أَثار الزَّميل أَنور حامد في مقالته المنشورة بتاريخ 24/7/2021 تحت عنوان “الرِّواية الَّتي تحوَّلت إلى شبه “مدرسة نقديَّة”” سؤالاً مهمَّاً حول لغة السَّرد في الرِّواية العربيَّة، مستشهداً برواية “الحارس في حقل الشُّوفان”، ترجمة غالب هلسا، معتبراً أَنَّ التَّرجمة العربيَّة لا تعكس أَبداً لغة النصِّ الحقيقيَّة، حيث جاءت لغة النصِّ الأَصليَّة منسجمة مع طبيعة الشَّخصيَّة الرئيسيَّة في الرِّواية، وهي شخصيَّة غير مهذَّبة، تستخدم بطبيعتها أَلفاظاً سوقيَّة، ولأَنَّ ذلك لا يتلاءم مع ذوق القارئ العربيِّ، اضطرَّ المترجم إلى تهذيب هذه اللُّغة ما أَحدث قطيعة بين طبيعة الشَّخصيَّة، ولغة السَّرد حسب التَّرجمة العربيَّة.
ثمَّة مجموعة مهمَّة من الأَسئلة على صعيد لغة السَّرد الرِّوائيِّ أَثارتها المقالة، ولأَنِّي كنتُ قد تعرَّضتُ في مقالات سابقة لإشكاليَّة لغة السَّرد أَثار الأَمر اهتمامي، ووجدت ثمَّة ما يستحقُّ الوقوف أَمامه، وإعادة إثارته من جديد.
لا شكَّ طبعاً بأَنَّ هناك إشكاليَّة في تقبُّل القارئ العربيِّ بشكل عامٍّ لأَيِّ لغة غير مهذَّبة في سياقات العمل الأَدبيِّ، على الرِّغم من أَنَّ القارئ يعيش هذه اللَّغة في الشَّارع يوميَّاً، ويراها، ويسمعها، وكأَنَّ القارئ بذلك يحاول أَن يفصل بالفعل بين لغة الشَّارع –العاميَّة- ولغة الأَدب، حيث يعتبر لغة الأَدب هروباً من لغة الشَّارع، وواقعه الملوَّث، من هنا، قد يضفي القارئ عادة نوعاً من القدسيَّة على النصِّ الأَدبيِّ، فيرفض بشدَّة أَن يحمل النصُّ الأَدبيُّ ما يخدش الحياء، حيث جرت العادة على تقديس هذه اللُّغة انطلاقاً من كونها لغة القرآن، بل يذهب الأَمر إلى أَبعد من ذلك، حين يرفض الكثير من القرَّاء أَي مشهد جنسيٍّ في العمل الأَدبي، مهما كانت أَهميَّة هذا المشهد، وضرورته للعمل.
عودة إلى “الحارس في حقل الشُّوفان” ولغة شخصيَّتها البذيئة، أَو أَيِّ رواية أُخرى، شبيهة، تستند إلى لسان شخصيَّتها، دون راو وسيط، فلا شكَّ أَنَّ هناك مجموعة من المعضلات في السَّرد، لم تستطع المدارس الحديثة الإجابة عليها، وما زالت معلَّقة وبحاجة إلى إجابات، مثلاً كيف بوسع جنين أَن يكون راوٍ؟ أَو رجل ميت سريريَّاً؟ أَو هل ستكون الرِّواية أَحد هموم طفل أُمِّيٍّ أَو شبه أُمِّي في السَّادسة عشرة من عمره؟ أَو رجل عامِّيٍّ لا يؤمن أَصلاً بالكتابة؟ أَم إنَّ من أَخذ على عاتقه رواية الرِّواية هو شخص سمع الحدث، وأَعاد روايته من جديد؟
لا شكَّ أَنَّ المدرسة الكلاسيكيَّة كانت قد تجاوزت هذه المعضلات من خلال الرِّاوي العليم، المتمرِّس، صاحب الحقِّ والوصاية في السَّرد، وصاحب الصَّوت الواحد، لكنَّ المدارس الحديثة الَّتي ذهبت باتِّجاه عالم اللاَّشعور، والتَّداعي، وتعدُّد الرُّواة، والأَلسنة، لحاجتها لمواكبة التطوُّر في علم النَّفس، وسبر أَغوار الذَّات البشريَّة، وتداعياتها، ودوافعها، أَصبحت تقف أَمام سؤال التَّجربة الذَّاتيَّة لكلِّ شخصيَّة راوية، وإمكانيَّاتها اللُّغويَّة، والمعرفيَّة، وعليه فبعدد الشَّخصيَّات الرَّاوية سيكون هناك لغات مختلفة على الكاتب أَن يأخذها بعين الاعتبار كي يصبح العمل مقنعاً للقارئ، ومتقناً، ومع ذلك سيبقى السُّؤال معلَّقاً: ماذا لو كانت هناك شخصيَّة أُميَّة؟ أَو شخصيَّة لا تؤمن أَصلاً بالكتابة؟ من سيكون الرَّاوي في هذه الحالة؟
ثمَّة إذن إشكاليَّات حقيقيَّة بحاجة إلى إجابات مقنعة، وسينسحب هذا الأَمر بالضَّرورة طبعاً على اللُّغة الرِّوائيَّة مباشرة، فهل اللُّغة الرِّوائيَّة هي لغة الشَّخصيَّات أَم لغة الكاتب؟ وهل التَّجربة هي تجربة الشَّخصيَّات أَم تجربة الكاتب يحاول أَن يقدِّمها من خلال شخصيَّات مقنعة؟ فالحديث عن التَّفاصيل الدَّقيقة لعلم ما، يحتاج إلى شخصيَّة هضمت هذا العلم وعاشت تجربته، مثلاً، هذا شيء بديهيٌّ، ولكن ماذا عن اللُّغة الرِّوائيَّة في هذا الشأن؟
لقد استعرض أَنور حامد مجموعة من الأَمثلة المتنوِّعة على الرِّواية العربيَّة، منها رواية “ترانيم الغواية” لليلى الأَطرش، الَّتي تعير الشَّخصيَّة لغتها كروائيَّة، على حدِّ تعبيره، وأَجرى مقارنة بينها وبين لغة السَّرد المتقشّفة، البسيطة، الَّتي تحمل السَّرد ولا تكون هدفاً بحدِّ ذاتها، عند نجيب محفوظ، والطِّيب صالح، واللُّغة الشِّعريَّة عند أَحلام مستغانمي، ثمَّ لغة سالينجر، الَّذي “لم يهذِّب لغة الشَّخصيَّة ولا أَخلاقها”، ومن هنا كان الاعتراض أَصلاً على ترجمة غالب هلسا للعمل.
إنَّ السُّؤال الَّذي ما زال قيد الحوار بين أَنصار “مدرسة الكتابة الرِّوائيَّة الجديدة” وأَنصار كلاسيكيَّة الرِّواية، هو هل يمكن التَّنازل عن الحدث في الرِّواية لصالح جماليَّات اللُّغة؟ وهل يمكن أَن تبني اللُّغة رواية دون حدث ومكان وزمن وحتَّى شخصيَّات أَحياناً؟ ما الَّذي سيتبقَّى من الرِّواية في هذه الحالة؟
يحقُّ لنا -حسب وجهة نظري- كقرَّاء، أَن نقف أَمام أَيِّ عمل أَدبيٍّ أَنفقنا على قراءته ساعات من عمرنا الثَّمين، لنسأَل: ما الَّذي أَراده الكاتب من هذا العمل؟ وإذا فشلنا في الإجابة عن ذلك السُّؤال نكون قد أَضعنا تلك السَّاعات في العبث، وقد يقول قائل إنَّ العمل الأَدبيَّ -والمقصود الرِّوائيَّ هنا- يحتمل فكرة الجمال من أَجل الجمال، أَقول إنَّ واقعنا لا يحتمل هذه الفكرة أَصلاً في أَيِّ عمل فنيٍّ، خصوصاً الرِّواية، إذ إنَّ الظُّروف الذَّاتيَّة والموضوعيَّة للواقع الاجتماعيِّ لم تصل بعد إلى هذا النُّضج، وإنَّ الفنَّ في المجتمعات المقهورة لا يمكن أَن يكون من أَجل الفنِّ لأَنَّ الشُّعوب المقهورة لا تملك ترف تلك المتعة.
من هنا سنجد أَنَّنا بالفعل أَمام أَربعة نماذج لا ثلاثة كما ذكر الأُستاذ أَنور في مقالته، والنَّموذج الرَّابع هو النَّموذج آنف الذِّكر، ذلك النَّموذج الَّذي لا يعير أَيَّاً من عناصر الرِّواية أَيَّ اهتمام، ويعتبر اللُّغة هي العنصر الوحيد للعمل.
إنَّ الفكرة الناضجة بحاجة إلى لغة ناضجة قادرة على استيعابها، وشبيهة لها، وهنا، نقف نظريَّاً أَمام الشَّكل والمضمون، والعلاقة بينهما، وهذا بالضَّبط ما قد يفسِّر ما ذهب الأُستاذ أَنور له، إنَّ فكرة الرَّفض الاجتماعي في “الحارس في حقل الشُّوفان” على لسان مراهق فاشل بحاجة إلى هذه اللُّغة بالذَّات، ولا يمكن أَن تكون هذه اللُّغة مهذَّبة لأَنَّ التَّهذيب في اللُّغة من شأنه أَن يحدث تناقضاً ما بين الشَّكل والمضمون، لكنَّ الأَمر لا يقتصر في الحقيقة على ذلك فقط، والمقارنة بين نصوص أَحلام مستغانمي، ونجيب محفوظ، والطيب صالح، مقارنة ليست عادلة أَبداً، إذ إنَّ محتوى العمل هو الَّذي يفرض طبيعة الشَّخصيَّات، والشَّخصيَّات هي الَّتي تفرض اللُّغة، أي أَنَّنا نملك ثلاثة أَركان للعمل: المحتوى، والشَّخصيَّات، واللُّغة، وهي متضافرة إلى ذلك الحدِّ الَّذي يجعل من احتجاج الأُستاذ أَنور مشروعاً بما يخصُّ لغة “الحارس في حقل الشُّوفان” ولكنَّه ليس مشروعاً بخصوص أَعمال يتطلَّب محتواها شخصيَّات متأنِّقة تنطق بلغة متأَنِّقة تشبهها.
إنَّ للُّغة طاقة داخليَّة تتمثَّل في كثير من العوامل، وقد تكون هذه الطَّاقة سلبيَّة، أَو إيجابيَّة، فللأَصوات حسب علماء اللُّغة طاقة متفاوتة، تخلق ردود أَفعال متفاوتة، تتدرَّج تفاعلات الحواسِّ البشريَّة معها، وردود الأَفعال تجاهها، من النَّوم العميق حتَّى الفزع والرُّعب، والحروف المكتوبة تحمل دلالات الأَصوات في الوعي، والعمل الرِّوائيُّ النَّاجح هو ذلك العمل الَّذي يستطيع صاحبه أَن يوفِّق بين المحتوى، أَي الفكرة، والقالب، أَي اللُّغة الَّتي تحتوي هذه الفكرة، من هنا يمكن القول إنَّ اللُّغة النَّاعمة لا تليق بالتأكيد “بالحارس في حقل الشُّوفان” لكنَّها، أَي هذه اللُّغة النَّاعمة، الحالمة، القادرة على توليد حرارة الشُّعور بالنصِّ، دون الهروب داخل هذه اللُّغة من واقع النصِّ ذاته، تكون هي اللُّغة المطلوبة حين يُراد منها حمل الحالة الشُّعوريَّة لهذا النصِّ.