رمانة

«رمان»... كي لا تباد فنوننا وآدابنا

سليم البيك

محرر المجلة. روائي وناقد سينمائي فلسطيني

كل هذا التقديم كان للقول إن لا انفضاض لتشابك الثقافي بالسياسي، في عالمنا العربي تحديداً، المشرقي منه بالأخص، وإن هذا الـ "لا انفضاض" وتحت وطأة الحدث السياسي، أخفى المقالة الصحافية الثقافية المتخصصة، الثقافية بكونها فعلاً ثقافية لا تلك الملتحقة بالسياسية والملتحفة بالأحداث.

للكاتب/ة

كل ذلك من منطلق أننا، أن شعبنا، إن كان في ساحة معقولٌ أن لا يُهزَم فيها، بل وممكن، فهي تلك الثقافية، هي رواياتنا وأفلامنا ولوحاتنا وأغانينا...

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

16/03/2025

تصوير: اسماء الغول

سليم البيك

محرر المجلة. روائي وناقد سينمائي فلسطيني

سليم البيك

روائي وناقد فلسطيني، باريس. مؤسس ومحرر «رمان الثقافية». يكتب أسبوعياً في «القدس العربي». له ٧ كتب منها الروايات: «عين الديك» و«سيناريو» و«تذكرتان إلى صفورية». له «تأملات في الفيلم الفلسطيني»، و«سيرة لسينما الفلسطينيين: محدودية المساحات والشخصيات» الصادر أخيراً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

بالنظر سريعاً إلى مواقع إعلامية عامة حيث للثقافة صفحة كانت أصلاً مقلة في النشر مقابل صفحات اجتماعية وسياسية وحقوقية، بالنظر إليها خلال العام الأخير، حيث الحدث السياسي في كل من فلسطين ولبنان وسوريا، كان في أوجه، نلحظ زيادةً في قلة النشر الثقافي.

حديثي هذا، وأنا متابع يومي/صباحي لشريط من المواقع والصحف والمجلات، قد لا يشمل بالضرورة صحفاً أكثر احترافاً من المواقع المستقلة التي تصُفّ «رمّان» إلى جانبها. تنشر الصحيفة المبنية أساساً على أخبار وكالات ومراسلين، موادَ تضطر لملئ الصفحة المطبوعة أو تلك الإلكترونية بها، وبفريق واسع من الصحافيين وميزانية ضخمة ونشاط لا يهدأ على مواقع التواصل.

لنترك جانباً النشر الخدماتي إذن، المعتمد على الخبر والتقرير، فالصحافة المستقلة، الجديدة إذ بدأت تُلحَظ خلال السنوات العشر الأخيرة، تعتمد على المقال أكثر من الخبر، وهذا مسار اختارته «رمّان» منذ انطلاقتها عام ٢٠١٦. في هذه المواقع، المثيلة لمجلتنا، وبالنظر سريعاً إليها، نلحظ تراجعاً في المادة الثقافية بشتى أشكالها في الخمسة عشر شهراً الأخيرة، مقابل تقدم في المادة السياسية والاجتماعية وما حولهما. انعكس ذلك حتى على مجلتنا المتخصصة في الثقافة، إذ زاد بشكل خاص، منسوب السياسي على الثقافي.

مرّ على الحرب الإبادية وعام و٣ أشهر. خلال النصف الأول من هذه الفترة انحزنا في المجلة إلى المادة السياسية عن قطاع غزة ومنه، وركّزنا في النشر على الجانب الثقافي المتعلق بالحرب، تحديداً الثقافة كمجال معركة عالمية، امتلأ بمحاولات كتم الصوت الفني والأدبي والسينمائي وعموم الثقافي الفلسطيني والتضامني. لاحقاً وقد انتبهتُ إلى أن السياسة أكلت الثقافة في المجلة، بدأتُ بتخفيف المادة السياسية في صفحة "آراء" غير المتعلقة بموضوع ثقافي، وبتكثيف النشر في المواد الثقافية المتعلقة بموضوع سياسي، مع محاولة الإبقاء على مواضيع ثقافية فلسطينية لا تتناول بالضرورة الحرب على غزة. حتى اليوم، كان وبقي الجسم الأساسي للنشر مواد ثقافية لمواضيع فيها شأن سياسي، فلسطينياً وسورياً ولبنانياً.

في الأشهر الأخيرة بدأت المجلة تستعيد عافيتنا كصحافة متخصصة، وقد أدركتُ الانحسار المريع لما هو ثقافي، في عموم المواقع العربية المستقلة، وكذلك الصحف، فالبكاد نقرأ مادة ثقافية مقابل محدودية النشر في هذه المواقع، ومنح القسم الأكبر لهذا المحدود إلى السياسي والاجتماعي. حاولتُ تمرير المزيد من المواد الثقافية في الأشهر الأخيرة، من تلك غير المتعلقة بالضرورة بحدث راهن، من دون أن يخرج ذلك من إطار تشابك الثقافي بالسياسي في مجتمعاتنا العربية الراهنة، وهو فهمنا في المجلة لمعنى الثقافي. هل إعداد ملف باسم «الياس خوري» مثلاً، مسألة ثقافية وحسب؟ أم، وهو الأصح، فيه من السياسي ما فيه من الثقافي؟

كل هذا التقديم كان للقول إن لا انفضاض لتشابك الثقافي بالسياسي، في عالمنا العربي تحديداً، المشرقي منه بالأخص، وإن هذا الـ "لا انفضاض" وتحت وطأة الحدث السياسي، أخفى المقالة الصحافية الثقافية المتخصصة، الثقافية بكونها فعلاً ثقافية لا تلك الملتحقة بالسياسية والملتحفة بالأحداث.

