لم يعد أهل القطاع ينظرون إلى أرقام التاريخ، بشكل محايد فجميعها تعني ألماً ما أو فقدان عزيز، أو هدم منزل، لم تعد الأيام عادية، وكأن الأجندة غدت كتلة من النار. وما كاد أن يكتب أهل الساحل المكلوم بضعة ذكريات عن الحرب الأخيرة وفقدان أقاربهم إلا أن حسرة كبيرة جاءت ومسحت حسرة قديمة، فقد قتل الاحتلال شيرين أبو عاقلة. وهذا الألم يجعل الغزي إنسان عالمي بألمه غير المكرر ومقدار ما واجه من موت، بل يجب أن يأخذ بعين الاعتبار دومًا أن أهل هذه المدينة خارجين من حرب بل أربعة.
مع ذلك, لا يمكن أن يحتكر ابن/بنت هذا المنطقة الألم لنفسه، ولا يمكن أن يستمر في لوم العالم عليه، على الرغم أني أفهم جيدًا لماذا قد يحدث هذا اللوم، والإحساس بالغبن والعزلة، بل كنت إحدى اللائمات، وتعاليت على الآخرين بألمي الخاص كوني بنت غزة، لكن بعد سنوات من الغربة، أصبحت أرى ألمي من بعيد، وربما بنضج أكبر، وتعلمت كيف أنه لا يمكن أن أصغّر من معاناة الآخرين، فآخذ مكان الأفريقي وغيره، وأضعني مثالاً الظلم والضحية النموذجي.
وقد لاحظت مؤخرًا تعليقات من أهل القطاع على وسائل التواصل فيه كثير من هذا التبخيس من معاناة الآخر بل تحويل شعارات عالمية تخص أقليات مظلومة إلى فلسطينية، مثل الشعار Black lives matter، إلى Palestinian lives matter، وتساءلت منذ متى كنا نحتاج أن نرتدي أقنعة مآسي الآخرين لنقول نحن هنا، هذا تقليل بالأساس من حقنا.
حين خرج قائد حركة المبادرة الفلسطينية مصطفى البرغوثي بعد استهداف الاحتلال للإعلامية شيرين أبو عاقلة مكررًا بل مصرًا أن يُعيد آليات خطابه ذاتها منذ عشرين عامًا لكن هذه المرة أَضاف عليها “تخيل لو قتلت شيرين أبو عاقلة في أوكرانيا؟” هذا خطاب فيه رائحة عنصرية، فهو يقلل من الضحايا الأبرياء في أوكرانيا، ثم يقلل من قيمة قتلانا في زمانهم ومكانهم، لماذا نحتاج أن نقارن شيرين بآخرين؟ كما أن ما ذنب ضحايا الحرب في أوكرانيا من إعلامٍ منحاز، لنحذف ألمهم ودمهم ونضع ألمنا ودمنا بدلًا عنه.
لا يمكن للغيرة أن يكون محلها بين الضحايا، بل يجب علينا كضحايا حرب وآلة قتل متوحشة أن نتحد في رفض الفاشية سواء الروسية أو الإسرائيلية، ونكف عن المقارنات التي لا تعبر سوى عن ضعف الشعور الإنساني وضيق الأفق.
حين انتشرت صور لمحمد الكرد وهو يناصر المجتمع الكويري في فلسطين، وقبلها نشروا أن عائلة الكرد تتناول الإفطار مع إسرائيليين، كتب كثيرون “ضحينا من أجل مَن؟ متنا من أجل مَن؟، لماذا قامت الحرب بالأساس سوى من أجلكم” في تحميل لعائلة الكرد دمار ومسؤولية حرب مايو 2021، والتي بدأت تزامنًا مع محاولة الاحتلال طرد أهالي حي الشيخ جراح.
لو أردنا أن نقول الحقيقة، فالحرب ليست بتلك البراءة لتقوم من أجل مظلومين فقط، لقد قامت من أجل مصالح وعناد، وإثبات سلطة لاحقة، على الرغم من كون الحرب ليست سوى ورطة وتضييق على أطرافها، وجميعنا نرى موقف روسيا الآن التي لم يكن بالإمكانية التحدث عن فاشيتها من قبل كما يحدث الآن بعدما دمرت أوكرانيا، أو رغبتها بالسلطة ووحشتيها، وبذلك تكون حددت مكانتها بعد التورط في العدوان.
أتفهم مبعث لوم آل الكرد، وتضخم الذات بعد المعاناة التي لا تضاهيها معاناة، وسبب توزيع الاتهامات، لكن لا يحق لنا إذا كنا نريد أن نلوم أحدًا أن نفعل ذلك مع الناس العادية، بل من يملك السلاح والقرار، إلا أن الحرب قامت وانتهت، وتدمرت البلاد ومات الأصحاب.
لا يمكن أن تحولنا الآلام لحاقدين، هذا أكبر خطر تتركه المأساة الشخصية والعامة، ولا يمكن أن نكون منتقمين، بل يجب أن نبحث عن الحقيقة أولا ثم نصبح قادرين على التفوه بها، قبل أن نذهب إلى الضحايا، أو الناجين، وعائلة الكرد دفعت ثمنًا غاليًا كناجية وضحية معًا، لذلك ستبقى الأقدر على تقييم مَن يساندها، وهي تساند مَن.
لقد غدونا في عزلة من المشاعر، وروتين من الأفكار والسلوكيات حدوده القطاع، وفوق هذا جعلتنا المأساة المتكررة شديدي الحساسية وشديدي الرفض للنقد، بل شديدي الحذر من الإشارة لعيوبنا، الألم الذي نحمله على أكتافنا. أصبح نقمة بشكل أو بآخر. وأشباح الشهداء التي كانت تعطينا الصبر، حين امتلأت بهم السماء، أصبحت الذكرى ترجع بنا إلى الوراء إنسانيًا وفكريًا.
إنّ ما يحدث بيننا نحن أهل القطاع سواء في الغربة أو على أرض الرباط يذكرني بما يحدث في مجتمع السود في أميركا، “ممنوع انتقادنا… ممنوع وصفنا… ممنوع على غيرنا التقليل منا”، على الرغم أننا نبخس من كل الناس، ولا يوجد من يضاهينا في الانتقاد، بل يكاد هذا ما نفعله ليل ونهار.. لكن ممنوع لأحد أن ينتقدنا، وأهون الأمور لو كان منا وفي لوننا ولكنتنا وتاريخنا. إن عزلة الألم المضاعف والتاريخ الطويل من الحصار والمعاناة تفعل بنا كل ذلك.
أتذكر حين كنت في جلسة مع مخرجين وممثلين من الضفة الغربية قبل أعوام عديدة في مصر، وقلت لهم “أنتم لم تشهدوا حربًا مثلنا كي تشعروا بالألم”، فتبرموا وتضايقوا وأنا شعرت أن الحق معي، وأن هناك عنصرية طافحة من جهتهم، لكني اليوم اكتشفت أن العنصرية كانت من جهتي، وأن الحرب تجعلنا عنصريين دون أن نشعر لتجاربنا بل ومغرورين، وكيف لا ونحن عشنا تجربة لم يعشها أحد؟ إلا أنني مع كل تلك السنين عرفت أن نظرتي قاصرة، ورأيت آلام آخرين، شخصية وعامة، لا أملك سوى تقديرها. والأهم أتواضع مع ألمي ولا أجعله بوصلتي.