تعرَّف الثَّقافة، في قاموس إكسفورد، أَنَّها: “طريقة الحياة، وأُسلوبها، العادات القائمة في المجتمع، المعتقدات لدى الشُّعوب، الفنون والآداب الخاصَّة بمجموعة من النَّاس، التصرُّفات والمواقف تجاه حدث، أَو شيء معيَّن، فلاحة الأَرض وتنمية محصولاتها”
وقد كان الأنثروبولوجي الإنجليزي إدوارد تايلور في كتابه “الثَّقافة البدائيَّة” عام 1871م أَقدم من عرَّف الثَّقافة، قائلاً إنَّها: “تلك الوحدة الكليَّة المعقَّدة الَّتي تشمل المعرفة، والإيمان، والفنِّ، والأَخلاق، والقانون، والعادات، بالإضافة إلى أَي قدرات وعادات أُخرى يكتسبها الإنسان بصفته عضواً في مجتمع ما”*. ولم تتوقَّف محاولات الفلاسفة والمفكِّرين منذ ذلك الوقت عن محاولات تعريف الثَّقافة، لكنَّ ما يعنينا من كلِّ تلك التَّعريفات المتلاحقة، هو ذلك التَّداخل بين الثَّقافة وتشكيل الوعي، وما يترتَّب على ذلك من سلوك.
إنَّ نظرة عميقة متفحِّصة إلى المفهوم الكليِّ للثَّقافة وتجليَّاتها ستقودنا إلى جدليَّة عميقة، بين جزء ثابت من الثَّقافة، وجزء آخر متحوِّل، ضمن علاقة ديالكتيكيَّة معقَّدة مقلقة، حيث قد يتحوَّل الثَّابت إلى متحجِّر في مرحلة ما، ضمن شروط معيَّنة، ما قد يؤدِّي إلى تقييد المتحوِّل، وبالتَّالي، ظهور تناقض حادٍّ بين الرَّوابط الجزئيَّة والكليَّة في المجتمع يؤدِّي إلى تفكيكه. أَو يتجاوز المتحوُّلُ الثَّابتَ بأَشواط-خصوصاً في ظلِّ الصِّراع الثَّقافيِّ، والانفتاح المتمثِّل بسهولة الحصول على المعلومة، وتعرُّض الثَّقافة لهجمات هدفها الإزاحة، أَو التَّحوير العميق في المفاصل الرئيسيَّة، أَو الشَّطب، أو الاحتلال -إن لم تكن هناك قوَّة ثقافيَّة-سياسيَّة-اجتماعيَّة قادرة على كبح جماحه، وربطه إلى الثَّابت، بشروط منطقيَّة قابلة للحياة.
إنَّ الصِّراع الثَّقافيَّ قديم قدم القيم والمعتقدات الثَّقافيَّة البشريَّة، وهو ناتج عن التَّعارض بين هذه المعتقدات، ومفاهيمها، ومآلاتها، وقد يكون داخليَّاً، أَو خارجيَّاً، وقد يتحوَّل في مراحل ما إلى صراع دمويٍّ حادٍّ حين لا يلبِّي الواقع تطلُّعات فئة من البشر، أَو محاولة هيمنة فئة على أُخرى.
على ذلك أَن يدفعنا إذن، أَمام المتغيِّرات العاصفة في المنطقة، نحن كمثقَّفين، إلى التَّساؤل عن ذلك التَّداخل بين ثقافتين متناحرتين في المنطقة، الثَّقافة اليهوديَّة، ونعني هنا الصُّهيونيَّة منها بالذَّات المتمثِّلة عبر “إسرائيل”، والثَّقافة العربيَّة، ونعني هنا المتحوِّل منها بالذَّات، خصوصاً بعد انهيار جدار العزلة، وتوقيع اتِّفاقيَّات السَّلام، ثمَّ ذلك الانفتاح والتَّطبيع العلني الَّذي تشهده المنطقة منذ وقت قصير، وكيف سيؤثِّر ذلك المتحوِّل على الثَّابت.
إنَّ دراسة عمليَّة التَّطبيع على الصَّعيد الثَّقافيِّ تحتاج إلى جهود استثنائيَّة من أَجل الإلمام بتفاصيلها الدَّقيقة، وسيبرز السُّؤال الَّذي لا بدَّ منه أَمام هذا الواقع: كيف ستؤثِّر إحدى الثَّقافتين في الأُخرى؟ وهل يمكن لهما التَّعايش بالفعل؟ وأَين تكمن مفاصل التَّناقض؟
ليس ثمَّة من بوسعه التَّشكيك بأَنَّ “إسرائيل” تعيش أَزمة ثقافيَّة بنيويَّة منذ تأسيسها، حيث أَطلقت الحركة الصُّهيونيَّة العالميَّة مشروعها في إقامة دولة “إسرائيل” لليهود في العالم، معتمدة على مقولة نقاء العرق اليهوديِّ، لتجد نفسها بعد عام 1948 أَمام أزمة تعريف اليهوديِّ الَّذي لم تستطع أَن تقدِّم له تعريفاً مقنعاً حتَّى اللَّحظة، وتناقضات اللَّون، والعرق، واللُّغة، والانتماء، وصولاً إلى التَّناقضات الدِّينيَّة بين الطَّوائف المختلفة، وليس انتهاء بالقنبلة الديمغرافيَّة العربيَّة الَّتي بذلت الدَّولة كلَّ جهد ممكن من أَجل إبطال مفعولها، وأَثبتت الأَحداث الأَخيرة فشل ذلك المشروع.
لذلك بوسعنا القول إنَّ ثمَّة معركة ثقافيَّة تخوضها “إسرائيل” داخليَّة، وأُخرى خارجيَّة، حيث جاء الإشكناز المحمَّلين بإرث حضاريٍّ لم يكن مختلفاً عن الإرث الحضاريِّ للمكان وأَهله فحسب، بل كان مختلفاً أَيضاً عن الإرث الحضاريِّ لليهود السَّفارد الَّذين عاشوا معظم حياتهم كشرقيِّين، ما استدعى تناقضاً صارخاً بين الطَّرفين، وصراعاً دينيَّاً وحضاريَّاً لم تستطع الدَّولة احتواءه حتَّى يومنا هذا. أَمام هذا التَّشتُّت الثَّقافيِّ الَّذي يصل أَحياناً حدَّ التَّناحر في الهويَّة، قد يبدو للنَّاظر أَنَّ هشاشة الثَّقافة ” الإسرائيليَّة” مغرية إلى ذلك الحدِّ الَّذي يدعونا للاعتقاد بأَنَّ اختلاط هذه الثَّقافة بثقافات المنطقة قد يؤدِّي إلى هزيمتها، وانصهارها في لحظة ما ضمن هذه الثَّقافات، لكنَّ الأَمر ليس كذلك.
لقد أَدركت “إسرائيل” دائماً أَنَّها ليست أَكثر من جزيرة جليديَّة عائمة في وسط مائيٍّ واسع، وأَنَّ التَّوازن الَّذي تجنح الطَّبيعة إليه في هذه الحالة هو الإطاحة بها، وابتلاعها، وإذابتها، وأَنَّ ذلك يعني ضرورة العمل الدَّائب المستمرِّ الَّذي لا يمكن له أَن يتوقَّف من أَجل الحفاظ على هذه الكينونة من الفناء، وذلك يتطلَّب دراسة كلِّ ظاهرة ثقافيَّة اجتماعيَّة بدقَّة، داخليَّة وخارجيَّة، وإخضاعها للفحص لمعرفة آثارها على المدى الطَّويل، ليس ذلك فحسب، إنَّما عليها محاولة إعادة تطويع الواقع المحيط، بما يضمن البقاء والاستمرار، وربَّما أَصبحت دولة جنوب أَفريقيا مثلاً صارخاً بالنِّسبة لمنظِّري “إسرائيل” وساستها، على هذا النُّزوع الفطريِّ للتَّوازن من قبل المجتمعات، وعمدت إلى إشاعة ثقافة أُخرى، مختلفة، في الوسط اليهوديِّ الكليِّ، ثقافة أَعلى من المعتقدات، وهي أيديولوجيَّة البقاء، المعتمدة على ثقافة الخوف من الوسط المحيط، مستخدمة وبقوَّة ثقافة الغيتو التَّاريخيَّة المسيطرة على سيكولوجيا الكثير من الإشكناز، وطوَّرت هذا الغيتو من خلال سرقة الكثير من عناصر التُّراث المحلِّيِّ -كالأَزياء، والطَّعام، والأَسماء، والأَماكن وغيرها- وشجَّعت بعض الجماعات الإشكنازيَّة على تبنِّي مفاهيم دينيَّة سفرديَّة، وركَّزت على العناصر السَّاميَّة، ودعمتها، كلُّ ذلك كان من أَجل اختزال المسافة بين ثقافة المكان وثقافة المجتمع، وتسويق “إسرائيل” كدولة حضاريَّة متقدِّمة منتمية إلى المنطقة، ولكنَّها تشكِّل حالة متقدِّمة عليها، وحاولت تسويق نفسها، منذ بدايات الانفتاح، أَي منذ ابتلاع الضفَّة الغربيَّة عام 1967، وتوقيع اتِّفاقيَّة كامب ديفيد بعد ذلك، واتِّفاقيَّتي السَّلام مع الفلسطينيِّين والأُردنيِّين، والانفتاح على المغرب وموريتانيا والخليج، حاولت تسويق نفسها على أَنَّها الجنَّة الموعودة في المنطقة، وأَنَّها تمثِّل النَّموذج الديموقراطيَّ وسط غابة الدكتاتوريَّات.
