مؤانسة:

الياس خوري... أن تؤنس العالم بالحب

المعتصم خلف

كاتب فلسطيني سوري

لعل في هذا الاختلاف معنى يتعدى النص، صارت فيه شخوص الكاتب حقيقة أكثر منه. هذه الشفافية تعدت الحقيقة؛ إنها الحيلة التي اتبعها إلياس خوري، والتي جعلت ميليا شاهين في رواية كأنها نائمة، ويونس ونهيلة في رواية "باب الشمس"، ويالو في الرواية التي حملت اسمه،

للكاتب/ة

أخيرًا، في ممر مقبرة مار إلياس، بينما كنا نمشي بصمت، والنعش المحمول يموج فوق الأكتاف، لا أعلم لماذا كان صوت خطوات أصدقائك وأهلك أعلى من صوت بكائهم. كان النحيب صامتًا، بينما أصوات خطواتهم تعلو بتناغم.

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

20/01/2025

تصوير: اسماء الغول

المعتصم خلف

كاتب فلسطيني سوري

المعتصم خلف

صدر له كتاب "أقرب من البعيد بقليل"

لطالما أخبرنا الرب أن لا أحد يمكنه أن يعيش بعد موته، ولكن الكتّاب فعلوا ذلك، فعلوه بجسارة وخفة؛ لذلك الموت لا يحب الكتّاب، أو هكذا أتصور دائمًا. لأن الحياة بكل مستحيلاتها تتحول في كتاباتهم إلى صيغة مألوفة من اليقين، يقين يحمل معه جدارة الحلم والتجريب المستمر لطرح المزيد من الأسئلة، إلى الحد الذي يفقد فيه الموت رهبته، إلى أن يُهزم. لطالما هزم الكتّاب الموت وهم يصيغون نشيدهم الممتحن للذات، خياراتهم السياسية، وانتماءهم لقضايا الناس، وقدرتهم على إعادة صياغة الواقع. وفي كل ما سعوا إليه، تجاوز الكتّاب الموت، بالعيش في أصوات أبطال رواياتهم، وعوالمهم المرهونة بالحلم.

لقد غادرنا في 15 سبتمبر من عام 2024 الكاتب إلياس خوري عن عمر يناهز 76 عامًا، بعد عام من المعاناة مع المرض. في كلمة "المغادرة" دليل على الأثر، ومنها سُمي الغدير، وهو المياه الراكدة التي غادرها السيل. نقول عن الأشخاص إنهم مغادرون حين يتركون إشارات مقتضبة عن عودتهم المحتملة، وهي تتجاوز الرحيل، حيث يمضي الإنسان من مكان إلى آخر دون أي احتمال للعودة. غادرنا إلياس خوري، تاركًا لنا احتمالات كثيرة لعودته المحتجبة وغير المباشرة؛ مرةً على هيئة سؤال نستعيده لفهم مضمون نضالنا اليومي، ومرة أخرى على هيئة نافذة مفتوحة ندرك فيها حيلتنا الممكنة لمواجهة واقعنا.

هذه هي الجدوى التي أمضى فيها الكاتب إلياس خوري حياته، حيث جعل من الكتابة الثقافية السياسية وسيلة للدفاع عن قضايا العدالة والحرية وقيم الهامش الذي انتمى إليه. منذ "مسرح بيروت" ثم "ملحق النهار" إلى "مجلة الدراسات الفلسطينية"، وحتى في كتبه النقدية ورواياته، كان إلياس خوري يتجاوز ممارسات السلطة ليجعل من كل ما تحاول تهميشه ومحوه حاضرًا. هذا الحاضر المستمر الذي كرّس فيه إلياس خوري حياته ليقول لنا إن الانتباه والانتماء فعلان يؤسسان لذاكرة تتجاوز ممحاة السلطة وأدواتها. حتى في سنوات الشك والهزيمة، حين بدت العدالة بعيدة وصامتة كليًا، حاول دائمًا أن يذكر نفسه ويذكرنا بأن في حياة ما بعد اليأس التي نعيشها لا بد من تجديد أحلامنا، فالحلم هو وسيلة المهمشين، اللاجئين، والمقموعين لمواجهة أطر القمع التي كرسها الاستبداد والاحتلال.

خلف تلة من الأبواب الموصدة

لعل هذه طريقة مناسبة للقول إن إلياس خوري لم يكن ومضة في تجربة جيلي؛ لم يلمع فجأة ولم يختفِ فجأة. كاتب استطاع أن ينسل من دوامة العجز اليومي ليفتح لنا أبوابًا تكفي للنجاة، يمكن من خلالها فهم المعنى العميق لتجاربنا. لذلك، هو الكاتب الذي ظنّ العديد من قرّائه أنه فلسطيني بعد رواية "باب الشمس"، والذي صار سوريًا في الثورة السورية. حتى عندما تشرد السوريون وعانوا من العنصرية والاضطهاد، أعلن أمام آلة التحريض الأعمى ضد المهمشين أنه لاجئ سوري، ضمن مقالته الأسبوعية في جريدة القدس العربي. لم ينتمِ يومًا لينتصر، بل ليصوغ لحظات إنسانية كبرى.

على كل حال، نقول عن الأقفال إنها موصدة عندما يحكمها الإغلاق، ومن بين أضيق الأبواب التي أحكمت مدينة بيروت إغلاقها، كان فهم سياق المدينة في سيرة غربائها. لطالما تذمّرت السلطة وأحزابها وإعلامها من سيرورة الغرباء الذين أُسيء تأويلهم باستمرار وتم تهميشهم لضمان سردية متشعبة تلغي الآخر. إلا أن الأبواب التي أحكمها الزعماء صنع منها الكاتب إلياس خوري مادة سياسية وثقافية لإعادة فهم تمزقات المجتمع وقدرته على فهم نفسه. قدّم إلياس خوري مدينة بيروت كمدينة للغرباء، مدينة للألفة، منذ إصدار رواية "مملكة الغرباء" عام 1993 حتى مقالة "مدينة الغرباء" في خريف 2020 المنشورة في مجلة الدراسات الفلسطينية. خلق إلياس خوري من فكرة الغريب وسياق الأقليات ضمن المجتمع اللبناني ثيمة تكشف عن نفسها لفهم حكاية المدينة ضمن تجارب أهلها، ليكون المسيح نفسه هو أول الغرباء، وربّ المهمشين. لتتعدد الديانات والجذور والأصول، من الشركس إلى الهجرة الأرمنية الهاربة من المذبحة، إلى الفلسطينيين، اليهود اللبنانيين، الرهبان المسيحيين، لتنتهي بالهجرة السورية الكبرى. هكذا استعاد مدينة بيروت من صلب التناقضات، لا ليشرح بيروت للعالم، بل لنفسها، بلغة تستعيد الإنسان أمام شرط الوجود الأول، الذي يجعل من الكلام وسيلة للتحرر من عالم مغلق، محكوم بالصمت، مكرّس للحجب المستمر بأدوات السلطة.

من الإمتاع إلى ما بعد المؤانسة

إن غاية الأدب لدى أبو حيان التوحيدي هي الإمتاع والمؤانسة. قد نُحمّل الأدب اليوم مهام تتجاوز غايته، إلا أن الجوهر يبقى في الألفة التي تتجلى في كلمة "الأُنس"، لتكون الحكاية هي الأنيس الذي يبدد الوحشة ويفكك طبقات الخوف. هذه هي الطريقة التي استسلم فيها إلياس خوري لصنعة الكتابة؛ ليكتب لأنه يحب أن يحكي الحكاية بتعددها، فاتحًا المجال لشخوصه ضمن النص للتعبير عن أنفسهم، متجردًا من دوره كراوٍ، متنازلًا عن الأنا الشخصية، ليكون لأبطاله كيانات تبلور أسئلتها، بسرد يطوف بشكل دائري يهدم الحكاية في منتصفها ليرويها مجددًا من بدايتها، ليروي الحكاية بتعددها وبأشكال مختلفة.

لعل في هذا الاختلاف معنى يتعدى النص، صارت فيه شخوص الكاتب حقيقة أكثر منه. هذه الشفافية تعدت الحقيقة؛ إنها الحيلة التي اتبعها إلياس خوري، والتي جعلت ميليا شاهين في رواية كأنها نائمة، ويونس ونهيلة في رواية "باب الشمس"، ويالو في الرواية التي حملت اسمه، وكريم ونسيم أبناء الصيدلي نصري الشمس في رواية "سينالكول"، شخوصًا تتجاوز الكاتب. اخترق إلياس خوري عوالمهم، تتبع سير حياتهم كمراقب يستعيد أصوات الهامش، أما هو فلقد استطاع محو نفسه جيدًا. ظلل الخطوط التي يمكن من خلالها الاستدلال عليه أو معرفته.

عندما قابلته لأول مرة في مكتبه في بيروت قبل سنوات، كان أنسه الشخصي في قدرته على التنصل من شخوصه. ونحن نحكي، كان يلتفت لشخوص رواياته ككيانات مستقلة، يكبرون الآن، ولربما يخوضون حكايتهم الشخصية بعيدًا عن حكايته. كان مدهشًا لي للحظة كيف لا يفرض سلطته على ما كتبه، بل يتعلم منه. وفي هذا إيمان يشبه اليقين بأن الكتابة تكمن في قدرتنا على الخلق، حيث الرواية وشخوصها تصير كيانًا مستقلًا، يتجاوز الكاتب، ويصبح معنًى بالقارئ وقدرته على التأويل أكثر.

أخيرًا، في ممر مقبرة مار إلياس، بينما كنا نمشي بصمت، والنعش المحمول يموج فوق الأكتاف، لا أعلم لماذا كان صوت خطوات أصدقائك وأهلك أعلى من صوت بكائهم. كان النحيب صامتًا، بينما أصوات خطواتهم تعلو بتناغم. صمت مطبق، ونساء ورجال يمشون بخدر لا يصيب إلا العشاق. رأيت الحب هناك، في سيرة الكاتب الذي جعل من حياته حكاية يمكننا تداولها بفخر، ومن مواقفه السياسية انتماءً لمن يعتاشون على الفتات في سبيل تحقيق أحلامهم. وفي النهاية، سوف يبقى الحب، الحب الذي أقنعتنا به أن العطش الحقيقي ليس للماء بل للهواء، عندما يبدد الإنسان عجزه وخوفه بالكلمات التي تسمح له بمواجهة أقسى احتمالات المستحيل وأشدها قسوة. لربما هناك، في آخر هذه الأحلام، لحظة حرية نستحقها جميعًا.

الكاتب: المعتصم خلف

هوامش

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع