدات ورجل، عيونهم مشدودة بقوة إلى أرغفة الخبز وهي تتحمّر على صاج صغير، في الوسط توجد طفلة غير مبالية تنظر عكس الجميع إلى ما يشبه وسادة النوم، بينما امتلأ اليسار بشجرة عالية بأربعة أفرع سميكة. كل شيء يحدث عكس الضوء، الذي يُظلّل الوجوه بشيءٍ من العتمة. كل صورة التقطتها فاطمة منذ اندلاع الحرب على غزة حتى استشهادها، فيها شيءٌ من هذه الصورة. كأنّ وحشية الاحتلال لا تكمن في القتل فقط، بل في انحسار المتخيّل عن الأُلفة. وهنا كانت تكمن الجسارة؛ لقد رأينا في صور فاطمة ما يتجاوز الدليل على القتل المتعمّد الذي ينفّذه الاحتلال، بل مآلات مواجهة الموت وتضمين مضمونه في حرب الإبادة المستمرة. ما قد يجعل أقدس معاني الحياة هناك، في الخفة التي نستعد فيها للنوم، في النظرة المطوّلة للملح في خبز الطعام؛ ما يدفعنا للإدراك جميعًا أن نوايا المصوّر لا تُقرّر معنى الصورة، بل يُكتشف المعنى مع التجربة التي يصوغ من خلالها المصوّر حياته.
على مدار أشهر الحرب الإسرائيلية على غزة، حاولت فاطمة الخروج من أدوار الضحية والبطولة أيضًا. تجرّدت من الدورين الرئيسيين اللذين قد تنتجهما أي حرب، لتعيد طرح السؤال الأول لكل الحروب الإبادية التي حاول التاريخ طمسها: ماذا يعني إظهار الألم في عالم قد لا يعترف به؟! إنه يعني تفكيك نرجسية المتفرّجين. طالما العالم بهذه الهشاشة، حاولت فاطمة تمكين المستحيل من خلال مواجهة أسئلة الحياة اليومية، في عالم يحاول يوميًا إلغاء الصفة الإنسانية عن أهالي القطاع، كي لا تكون الحرب استعراضًا، بل نقطة تحوّل في تاريخ الأخلاق ومفهوم التضامن. حيث مفهوم الوطن في صور فاطمة حسونة ضمن هذا الأثر التراكمي المدمّر؛ من صور مجزرة المصلين في مدرسة التابعين، حتى ملامح البراءة في صورة الشاب الواقف أمام البحر وفي أقدامه نعالٍ نسائيّ بلاستيكيّ، وعلى ظهره حقيبة مدرسية صغيرة، وما بين المشهدين من تداخلٍ مؤلم لتحوّلات الحياة. هذا هو البديهي الذي حاولت فاطمة قوله: إنه التحرر من ضرورة الدور الذي يمكنها اختياره، متجرّدةً ببساطة وسهولة من كل ما يمكن أن تحمله من أدوار، باعترافها العفوي في إحدى مقابلاتها، كونها كانت تحمل الكاميرا لتساعد نفسها.
أخيرًا، إنّ الأكثر مدعاةً للإضراب، هو أن حقيقة العالم الذي نعيش فيه باتت هناك، في ما يتم طمسه باستمرار: النكران، والتكتّم، والتضليل، كلها أفعال تجعل من الرؤية وإعادة طرح الأسئلة تهديدًا نهايته القتل المتعمّد. دفعت شابة عمرها 24 عامًا حياتها ثمنًا لهذا التحديق المستمر في معاني الحياة. لماذا، عزيزتي فاطمة؟! مهما بدا السؤال ساذجًا، إلا أنها ما زالت تكرّر ما يشبه الإجابة في أكثر من موضع، كي لا يبقى القتلى ككتلة جماعية متداخلة، مجهولين، بلا أهل، بلا أحلام، بلا عنوان؛ كي تكون الجريمة مدوّية، لا مختزلة بالاستهلاك للمحللين السياسيين. لتبقى احتمالية معرفة الضحايا بأسمائهم ممكنة، ولربما، كي لا ننتهي كغرباء. هل يمكنني أن أقول إن أقسى ما حاولت فاطمة حسونة مواجهته هو غرابة العالم؟! كونها قالت إنها ترى كاميرتها كسلاح، فإنّ أعتى أساليب مواجهة الغرابة تكمن في تقريب الأشياء وإعادة مواجهتها. في سبيل هذه الفكرة، اغتيلت فاطمة، في حرب وحشية، حاولت فيها أن تقترب من حقيقتها، وأن تعيد مواجهة أسئلتها الشخصية حول جدوى الوجود في قطاعٍ محاصر، لا يمكن اختزاله في الشريط العاجل لنشرات الأخبار.
