الماركسية: عن المنهجية والقوانين

من فنون الشارع في سان فرانسيسكو . ٢٠٠٩

سلامة كيلة

كاتب ومفكر من فلسطين

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

03/01/2017

تصوير: اسماء الغول

سلامة كيلة

كاتب ومفكر من فلسطين

سلامة كيلة

ولد في مدينة بيرزيت في فلسطين سنة 1955. كتب ويكتب في العديد من الصحف والمجلات وأصدر العديد من الكتب التي تتناول بشكل أساسي الماركسيّة. عمل في المقاومة الفلسطينية ثم في اليسار العربي ، ولازال ينشط من أجل العمل الماركسي العربي. مطلوب للسلطات الإسرائيلية بتهمة العمل المقاوم. اعتقلته السلطات السورية بعهد حافظ الأسد من سنة 1992 إلى 2000، واعتقلته السلطات السورية بعهد بشار الأسد لمشاركته في الثورة صيف 2012 وتعرض للتعذيب في المخابرات الجوية، ثم تم ترحيله من سوريا إلى الأردن.

الماركسية لم تأتِ بأفكار فقط، وبالأساس، بل أتت بما يُعَدُّ نقلة نوعية في التاريخ البشري. فقد بلور ماركس استناداً الى هيغل (الجدل) وفيورباخ (المادية) منهجية عُدَّت نقلة نوعية في تطور الفكر، بعد أن بلور الجدل المادي. فبعد منطق أرسطو، المنطق الصوري، بات هناك الجدل المادي. وهي نقلة في الفهم نقلت التفكير من الشكل والسكون إلى الجوهر والصيرورة، بدءاً من الشكل والسكون كلحظة أولى.

هذه هي أهمية الجدل المادي، وهذه هي أهمية الماركسية، وأهمية ماركس بالتحديد. حيث أنها تفرض “تغيير” منطق التفكير، وتنقل النظر من المنطق الصوري إلى الجدل المادي. هذا هو أس الماركسية، أي الأساس الذي يشاد عليه كل بناء الماركسية، والأساس الذي يفرض إعادة البناء في كل لحظة، لأننا “لا نستطيع الاستحمام في ماء النهر مرتين”. وبالتالي فهو منهجية التفكير التي تحكم نظرنا في كل لحظة، وتجعلنا في “بحث دائب” في الواقع، وفي ملاحظة كل تغيُّر فيه، ومن ثم الوصول إلى استنتاجات جديدة أو إعادة إنتاج الاستنتاجات ذاتها.

طبعاً الماركسية ليست المنهجية وحدها، فهي تحوي المصطلحات والمفهومات والقوانين كذلك. وتراكم فيها الكثير من التصورات والأفكار والمواقف، وبات لها تراث كبير من النتاج الفكري. لكن لا بد أولاً من التوكيد على أن الجدل المادي يبقى هو “الحقيقة المطلقة” (إلى الآن) ما لم يتبلور منهج جديد أكثر علمية. وبالتالي فهو المرجعية الأساس، والفاصل في تحديد العلمي من غير العلمي، الماركسي من غير الماركسي. وهذا يشمل التصورات والأفكار والمواقف، لكن كذلك القوانين والمفهومات، لهذا هي أس الماركسية. والسبب في ذلك يتعلق بأن الجدل المادي هو “طريقة التفكير” في الواقع بما يعنيه من وجود وأفكار وبنى، وبالصيرورة ذاتها من الماضي إلى الراهن والمستقبل. وعلميته نابعة من آليات التفكير هذه، التي تؤكد الانطلاق من الواقع، من الوجود، كما هو وفهمه “من داخله” وفق الآليات التي جرى اكتشافها من خلال دراسة الصيرورة التاريخية، وهي المبادئ (أو القوانين) التي يقوم عليها الجدل (أي التناقض، التراكم الكمي والتغيّر النوعي، ونفي النفي أو التركيب). وهذا هو ما اكتشفه هيغل وهو يدرس صيرورة تطور الفلسفة، ولمس صيرورة الواقع عبرها انطلاقاً من أن الفكرة هي التي تصيغ الواقع. وأسهمت “مادية” فيورباخ إلى أن يقلب ماركس الأمر لـ “يوقف هيغل على قدمية”، حيث أن الأفكار هي نتاج الوجود وليس العكس.

