وداد لا تنحت في اللغة مثل الكثير من شعراء جيلها، بل هي تحفر في اللغة و تعمق فيها إلى درجة تغمي القارئ وتعميه، هي تخلق مساحات في العمق من مشاعرنا، تمسك بيدنا وتدلنا على جرحنا، تأشّر نحو السرطان الذي يفتت مخيلتنا ونحن لا نحرك شعراً. لدى وداد الكثير من المآسي القادرة على أن تفجعنا بها في كل سطر وفي كل نقطة وفاصلة، هي كلها معان غير واقعة تحت مجاز بلاغي وامتحان إيقاعي ملتبس، بل لا تقبل شروحات لفظية متقطعة ومتسارعة، تبدو كأنها امتزاج شفيف بين الدال والمدلول وبين الرؤيا والرؤية، ليأتي النص موصولاً أو متصلاً بداخله، وببنيته التركيبة الواحدة، و المقاطع الوهمية التي اجتزأت النصوص بكاملها لترسم حدوداً وفواصل تكمل نصوصها السابقة، «ظهيرة حب.. ظهيرة حرب»، 2013، فاللغة مازلت متقدة ومشعة وأيضاً محفّزة كما كانت في نصها «سأحبك أكثر بعد أن تنتهي الحرب»، والايحاء والصمت والهوامش والرتوش واللواحق اللغوية هي نفسها كما في «أزهار برية».
كأن وداد تحاول أن تأسس أو تعيد كتابة قصيدة طويلة جداً عبر ثلاث مجموعات، تريد من جديد إشعال السؤال القديم الجديد وهو متى يفترق الحب عن الحرب وينفصل الموت عن رئتنا؟ سؤال تظل تسأله الشعرية السورية قبل وبعد الثورات العربية الفاشلة التي أحدثت شروخاً جيو-شعرية في البنية الدلالية والشكلية للقصيدة العربية بشكل عام والقصيدة النثرية بشكل خاص، والمتابع القريب من المشهد النقدي سيلحظ حقيقة واضحة للخلخلة التي أعادت صناعة الخيبات والهزائم من جديد عبر توافد مدارس وأنماط تعبيرية صبغت النص الشعري ببياض من نوع آخر وما عادت قصيدة «البياض» تضفي البياض على روح القهر والهزيمة التي عشعشت في خلايانا:
“لم أحلم بحياة طويلة/ يكفيني تسعة وعشرون عاماً/ بصحبة قلبي المتسخ كسجادة ممدودة امام باب جامع ضخم/ قلبي المتسخ/ الذي سيتحول إلى تراب ستمشي عليه بقدميك/ في يوم ماطر/ وستستنشق رائحتي ممتزجة بالتراب/ وتقول: أهٍ طويلة كنهر أمازون/ فيما الهواء الذي يعبر رئتي يتجول كعازف ساكسفون في رئات الرجال الغرباء”
نص «الموت كما لو كان خردة» يحكمه السرد الحكائي حيناً والنثر الشعري في أحيانٍ أكثر، السرد والوقائع والتشكيلات البصرية، أزمنة مبعثرة بأمكنة تائهة، تظهرها الشاعرة على شكل لوحات تأملية: ”حلب“ المدينة الجغرافية وحلب المكان الشعري بزمنيته وحكاياته، “الذاكرة والذكريات“ وأسرارها، ”الحياة والصخب والشغف“، هو إذاً نص حكائي حاشد بالتفاصيل التي تنفجر في القارئ وترميه خارج النص، في إطار اللوحة وحاشتيتها، ما بعد خلفية الصورة:
”حلب.. رئةٌ ثالثة تتسكعُ/ بشوارعها الخراب/ بأزقتها المفروشةِ بالأنقاضِ/ وفوارغِ الرصاص والأحلام/ جسارةُ آلهة/ تتجولُ كمغنٍ بلا صوت/ حول أحيائها المزكومةِ/ برائحة TNT/ ونفايات الخردة القاتلة“
إلى جانب آخر ملاصق بالنصوص الطويلة تستمر الشفافية والرقة والطهارة اللفظية في أبهى تخيل لها، طهارة المفردة الواحدة وطهارة المفردة ذات المعنى المتوالد، طهارة الأشياء، طهارة الأسئلة، أسئلة الموت وما يناقضه، الموت وتقلباته وشهواته، الأمكنة التي تتشكل بشغف لا حد له، وبرقة جريحة تشعر كأنها فضاء في كتاب:
”لا تعانق جلنارا هشا/ وصبية بعينين بنيتين/ قاتل هو القلب/ قرن غزال يجرح عشب الطريق/ والجلنار مقصلة الشعر/ لذائبات الحنين/ يا حب/ الصبية ذات الشعر الطويل/ ضمها لغدك/ استحوذها شمسا ترقص/ كخنجر فضة على مياه الغريب/ وخذ رائحتها تميمة/ لغد البلاد بأنقاض الحروب/ وليكن اسمها/ نقشاً صوفياً معلقاً/ بلا مبالاة الحنين.“
تقول وداد عن كتابها الشعري في مكان ما: «الموت كما لو كان خُردة» ”يلخص فكرة الموت عندما يصبح خردةً، وذلك عندما تتحوّل صور الحياة من حولنا فتنمو أزهار الصبار في أحواض المدن المهجورة. وتسقط “طرود البؤس على رأس هذا العالم”، وينمو “العشب في قفل الباب“