لا شكَّ أَنَّ ما يميِّز الثَّقافة هو السُّلوك، أَي انعكاس المعرفة على السُّلوك، فتبنِّي ثقافة بعينها من خلال استحضارها أو اختراعها أَو اجتزائها، أَو الإضافة إليها، سيخرج هذه الثَّقافة من حيِّز العمل النَّظريِّ إلى حيِّز التَّطبيق، وقد يعتبر التَّطبيق -كما عبَّر عن ذلك لينين- هو المَحكُّ الرَّئيسيُّ للنَّظريَّة، وميزان اختبارها الَّذي سيثبت في نهاية المطاف إن كانت هذه النَّظريَّة صالحة للحياة، أَم إنَّ تطبيقها سيودي بصاحبه إلى الجحيم مهما بدت في خطوطها العامَّة مقنعة وحقيقيَّة.
لقد جرت العادة أَن يتمثَّل النِّظام السِّياسيُّ ثقافة بعينها، لتمثِّله، كدعامة رئيسيَّة له، يتبلور من خلالها، ويبرِّر وجوده على أَساسها، ويجنِّد المنظِّرين لها، من هنا يمكن فهم اندثار الكثير من النَّظريَّات الثَّقافيَّة الَّتي لم تجد من يتبنَّاها، ويعيد بلورتها، ويضعها على محكِّ التَّطبيق، ليثبت قدرتها على الاستمرار والبقاء، وسيبرز السُّؤال هنا جليَّاً حول سيرورة الواقع البشريِّ، وإن كان بالفعل يسير باتِّجاه صحيح، كما يحاول البعض أَن يزعم، أَم إنَّ ثمَّة ثقافات طغت على ثقافات عبر التَّاريخ، وقادت الواقع باتِّجاه خاطئ.
سيبرز ذلك السُّؤال بشكل أَوضح في حالات الهزيمة، فالهزيمة تستدعي النَّقد، والتوقُّف أَمام الأَخطاء، والأَسباب، والمسبِّبات، فما دام ثمَّة هزيمة إذن ثمَّة خطأٌ، وخلل بحاجة إلى التوقُّف أَمامه.
يجب التَّفريق بالضَّرورة بين خصوصيَّة الصِّراع العربيِّ-الصُّهيونيِّ وهو الإطار الأَوسع، وبين الصِّراع الفلسطينيِّ-الصُّهيونيِّ، وهو جزء من كلٍّ وإن بدا هو النُّواة الَّتي تعطي للصِّراع ملامحه وتفاصيله الدَّقيقة، فحلُّ الأَوَّل لن يؤدِّي كما قد يتهيَّأُ للأَذهان إلى حلِّ الثَّاني، وسيظلُّ الثَّاني جزءاً من الأَوَّل، بكلِّ امتداداته المستقبليَّة المُفترضة.
ثمَّة خصوصيَّة مهمَّة في الصِّراع الفلسطينيِّ-الصُّهيونيِّ لا تخفى على أَحد، لذا ربَّما ذهب الكثيرون ونحن منهم إلى القول بأَنَّ ما يجري هو صراع وجود، أَي صراع نفي، فالمنتصر لأَسباب كثيرة سيحاول نفي الآخر تماماً، لأَنَّه يدرك أَنَّ مجرَّد وجود الآخر يعني استمراريَّة تهديد وجوده.
من هنا سيعبِّر الدكتور محمَّد عبيد الله، الَّذي قدَّم لكتاب زكارنة، عن مفهوم الهويَّة: ” فالهويَّة ليست ترفاً في حالة مجابهة الاحتلال”.
ليس ثمَّة من لا يدرك أَنَّ الاحتلال الصُّهيونيَّ يستهدف الهويَّة الفلسطينيَّة ويحاول نفيها تماماً، ويعمل على ذلك بمنهجيَّة دقيقة، أَي إنَّه بمعنى آخر يلجأُ إلى فكرة تفكيك الهويَّة من أَجل تفكيك ما خلف الهويَّة، ما سيؤدِّي في نهاية المطاف إلى انهياره.
يقدِّم أَحمد زكارنة في كتابه المعنون بـ “وعي الهزيمة-إعادة اختراع المعنى” مجموعة من المقالات الملظومة في خيوط محدَّدة، تشكِّل عمودها الفقريِّ، فالفصل الأَوَّل معنون بـ “سقوف الذَّاكرة وتجلِّياتها”، والثَّاني حول “خطاب الهويَّة وتحوُّلاته”، والثَّالث حول “المكان بين تاريخ الجغرافيا، وجغرافيا التَّاريخ”، والرَّابع حول “المحمول الثَّقافي ما بين الفرديِّ والجمعيِّ”، ويؤكِّد في مقدِّمته أَنَّ الهدف الرَّئيس من مناقشة كلِّ ذلك ليس تقديم الإجابات بل إعادة صياغة السُّؤال، فمن السُّؤال تولد أَعظم الأَفكار، ليس ذلك فحسب، إنَّما سيدلِّل محتوى السُّؤال وعمقه على طبيعة الفهم للواقع، وإن كان السُّؤال قادراً بالفعل على سبر أَعماق هذا الواقع، وإن كانت الإجابات تقود باتِّجاه صحيح، فضلال السُّؤال سيعني بالضَّرورة ضلال الإجابات، وضلال الطَّريق.
إنَّ محاولات المحو لا يمكن لها أَن تنجح إلاَّ من خلال تضليل الوعي، أَي توجيهه باتِّجاه خاطئ، ما يقود بالضَّرورة إلى سياقات مضلِّلة، وإجابات بعيدة كلَّ البعد عن الهدف المنشود، وذلك الأَمر سيبدو لذي العين الثَّاقبة مغلَّفاً بلغة مضلِّلة قادرة على التَّشويش ما سيوقع المثقَّف في لحظة ما في مأزق التَّأويل، من هنا وجب التوقُّف أَمام الدَّال والمدلول، وبحث ذلك التَّرابط النَّظريِّ وأَبعاده بينهما.
يركِّز الدكتور محمد عبيد الله، وهو الأكاديميُّ والنَّاقد المتمرِّس، في مقدِّمته، على أَنَّ زكارنة يقدِّم نقداً ثقافيَّاً أَكثر من كونه نقداً أَدبيَّاً، إذ يذهب زكارنة مباشرة إلى الثيمات، بعيداً عن التَّقنيات وأَساليب السَّرد، وأَدوات المدارس النَّقديَّة الحديثة الَّتي ينحاز كلٌّ منها إلى أَفكار فلسفيَّة بعينها، ويحاول أَن يستنطق النصَّ من خلالها، سواء على صعيد الشَّكل أَو المضمون، وذلك واضح من خلال العناوين الفرعيَّة الَّتي تصدَّرت أَجزاء الكتاب.
يثير أَحمد زكارنة جملة من الأَسئلة المهمَّة الَّتي يمكن لها أَن تتوالد أَيضاً، وتقود إلى أَسئلة أُخرى، في محاولة للإجابة على أَسئلة مفاهيم الوعي، وتزييفه، ومعنى الهويَّة، ومآلاتها فلسطينيَّاً، ودور المثقَّف في الدِّفاع عن مضامينها، بل قدرة المثقَّف على استيعاب أَبعادها، وإفراز وعي مضاد للهزيمة، والمحو، وذلك الخطُّ الدَّقيق بين وعي الهزيمة، وهزيمة الوعي، وجغرافيا التَّاريخ، وتاريخ الجغرافيا، وحرب الوجود، وحرب هويَّة الوجود، ونصل الذَّاكرة الخ.
إنَّه الباحث المنحاز إلى قضاياه، يرصد الواقع وتحوُّلاته في محاولات للخروج ليس بإجابات -فالإجابات قد تكون وجهات نظر شخصيَّة- بل للخروج بقواعد وقوانين مستندة على تفاعلات الواقع ذاته وإفرازاته.
سيخلص زكارنة منذ البديات إلى قدرة المثقَّف الفلسطينيِّ على التقاط خصائص الواقع، ومعطياته، ووعيه بأَبعاد معركة الهويَّة، وسيستعرض عشرات النُّصوص الَّتي تثبت ذلك، حيث “شهدت جبهة السَّرد تحوُّلات لصالح هزيمة الهزيمة بعد أُوسلو” لكنَّ الأَمر مع ذلك ليس بتلك السُّهولة، فالمعركة الثَّقافيَّة أَكثر تعقيداً واتِّساعاً خصوصاً بعد أوسلو، حيث لم تتجلَّ النَّظريَّة الثَّقافيَّة من خلال فعل سياسيٍّ حقيقيٍّ بوسعه أَن يحوِّل الهزيمة إلى انتصار.
لقد حاول زكارنة أَن يتتبَّع مجموعة من الخيوط المهمَّة في السَّرد الفلسطينيِّ داخليَّاً وخارجيَّاً، وسلَّط الضَّوء على مراحل متعدِّدة بكلِّ إفرازاتها، أجتماعيَّاً، وسياسيَّاً، وثقافيَّاً، وإنسانيَّاً، في محاولة منه لضبط أَبعاد المفاهيم، وما تشكِّله هذه المفاهيم من مادَّة أَساسيَّة في تشكيل الوعي، وإفراز المعرفة، والتطوُّر الثَّقافيِّ، وعلاقة كلُّ ذلك بالجبهة المضادَّة، وهيمنة الإنسان على الإنسان من أجل صناعة وعي جديد.
وأَثار سؤالاً مهمَّاً حول مدى قدرة الواقع على تزييف الوعي، وإن كان المقصود بهذا التَّزييف تزييف وعي المثقَّف أَم وعي السياسيِّ، إذ إن السياسيَّ متغيِّر، والثَّقافيَّ ثابت، من هنا يمكن لنا فهم خطورة تزييف الوعي الثَّقافيِّ، الَّذي سيؤدِّي بالضَّرورة إلى محو الهويَّة واندثارها.
ثمَّة إشكاليَّات كبرى بحاجة إلى الوقوف جديَّاً أَمام كلِّ إفرازاتها: التَّاريخ، والجغرافيا، والهويَّة، والسَّرديَّة، والعلاقة مع العدوِّ وفصلها عن العلاقة مع الآخر، وشروط الهزيمة، وشروط الانتصار، والتكيُّف، والانعزال، وأَدوات الصِّراع، ومعنى الوطن الَّذي يتَّخذ شكلاً مغايراً في حالة فلسطين، والمخيَّم، والاستعمار، والتُّراث الخ.
إنَّه كتابٌ خطوةٌ في رحلة الأَلف خطوة، بداية من نوع ما، تحاول كشف ما استتر خلف ما قد يبدو حقيقيَّاً، لكنَّه ليس كما يبدو للرَّائي، إنَّه بمعنى آخر مجهر يحاول أَن يدقِّق في تفاصيل التَّفاصيل ليخبرنا في النِّهاية أَنَّ الواقع ليس كما يبدو للنَّاظر إليه.