إنَّ “إسرائيل” تعي تماماً بنيتها اللاّمتجانسة مع المكان، لكنَّها، في رحلة بحثها عن الديمومة، والاستقرار، تقدِّم نفسها على أَنَّها المثل الأَعلى النَّاصع ديمقراطيَّاً، واقتصاديَّاً، وتكنولوجيَّاً، ليس ذلك فحسب، إنَّما إلى جانب ذلك تعمل على تضليل حركة المتحوِّل في الثَّقافة العربيَّة، وضرب القوى الثَّقافيَّة الضَّامنة لهذا المتحوِّل، وتوسيع الهوَّة بين السياسيِّ والثَّقافيِّ من خلال ممارسة الضَّغط على الأَنظمة السِّياسيَّة العربيَّة المطبَّعة بإعادة النَّظر في المناهج، وطرق التربية، والعلاقات السياسيَّة والاجتماعيَّة والإنسانيَّة، بما يضمن أَنسنتها، أَي أَنسنة “إسرائيل” وتعمل أَيضاً على تيئيس الفرد من المجتمع، والواقع، ما يعني البحث عن بديل كنموذج، وبالتَّالي تفضيل “إسرائيل” على الأَنظمة السَّائدة، وتكمن قدرة الثَّقافة “الإسرائيليَّة” على التأثير على المتحوِّل في الثَّقافة العربيَّة، وصولاً إلى تفكيك بنية الثَّابت فيها، ببطء، وهدوء، ليس في قوَّتها السِّياسيَّة فحسب، إنَّما في كون الثَّقافة “الإسرائيليَّة” جزءاً لا يتجزَّأُ من الثَّقافة الاستعماريَّة الغربيَّة، حيث مثَّلت الحركة الصُّهيونيَّة على امتداد مئة وخمسة وعشرين عاماً ذراعاً للاستعمار، وجزءا من أَدواته، وحالة من حالاته، لذا، يمكن القول إنَّ ما يُملى على الدُّول المطبِّعة هو مخطط استعماريٌّ شامل يستهدف المنطقة بأَسرها، تقوده أَمريكا، وبعض الدُّول الأُوروبيَّة، الرَّاعي الرَّسميُّ للدِّين الإبراهيميِّ الجديد، وثقافة نبذ العنف (ضدَّ المحتلِّ)، وإعادة تعريف الإرهاب، والدِّيمقراطيَّة، والحضارة الإنسانيَّة، والتقدُّم، والرَّفاهية، ووسط ذلك كلِّه الضَّامن لأَمن “إسرائيل” وتفوُّقها، والمتنبِّي لمشروعها (الحضاريِّ) الَّذي يشمل هيمنتها على كلِّ الثَّقافات المجاورة كي تبقى قادرة على أَداء دورها الفاعل في المنطقة، كجزء من ثقافة الاستعمار.
*تأويل الثَّقافات”مقالات مختارة”-كليفورد غيتز-ترجمة د. محمَّد بدوي-المنظَّمة العربيَّة للتَّرجمة-ص8.