في نوفمبر الماضي، وقد دخلنا السنة الثانية من الحرب الإبادية، وبعد اشتغال وانشغال لأشهر، أطلقنا نسخة جديدة من «رمّان»، مع تجديد شامل بدأناه من اللوغو وامتد على طول الهوية البصرية للمجلة، مع تطوير للخط التحريري. اخترتُ شعاراً للمجلة هو "نكتب لفلسطين"، وذلك ضمن توجّه بكون أكثر نحو الثقافي تحت هذا الشعار. فالحديث عن رواية وفيلم، أو معرض ومهرجان، فلسطيني، هو حديث ثقافي تماماً، مهما كان سياسياً. حاولنا الإصلاح في حالة الـ "لا انفضاض" ما بين الثقافي والسياسي، من دون خسارة هويتنا السياسية، ومجالنا الثقافي، وتكاملهما معاً. انطلاقاً من ذلك، ومن خلال إعادة تشكيل تدريجيّة لمضمون المجلة، عزّزنا المواضيع الثقافية على اختلاف مسافاتها من السياسي في بلادنا، مع إدراك بأن المجلة في ذلك تسير بعكس التيارات الإعلامية العربية، المنجرفة أكثر نحو السياسي والاجتماعي بدواعٍ تْرِندِيّة، والتي كشفت عن ضحية أولى لذلك هي المضمون الثقافي المختص، كما يلحظ أحدنا بالنظر سريعاً.

أعرف أن لا الداعمين والشركاء الحقيقيين أو المفترضين، ولا القراء والزوار الواقعيين أو الافتراضيين، يبحثون عن أو يميلون إلى المادة الثقافية مقابل مادة الشأن العام المعني بها الجميع وغير الاختصاصية. لكن لمَ قد نصرّ في «رمان»، رغم كل ذلك، على المادة المختصة، الثقافية بمنسوب أعلى يكون في الآداب والفنون على أنواعها؟

جانبان من خلالهما أفهم تآكل الثقافي مقابل السياسي، يتقابلان، وكلاهما ينطلق من مفردة "الاستهلاكية":

أول الجانبين هو الزائر للموقع بوصفه مستهلكاً للمادة، بوصفه أداة القياس للمواقع الإلكترونية. هنالك من يتفلسف: قُل لي عدد زائري موقعك، ومتابعيه في وسائل التواصل، أقُل لك من أنت أو مدى أهميتك وتأثيرك. ولا تكون إجابة بمستوى ذلك، سوى بالقول: أعطني مجلةً "تختص بالشأن العام" أعطيك جيشاً من المتابعين. ليس هذا منطق الموقع الثقافي على كل حال، لكنه كذلك للموقع العام الذي، لذلك، نحّى الثقافي جانباً، أو همّشه. فالمنطق الاستهلاكي منتشر في تقييم المواقع الإعلامية، وذلك لا يعلو إلا بالتخصص في الشأن العام، ولحاق التْريندات حيثما تعلو. النتيجة إذن: تنحية للثقافي الاختصاصي، واتهامه -الشعبويّ- بالنخبوية.

الجانب الآخر في الاستهلاكية هو الزائر ذاته، أي المستهلِك لا المادة المستهلَكة. هو نحن، قرّاء وكتّاب بوصفنا زائرين. أنا كالكثير غيري لحقت مواد سياسية أكثر من غيرها في العام الأخير، فالحرب الإبادية، وتوالي الخبر السياسي في المشرق العربي، أزاحنا، كقرّاء، عن الثقافي باتجاه السياسي، حتى في أكثر لحظاتنا خصوصية، فأنا، أظنني أتشارك مع الكثيرين بذلك، قرأت كتباً عن فلسطين -أو سياسية- في العام الأخير، بالمقارنة مع الفنون والآداب، أكثر مما فعلته في الأعوام السابقة. لا ينتبه أحدنا إلى نفسه، يقف أمام مكتبته لينتقي كتاباً، وتلقائياً ينتشل كتباً في السياسة والتاريخ والفكر والاجتماع مبتعداً عن غيرها، فلا مزاج للسينما والأدب والنقد مثلاً، وذلك ينسحب على المقالات والقراءات القصيرة. وجدنا أنفسنا، كقرّاء، مستهلِكين على حواف الخبر السياسي الراهن. ما جعل من الإنتاج الثقافي، والفعل كالكتابة مثلاً، خلال كل تلك الأشهر، متقلّصاً بدرجات قصوى.

في مواجهة ما أفهمه جانبين لحالة الاستهلاك التي كانت الثقافة ضحيتها الأولى، بدأنا في «رمّان»، مع الانطلاقة الجديدة قبل شهرين، بالاقتراب أكثر من فلسطين، بالكتابة لفلسطين، من فهمنا الخاص والتخصصي للمعنى الثقافي لذلك، أي الاقتراب من باب الآداب والفنون، فلا نعامل القرّاء بوصفهم مستهلِكين ولا نتعامل ككتّاب، بوصفنا مستهلِكين. نحاول التشبّث بهويتنا الثقافية، مدركين الحاجة لصحافة ثقافية متخصصة فلسطينية، وذلك برفض محاولة "إبادة" الفعل الثقافي كذلك، إنتاجاً وممارسة. فلا نفقد جانبنا الثقافي ولا نساهم في إفقاد قرائنا جانبهم الثقافي.

كل ذلك من منطلق أننا، أن شعبنا، إن كان في ساحة معقولٌ أن لا يُهزَم فيها، بل وممكن، فهي تلك الثقافية، هي رواياتنا وأفلامنا ولوحاتنا وأغانينا...

نشرت في موقع "فارءه معاي" ضمن ملف عن الإعلام والإبادة.

الكاتب: سليم البيك

هوامش

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع