لم تخلع “جنين فيرن عُرابي” كوفيتها الفلسطينية منذ بداية مهرجان ” سينيبالستين” في مدينة تولوز، ترتديها خضراء، حمراء، وبرتقالية، بحسب ملابسها، هكذا استمرت على مدة 10 أيام، تُناقش، تعرض للجمهور الأفلام، تُنظم الحضور، توزع التذاكر، تذهب إلى اجتماعات، حتى إنها تحضّر الأطباق الفلسطينية.
جنين وسمير عُرابي، زوجان فرنسيان، سمير جاء من سورية منذ عقود، لكن كلاهما اختار فلسطين لتكون قضيتهما، إنهما يمثلان ما قاله إدوارد سعيد في أحد مقالاته “الهوية بالاختيار إذا ما أردت أن تكون فلسطينيًا”، كلاهما لم يتخليا عن فرنسيتهما كما أن سمير مُخلِص لسورية وثورتها، وسينظم يومان للسينما السورية خلال الأيام القادمة، وهذا التنوع لديهما عزز أن يصنعا واحدًا من أنجح المهرجانات السينمائية في فرنسا.
غالبًا ما تنتهي المهرجانات وتبقى معك أفضل لحظاتها، فقد تحضر الكثير منها خلال العام، لكن لا يعيش معك سوى موقف واحد منها أو شعور عام لا تنساه، ولا أدري من يكون المحظوظ أنت أم المهرجان في حال كانت هذه المشاعر إيجابية. فهناك العديد منها تتسم بالفوضى، أو الضعف العام، وقد تخرج بصداع أو شعور بعدم الاستفادة، لكن هذا ما لا يحدث في عروض مهرجان سينما فلسطين في تولوز.
والسبب أن المنظمين يغامرون في تقديم الجديد، ونقاش القضايا الفلسطينية وأزمات الفيلم الفلسطيني، وهي نقاشات في العمق وغالبيتها تُجيب عن حيرة المتلقي الأوروبي لحكايات فلسطينية ملتبسة بالاحتلال والسلام وكثير من الأفكار المشابهة، خاصة من قبل الجمهور الذي لديه جذور عربية، فلا أنسى سؤال إحدى المتفرجات الفرنسيات من جذورٍ جزائرية، والتي علّقت على فيلم “استعادة” لرشيد مشهراوي تتساءل “أليس الاستعمار الفرنسي للجزائر يشبه الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين؟”، سؤال يثير العديد من الأفكار، وكانت إجابة رشيد أنه على الأقل الاستعمار الفرنسي خرج من الجزائر إلا أن الإسرائيلي احتلال جاء ليبقى، فقد صنع دولته هناك.
كما لا يمكن تجاهل الجو العائلي الذي يصنعه المهرجان، بين المتطوعين والمتلقين، ودرجة الاهتمام بالعروض، ولأن مؤسسي المهرجان هما بالأساس عائلة، هذا يجعل المهرجان بالفعل بيتًا كبيرًا سنويًا، فلا تشعر بالغربة أو أنك ضعت في كثرة العروض بل على العكس تمامًا، هناك على الدوام سمير وجنين تستطيع أن تسألهما بأي وقت وعن أي شيء وأحيانًا يتطوعان لنقلك ويوفران لك التذاكر، وهذه الطيبة والحميمة تجعلهما على الدوام يربحان الكثير من المحبة والجمهور وتحقيق الأهداف بتعريف القضية الفلسطينية لكنهما قد يخسران من راحتهما ومالهما الخاص، فلا داعم للمهرجان سوى المجلس المحلي والبلدي، إلا أنهما لا يشتكيان بل على العكس، مبتسمان على الدوام.
هذا العام ولأول مرة تواجدت المنتجات الفلسطينية قادمة من المدن الفلسطينية مباشرة، التحف التقليدية والتطريز الفلسطيني وزيت الزيتون، وهناك الوجبات اللواتي صنعتها نساءٌ متطوعات، لكن الأهم هي الأفلام التي عُرضت والنقاشات التي تُنظّم على الدوام بالتوازي مع العروض اليومية التي استمرت منذ السابع من آذار/ مارس الجاري وحتى منتصف الشهر. تقول جنين لـ “رمّان”: “المهرجان بدأناه عام 2014 من مجموعة من المتطوعين، واليوم نحتفل بنجاح دورته الثامنة” وبحسب موقع المهرجان الإلكتروني فالهدف الأساسي على الدوام التعريف بتاريخ فلسطين من خلال السينما وإثراء معرفة الجمهور الفرنسي بالثقافة الفلسطينية بشكلٍ عام.
وهنا شددت جنين أن الموضوع ليس فلسطين فقط وبهدف التعريف بها، بل إن الأفلام تستحق المشاهدة وهي سينما عالية الاحتراف، فهناك العديد من الأفلام التي تناولت فلسطين لكن تم رفضها بسبب ضعفها. وأكدت أنه من المهم أن يطّلع الجمهور الأوروبي على ثراء السينما الفلسطينية من خلال تنوع أفلامها: روائية، وثائقية، وأفلام قصيرة، وخاص الجيل الفرنسي الشاب. وترى جنين أن الأمر متبادل فالفرنسيين يتعرفون على فلسطين، والضيوف الفلسطينيين يتعرفون على مدينة تولوز، ومنطقة أوكسيتاني، وثقافتها.
أن تعود فلسطين كرمزٍ حالمٍ ثوري إلى جزء من فرنسا وتعرض في أهم صالات سينما المدينة العريقة، بأفلامها وضيوفها، هو أمر ليس بالبسيط، ويحتاج إلى كثير من العمل والجهود والحب والإيمان، فأن ترى شعار المهرجان لرسمة المرأة التي ترتدي الزي الفلسطيني تُزين الشوارع هنا، يُذكّر بشعبٍ وتراثٍ وثقافةٍ غابت لسنوات، كما يُثير أسئلة عن الفن والإبداع تحت الاحتلال، لا يحتاج الإجابة عليها سوى حضور المهرجان.