هذه النقلة هي التي أسست الماركسية، وهي الإضافة الكبرى في التاريخ البشري. وهي الفاصل بين الماركسي وغير الماركسي. لكن لا بد من التأكيد أن في الماركسية مصطلحات “ثابتة”، بعضها هي مصطلحات عامة تتكرر في الفكر، وهي ترميزات لأشياء أو حالات أو أفعال، جرى التوافق عليها لكي تكون أساس القدرة على التفاهم عند التعبير عن الأفكار. وبعضها مصطلحات تخص الماركسية، وأيضاً جرى تحديدها من أجل فهم الأفكار، جزء من هذه المصطلحات متداول في الفكر قبل الماركسية، أو أنتجته تيارات أخرى، وجزء آخر التصق بالماركسية لأنه ولد معها. وهذه توضع ضمن “القاموس الماركسي”، أي كمصطلحات متوافق عليها. وليس من الممكن “اللعب” بهذه المصطلحات وإلا تشوش التحليل وتشوشت الماركسية. وليس من الممكن استخدامها في غير مواضعها.

ويمكن قول الأمر ذاته حول المفهومات، حيث أن ضبطها أمر حاسم في قدرة الجدل المادي على تحليل الواقع. فقد حددت الماركسية مفهومات مثل نمط الإنتاج، قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، فائض القيمة، معنى الدولة، معنى الأيديولوجية، البنية التحتية والبنية الفوقية، الثورة الاشتراكية، الأمة، وكثير غيرها. ولا شك في أن هذا المستوى إشكالي، سواء نتيجة الاختلاف حول معنى هذه المفهومات أو بعضها، أو نتيجة إدخال أفكار بصفتها مفهومات. فهنا يختلط المفهوم بالفكرة التي هي نتاج تحليل واقع معيّن، حيث يميل بعض الماركسيين إلى تحويل بعض الأفكار إلى مفهومات. ولهذا لا بد من التعامل مع المفهومات بحذر، وتدقيقها تأسيساً على المنهج.

هذا الأمر يطال القوانين كذلك. حيث أن كثيراً من الأفكار التي أتى بها ماركس وإنجلز أو لينين أو تروتسكي أو ستالين أو ماو، باتت تُعتبر قوانين. ولقد دخلنا في وضع بات كل ما قيل باسم الماركسية قوانين، خصوصاً من “الكبار”، وهو ما أسَّس لدوغما مفرطة. فالقوانين هي نتاج التجربة، والتكرار، هي نتاج تحليل الواقع وتكرار النتائج في مرات عديدة على حالات مختلفة. بالتالي هي نتاج فعل المنهج في الواقع، بعد تكرار النتيجة ذاتها في أوضاع مختلفة. وهذا ما يجعل التأكيد على وجود قانون يحتاج إلى تدقيق شديد، بالضبط لأن ذلك يعتمد أساساً على تحليل الواقع المتغيّر، المتعدد، انطلاقاً من الجدل المادي. ومن ثم لا يجوز استسهال التأكيد على وجود قانون ما. وهذا الاعتماد على الجدل المادي هو الذي يحسم بوجود قانون أو عدمه، لأن تحليل الواقع في لحظة معينة وزمان معيّن، يحدد النتيجة التي يمكن أن تتطابق مع القانون أو أنها مفارقة له. وبالتالي فإن المنهجية وحدها هي التي تسمح بالوصول إلى القوانين، وهي وحدها ما يؤكد صحته أو عدمها.

