بات مدهشًا إلى أي حدٍّ يجب أن نستعيد قدرتنا على المواجهة لندرك عمق التغييرات التي تصنع حاضرنا ومستقبلنا. لطالما علمتنا الحياة أن التغييرات الكبيرة في السياسة ومآلاتها في الحروب تنحسر في ما يعنيه وجودنا أمام هول ما يحدث. ربما هنا تكمن الحكاية، لا حكايتنا نحن الأفراد فقط، بل المجتمعات أيضًا.
ليس من السهل اليوم الكتابة عن مهرجان سينمائي يتقاطع مع التحولات في القضايا السياسية والاجتماعية في بيروت، دون أن نعود إلى نقطة البداية. والبداية ضمن هذه المدينة تعني أن الهشاشة شكلٌ من أشكال الوجود، مع استمرار عدوان الاحتلال الإسرائيلي على لبنان، وانكماش الواقع كجرح مكشوف على جميع مآلات التغيّرات الكبرى في المنطقة. فإذا كان هناك ما يميز هذه المرحلة في حياة المدينة، فهو النسيان والمساحات المقتضبة. والاقتضاب هنا هو الإيجاز لما هو ضروري، حتى انتقلنا تدريجيًا إلى الهامش.
من هذا الهامش أعلنت الجمعية اللبنانية للسينما المستقلة – متروبوليس عن الدورة الأولى لمهرجان "شاشات الجنوب"، على مدار عشرة أيام، تضم عشرين فيلمًا من أربع قارات وخمسة وثلاثين بلدًا، في محاولة لطرح أسئلة التحولات في تجاربنا السياسية والاجتماعية، وفي نظرة العالم ومحاولاته المستمرة لفهم هذا النسق المتسارع من الضجيج والتهميش لما تعنيه الأسئلة الكبرى في حياة المجتمعات والأفراد.
في اختيار عنوان المهرجان رؤية لتقسيم العالم، كون "الجنوب" جاء من مصطلح "الجنوب العالمي – Global South"، وهو مصطلح ثقافي سياسي أكثر من كونه جغرافيًا، إذ يعبر عن عمق الفجوة السياسية والاقتصادية، ويذكّر، مما لا شك فيه، بالميراث الاستعماري والعلاقات غير المتكافئة. يشمل المصطلح دولًا في إفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وآسيا. المصطلح الذي جاء بديلًا لمفهوم "العالم الثالث"، تجاوزه المهرجان بالتحليل العميق الذي عرضته الأفلام، لنكتشف على مدار الأيام العشرة قدرة السينما على شرح السياقات التي قدمت أشكال التحولات السياسية والاجتماعية ومدى تأثيرها في الشعوب، حيث في التحول الكثير من الأسئلة، وما يشبه العبور ضمن ممرات ضيقة تشغلها سياسات متّبعة ونُظُم إعلامية واقتصادية، وحتى ثقافية، حيث يكمن النضال الحقيقي في فهم مآلات هذه التغيّرات، تأثيرها، وما تعنيه لسياق حياتنا اليومي.

ليس صدفة أن يخرج الجمهور من صالة السينما وهو يبحث عن أصواته وسط حالة الأسئلة التي طرحها المهرجان، كون مضمون المهرجان لم يُقَم للتنافس بين الأفلام، كما لم يُعلَن عن جوائز، بل منذ اليوم الأول كان الهدف هو تعزيز المساحة الفنية لتستعيد السينما دورها الأول وسيلةً للبناء. وهذا البناء كان يكمن في المشاهدة التي تتجاوز صخب كلمات مثل "الأجمل"، و"الأقوى"، و"الأعمق"، لنكتشف عمق الشهادة المُعلَنة التي عرضتها الأفلام، لتكون "شاشات الجنوب" هي شاشاتنا التي تجمع أسئلة الجدوى أمام التجربة المستحيلة لما نواجهه، وفي هذا تحول يطالبنا باستمرار بترميم الضروري أو الهرب، وفي الحالتين نحاول اكتشاف لغة أجسادنا وهي تواجه احتمالات النجاة.
تقف يونيس إيفا (فرناندا توريس)، أمٌّ لخمسة أطفال، أمام التحول الذي سيغيّر حياتها. سيدة عليها أن تعيد ترميم حياتها من جديد بعد أن تعرضت عائلتها لإجراء تعسفي، في بلد تحكمه ديكتاتورية عسكرية صارمة. الفيلم البرازيلي "ما زلت هنا" (I'm Still Here) الذي افتتح به المهرجان برنامجه، خرج من السرد التاريخي المباشر، لنكتشف محاولات المخرج والتر ساليس (Walter Salles) لعرض الذاتي والشخصي في حياة محكومة بالخوف المستمر والمواجهة الحتمية، ضمن السيرة الذاتية لمارسيلو روبنز بايفا. لنواجه أسئلة القيمة ومعاني المواجهة في قضايا الاختفاء القسري والمحاسبة. إلا أن البطولة في فهم التحول تجاوزها المخرج ضمن السرد، ليستعيد القصة في إطارها اليومي: الأب المحب روبنز بايفا (سيلتون ميلو)، مهندس يساري وعضو حزبي وبرلماني سابق، ومعارض سري غير ناشط. الزوجة يونيس (فرناندا توريس) تُعتقل هي وزوجها، ليُطلق سراحها لاحقًا دون زوجها، لتصل الأمور إلى حد إنكار السلطة حادثة اعتقاله. لنكتشف طوال الفيلم قوة المرأة المفجوعة بمصير زوجها المجهول، وصلابتها في فهم مآلات كفاحها ونضالها اليومي، لنرى عمق التحول ضمن حياة متروكة على الهامش، تخوض سؤال عدالتها المصيري.

أما في الختام، فيقف شاتيلا (محمود بكري) ورضا (آرام صبّاغ) في وسط ساحة أثينا في اليونان، كل ما يعرفونه عن النجاة هو أنها مستحيلة، ضمن عالم مجهول بالنسبة لهما. لنرى معنى الهروب من عالم ضيق مثل مخيم عين الحلوة في لبنان، إلى عالم يفرض عليهما أقسى معاني التحول للوصول إلى برّ الأمان. لنكتشف مع المخرج مهدي فليفل، ضمن فيلم "إلى عالم مجهول"، تتمة جملته النهائية لفيلمه السابق "عالم ليس لنا"، كون العالم يُقدَّم ضمن السياق الفلسطيني على أنه تحولات مستمرة بلا أي أجوبة كاملة لفهم النجاة. لنشهد في الختام على التحولات التي تصيغ حياتنا الشخصية، خياراتنا المتطرفة، تجاوزنا الهشّ لأدوار الضحية، إلى ضجيج مواجهة العالم بأساليبه القاسية، كما يخطط شاتيلا لخطة متطرفة تتضمن التظاهر بأنهما مهربان وأخذ رهائن في محاولة لإخراجه هو وصديقه من بيئتهما اليائسة قبل فوات الأوان.
بين فيلم الافتتاح وفيلم الختام، عرض المهرجان أفلامًا من العالم العربي، ليستعيد مشهد التحول من السودان في فيلم "وداعًا جوليا" للمخرج محمد قردفاني، ومن اليمن فيلم المخرج عمر جمال "المرهقون"، بالإضافة إلى مشاركة المخرج مو هراوي من الصومال مع فيلمه "قرية قرب الجنة". بينما قدّم المخرج المصري محمد حمدي فيلم "معطَّرًا بالنعناع". أما لبنانيًا، فعرض المهرجان فيلمين لبنانيين يعرضان لأول مرة في مدينتهما الأم بيروت، ليجمع فيلم "مشقلب" أربعة مخرجين لبنانيين، هم وسام شرف، ولوسيان أبو رجيلي، وبانه فقيه، وأريج محمود، في إخراج كل منهم فيلمًا قصيرًا ضمن فيلم واحد طويل. كما قدّم المهرجان فيلم "خط التماس" من إخراج الفرنسية سيلفي بايو، والتي شاركت في كتابته فداء بزي. يستخدم الفيلم نماذج مصغّرة لمباني بيروت وتماثيل مصغّرة لإعادة بناء نشأة فداء المضطربة خلال الحرب الأهلية اللبنانية، التي مرت ذكراها الخميس خلال أيام المهرجان.

بالإضافة إلى أفلام من بلاد مختلفة، واستعادة الكلاسيكيات مثل فيلم "طوفان في بلاد البعث" من سوريا للمخرج الراحل عمر أميرلاي، وعرض الفيلم السنغالي La Noire De … للمخرج عثمان سمبان بنسخته المرمّمة. استعاد المهرجان على مدار أيامه العشرة جوهر صناعة السينما في تقاطعها مع القضايا السياسية والاجتماعية، كما استعاد دور صالة السينما في مدينة تعيش اضطراباتها الداخلية، وتهمّش أهلها، وتستثني غرباءها. في هذه الاستعادة دور ثقافي واجتماعي قدمته الجمعية اللبنانية للسينما المستقلة – متروبوليس في سياقه الذي يعني الانتماء لسؤالنا الطارئ حول التحولات. لربما في هذه التجربة التي قدّمها المهرجان جزءٌ أساسي من الإجابة، كون الإنصات وطرح الأسئلة وفهم التجربة ومحاولة قراءتها هي وسائلنا المتاحة، لا للنجاة فقط، بل لرواية أشكال نجاتنا ومدى احتمالاتها.
