أَكاد أَجزم أَنَّه ليست هناك أَعمال لأَديب عربيٍّ واحد حظيت بالدِّراسة، والبحث، مثلما حظيت أَعمال غسَّان، بما في ذلك أَعمال نجيب محفوظ نفسه، الَّذي فاز بجائزة نوبل، وأَكاد أَجزم أَيضاً أَنَّ مشروع غسَّان المبتور، كان يشكِّل حجر أَساس لثقافة عربيَّة مختلفة، انتبه لها العدوُّ الصُّهيونيُّ مبكِّراً، فلم يكتف باغتيالها فقط، إنَّما اشتغل على تقويضها وإعادة بناء ثقافة أُخرى مؤسَّسة على الشكِّ في جدوى ثقافة المقاومة.
ما الَّذي ميَّز غسَّان كنفاني؟ ولماذا يأخذُ كلَّ هذا الدَّور في الأَدب العربي بعد كلِّ هذه السَّنوات؟ ولماذا نحتفي به بالذَّات، وكلَّما احتفينا به نحتفي معه تلقائيَّاً بثقافة المقاومة؟ وهل يمكن القول إنَّها مسأَلة عاطفيَّة؟ هل قدَّم غسَّان كنفاني فنَّاً روائيَّاً وقصصيَّاً مقنعاً؟ أَم إنَّ استشهاده بتلك الطَّريقة المفجعة هو سبب هذا الاحتفاء كما يروِّج البعض؟ ولماذا لا نحتفي بالطَّريقة نفسها بكثير من الكتَّاب الَّذين اغتالهم الموساد الصُّهيوني؟
نحن أَمام حالة غريبة من القلق…. كان ذلك برأيي هو أَهمُّ ما يميِّز غسَّان كنفاني…
والقلق كمفهوم في علم النَّفس قد يحمل في أَعماقه دلالات سلبيَّة، كالتشاؤم، والكآبة، وهو لغة يعني الانزعاج، والحركة، واصطلاحاً، ليس مصطلحاً دقيقاً تماماً، إنَّما يحمل أَكثر من تعريف في علم النَّفس، ويقترن أَحياناً بالخوف.
وقد يكون أَحد أَسباب ظهور القلق أَحياناً هو إدراك عمق الجهل، معرفة الإنسان بضآلته، ووصوله أَحياناً إلى حالة من العبث تجاه ما يحيط به، وأَنَّه عاجز تماماً أَمام الواقع، وتختلف مظاهر التَّعبير عن القلق باختلاف شخصيَّة الإنسان، ويتراوح بين خلوٍّ تام من التوتُّر، ومحاولة اختراق الواقع، وتفسيره للوصول إلى شعور ما بالأَمان،
أَو مستوى توتُّر مطلق، قد يصل إلى حالة مرضيَّة تؤدِّي إلى الجنون أَو الانتحار.
وفي علم النَّفس الفرويدي، يحاول بعض العلماء الرَّبط بين القلق وكبت اللبيدو، أَي الطَّاقة الحيويَّة الَّتي تتمثَّل فيها غريزة الحياة، أَي الجانب الخاص من الشخصيَّة النَّاتج عن عقدة أُوديب، ينبوع كلِّ الثَّقافات الفنيَّة العليا، والأَدبيَّة، والأَخلاقيَّة.
وعلاقة القلق بالإبداع الأَدبي خاصَّة، تعود إلى أَنَّ القلق يمثِّل عند الذَّات الإنسانيَّة نوعاً من الاغتراب، فيؤكِّد فرويد حتميَّة شعور الذَّات المبدعة بالاغتراب حتَّى تتمكَّن من التفرُّد بفكرها ورؤيتها للعالم والأَشياء، وهذا الاغتراب يمثِّل نوعاً من القلق الفنِّي، الَّذي يشكِّل انعكاساً لدوافع اللاشعور الَّتي لا يمكن إزاحتها أو التخلُّص منها إلا في عمليَّات الإبداع الفنِّي، لأَنَّ الشَّخصيَّة الاغترابيَّة في الأَدب، وفي الفنِّ عموماً تعدُّ شخصيَّة إشكاليَّة، وذلك يعود لعدم خضوعها لمجمل الشُّروط الَّتي يتمُّ فرضها -قسراً- من الخارج ما يجعلها تبدو في نظر النَّاس دائماً شخصيَّة انطوائيَّة لها عالمها الخاص الَّذي تصنعه، وتشكِّله وفق مجموعة من التصُّورات الخاصَّة، الَّتي لا تعبِّر في مجملها إلاّ عن عناصر ذاتيَّة صرفة.
فأَينَ تجلَّى قلق غسَّان كنفاني الإبداعي بالضَّبط؟
يمكن القول إنَّ القلق تعدَّى كتابات غسَّان كنفاني إلى حياته اليوميَّة، بتفاصيلها، إذ ما الَّذي يجعل كاتباً يكتب ثلاث روايات، معاً، دفعة واحدة، “برقوق نيسان”، و”العاشق”، و”الأَعمى والأَطرش”؟
ما الَّذي جعل غسَّان يكتب القصَّة، والرِّواية، والمسرحيَّة، والبحث، ويرسم، ويكتب المقالة الصَّحفيَّة تحت أَكثر من اسم معاً، وبأَكثر من طريقة، ويحرِّر الصَّحيفة، ويعمل في السِّياسة من خلال عضويَّة المكتب السِّياسيِّ للجبهة الشَّعبيَّة، ويكون النَّاطق الرَّسمي باسمها؟
كلُّ هذا يقوم به رجل مصاب بالسكَّري يتناول الأَنسولين.
وكلَّ هذا يقوم به رجل بدأَ الكتابة رسميَّاً في العشرين من عمره، واستُشهد في السَّادسة والثَّلاثين.
لا يوجد ثمَّة روايتان متشابهتان لغسَّان على صعيد الشَّكل، كان القلق واضحاً في إنتاجه الأَدبيِّ، فـ “رجال في الشَّمس”، لها بنية سرديَّة تختلف عن رواية “ما تبقَّى لكم”، وهذه تختلف عن “عائد إلى حيفا”، و”أُم سعد” موضوع آخر تماماً، و”برقوق نيسان” شكل يحاول أَن يجدِّد من خلاله، و”العاشق” محاولات رسم أسطورة روائيَّة، وهكذا…
هذا عدا طبعاً عن المضمون.
في باكورة أَعماله القصصيَّة “موت سرير رقم 12” عبَّر كنفاني عن قلقه الوجوديِّ، من خلال موت محمد علي، ثمَّ في قصَّة “الأُرجوحة”، فكان ميَّالاً إلى طرح الأَسئلة الكبرى، ثمَّ تدفَّقتْ هذه الأَسئلة شيئاً فشيئاً، وبلغتْ أَوجها في أَعماله المسرحيَّة، أَسئلة الوجود ذاته، الموت، والحياة، الإله، الجنَّة، النَّار، المرأَة، الحب، العبث، الخ. من هذه الأَسئلة الَّتي كانت بالضَّرورة تقضُّ مضجع كاتب مثله.
لكنَّ غسَّان مع ذلك كان يعرف أَنَّ الانجرار وراء هذه الأَسئلة من شأنه أَن يبعده عن واقعه.
لقد استفاد غسَّان كثيراً من قراءاته باللُّغة الإنجليزيَّة، واطِّلاعه على الأَدب الغربيِّ، ووسَّع مداركه، لكنَّه مع كلِّ هذا القلق، حاول دائماً أَن يبقى ابن بيئته، أَي أَن يكبت هذا القلق ما استطاع، كي لا يفقد الصَّلة المباشرة مع واقعه.
إن القارئ لبعض قصص غسَّان، ورواية “ما تبقَّى لكم” تحديداً، وأَعماله المسرحيَّة الثَّلاثة: “الباب”، و”جسر إلى الأَبد”، و”القبَّعة والنَّبي”، سيجد قلقاً وجوديَّاً منقطع النَّظير لديه.
أَمام واقع الهجرة، والمخيَّم، والتَّشريد، والجوع، والبطالة، وضياع الوطن، والشَّعب المنكوب، شبه الأُميِّ، لن تجد من يعبأُ كثيراً بالأَسئلة الوجوديَّة المجرَّدة، لأَنَّها قد تبدو ترفاً لا يعني أَحداً، وقد أَعلن غسَّان أَكثر من مرَّة عن سخطه على الشُّعراء الَّذين انسلخوا من واقعهم، وكان لسان حاله يقول آنذاك إنَّ اليوميَّ والبسيط بوسعه أَن يستوعب كلَّ أَسئلة الوجود، وربَّما استطاع كنفاني أَن يتوِّج أَعماله الأَدبيَّة آنذاك برواية “ما تبقَّى لكم” محاولاً أَن يزاوج فيها بين الشَّكل المتمرِّد على البنية الرِّوائيَّة السَّائدة -متأَثِّراً بفوكنر- والمضمون الثَّوريِّ الَّذي يقول كثيراً ممَّا يدور في أَذهان البسطاء، على الرُّغم من أَنَّها في نهاية المطاف لاقت استحسان النقَّاد، ولم تجد صدى حقيقيَّاً لحظة صدورها لدى الشَّارع كما فعلت “رجال في الشَّمس” ما دفعه إلى كتابة “أُمِّ سعد” فيما بعد بشكل سرديٍّ مباشر.
لقد كانت صدمة عام 1948 أَكبر من أَن يستوعبها البشر، سقوط فلسطين، وضياعها، وإنشاء ما يُسمَّى “بإسرائيل” وتشريد شعب بأَكمله، وتشتُّته، لذا وقف المثقَّف عاجزاً تماماً عن الاستيعاب، أُصيب بصدمة، وصمت، وبقي هذا الصَّمت مستمرَّاً لمدَّة عشر سنوات تقريباً، ثمَّ بدأَ المثقَّف يحاول أَن يستوعب ما جرى، ويفسِّره.
إن كانت الثَّقافة ابنة واقعها الاجتماعي، والسِّياسي، والنَّفسي، فعليها إذن أَن تقدِّم إجابات مقنعة لما جرى، وأَن تسلِّط الضَّوء على مجريات الأَحداث، وأَن تستشرف بعض التطوُّرات، فهل كانت الثَّقافة الفلسطينيَّة آنذاك قادرة على أَداء هذا الدَّور؟ وهل استطاع كنفاني أَن يشكِّل فرقاً بذاته؟
لقد تسيَّد غسَّان كنفاني المشهد الأَدبيَّ الفلسطينيَّ خلال هذه المرحلة، فقدَّم إنتاجاً أدبيَّاً ذا سويَّة فنيَّة عالية، ينمُّ عن وعي وذكاء ورؤيا، على صعيد القصَّة، والرِّواية، وغيرها، يحاول أَن يجيب عن سؤال الهزيمة، ويتخطَّى ذلك، مؤسِّساً لوعي جديد، مختلف، منسجم مع الثَّورات الَّتي تلت هزيمة 48 في الوطن العربيِّ، وأَطاحت بالسُّلطة في مصر، والعراق، وسوريَّة، واستقلال الجزائر، وقد توَّج هذه الأَعمال في تلك المرحلة برجال في الشَّمس، وما تبقَّى لكم، ليقدِّم نموذجين فريدين في الرِّواية العربيَّة، يعكسان الواقع ويستشرفان المستقبل..هذا إضافة إلى قصصه القصيرة الَّتي كانت تستعرض بؤس الواقع المُعاش من جهة، وتؤرِّخ لبطولات فلسطينيَّة، وللمذابح، والصُّمود، وتوثِّق التَّاريخ، والجغرافيا الَّتي بات يعرف أَنَّه مهدَّدة بالطَّمس، والتَّغيير، ودراساته الَّتي أَشرنا إليها، إضافة إلى كونه كان أَوَّل من انتبه إلى دراسة الأَدب الصُّهيونيَّ، ومقولاته المؤسِّسة، وأَوَّل من اكتشف شعراء المقاومة في أَرض فلسطين المحتلَّة عام 1948، وقدَّمهم إلى العالم، هذا عدا عن دعمه للكثير من الأَصوات الفلسطينيَّة النَّاشئة، وتبنِّيها، مثل الشَّهيد ناجي العلي، والرِّوائي رشاد أَبو شاور، وغيرهم الكثير، لأَنَّه كان صاحب مشروع وطنيٍّ وليس مشروعاً فنيَّاً فحسب يعطي لنفسه دور البطولة فيه.
لقد استطاع غسَّان كنفاني أَن يبني مشروعاً ثقافيَّاً فلسطينيَّاً مهمَّاً من خلال اطِّلاعه، ومعرفته، ووعيه، خلال مرحلة الستِّينيَّات من القرن الماضي، لقد أَثبت أَنَّه كان يستوعب واقعه على شكل مذهل، وبذكاء، ويؤثِّر فيه، محاولاً خلق وعيٍّ جديد، وتكمن ديمومته في تلك الأَسئلة الَّتي طرحها ولا تزال بحاجة إلى إجابات، وفي هذا المشروع الَّذي لا زال قائماً حتَّى اللَّحظة يُنتج الكتَّاب والأُدباء والشُّعراء المتأَثّرين بطريقة أَو بأُخرى به.
لقد شكَّل غسَّان كنفاني بعد هزيمة عام 1948 حالة الضَّمير الشَّعبي المتراكم، وقدَّم تجربة مليئة بالرُّؤيا، وتنبَّأَ بالعمل الفدائيِّ، وقدَّم مبكِّراً فلسفة ناضجة للصِّراع، والمواجهة، وبلور شخصيِّات من الواقع، وسجَّل بطولات الفقراء، والمسحوقين، وظلَّ مصرَّاً على الوضوح في الرؤية، وعلى أَنَّ فلسطين هي كلُّ فلسطين، لذا فإن هؤلاء الفقراء والمسحوقين هم من يحتفون بتجربة غسَّان، ويحيون ذكرى استشهاده كلَّ عام، في الثَّامن من تمُّوز، شهر البعث، وكأَنَّه هو نبض السَّاعة ذاتها الَّتي ظلَّت تدقُّ على الحائط، في رواية ما تبقَّى لكم، لتذكِّر بأَنَّ أَدب المقاومة باق ما دام هناك ظلم واضطهاد واحتلال وخراب.
كأَنَّها روحه هناك، تدقُّ، تدقُّ بانتظار تحرير فلسطين.