ولا شك في أن خلطاً، أو اختلاطاً، يجري بين المفهوم والقانون، رغم أن المفهوم محدَّد مسبقاً بينما ينشأ القانون عن تحليل الواقع، وتكرار الظواهر فيه، وهو التكرار الذي يمكن أن يفضي إلى التوصل إلى القانون. فمثلاً قانون التطور اللا متكافئ هو نتاج تحليل ظروف متعددة أوصلت إلى نتيجة أن التطور يجري بشكل غير متكافئ. ومثلاً قانون ميل الإمبريالية للتوسع الخارجي و”تقاسم العالم” هو نتاج تحليل وضع الإمبريالية، وما يفرضه تشكّل الاحتكارات والرأسمال المالي من ميل لتصدير السلع والرأسمال. لكن سنلمس “التداخل” في بعض الأحيان بين المفهوم والقانون، حيث يمكن أن يكون مصطلح ما مفهوماً، ومن ثم كذلك يكون قانوناً، ربما هنا في إطار الموقع الذي يستخدم به.

طبعاً، بالتأكيد، إن بلورة المفاهيم هو نتاج دراسة الواقع، لكن المفهوم هو التجريد الذي ينتج عن ذلك، ويصبح “مبدأً” يستخدم كـ “بديهية” ونحن نبحث في الواقع. يصبح من “المسبقات” مثل الجدل المادي وقوانينه، رغم اختصاص المفهومات بحقول معينة. فمثلاً حين البحث في المجتمع يستدعي البحث مفهومات الاقتصاد وقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج والطبقات وفائض القيمة، والدولة والأيديولوجية، كمفهومات يقوم عليها الجدل المادي، وتصبح هي الترميزات التي ينطلق منها هذا الجدل.

وطبعاً حتى القوانين تخضع للجدل المادي عند تناول الواقع، حيث تكون جزءاً من “آلية” البحث في الواقع. لكن في المفهومات بات واضحاً أنها مفهومات “ثابتة”، باتت محدَّدة مسبقاً، أما في القوانين فهي تخضع للواقع، وللبحث في الواقع المتغيّر.

من ثم يمكن أن نقول بأن الانطلاق من المنهج، أي الجدل المادي، يوصل إلى القوانين، ويبلور ما يمكن أن يكون قد تبلور قبلاً. لكن الانطلاق من القوانين وحدها لا يوصل إلى المنهجية، لا يعيد إنتاج المنهجية، بل يفتح على الانزلاق إلى المنطق الصوري، حيث تتبلور أفكار استنسابياً إلى قوانين وتصبح هي التي يقاس الواقع عليها، أو تصبح هي التي يجري “فهم” الواقع عبرها. تصبح هي المنهجية التي تحكم النظر إلى الواقع، وهذا أساس المنطق الصوري، الذي ينطلق من “مبادئ” يجري فهم الواقع عبرها. أو قياس الواقع بها، فيكون إما موافقاً لها فهو صحيح، أو منافٍ لها فهو خاطئ. وبالتالي يجري القفز عن الجدل المادي لمصلحة عودة مؤسفة إلى المنطق الصوري. ويمكن أن نؤكد هنا أنه حتى القوانين الصحيحة لا بد لها أن تُربط بالجدل المادي، أن تخضع وهي تُصبح جزءاً من فهم الواقع للجدل المادي.

الجدل المادي هو أس الماركسية، وهو الآليات التي يقوم بها الذهن وهو يبحث في الواقع، والذي يستدعي لكي يقوم بذلك مصطلحات ومفهومات وقوانين، حسب المستوى الذي يبحث فيه في المجتمع. حيث تنطلق الماركسية من قسْم الواقع إلى مستويات: الاقتصادي، الطبقي، الأيديولوجي والدولة، وتحاول ربط ذلك بالطبيعة أيضاً.

الكاتب: سلامة كيلة

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع