كنت أعيش واحدة من أتعس فترات عمري وهي مراهقتي، حين أنجدتني روايات غسان كنفاني ومسرحياته، وأبطال جبرا إبراهيم جبرا، لقد أعادا لي توازني النفسي، على الرغم من نظرة معادية بين الحين والآخر من قبل محيطين، وكأن الكتب ستفسدني “في مرة كنت أتنقّل برواية “11 دقيقة” لكويلو، في كل مكان أقرأها بشغف، وسمعت أقارب يقولون أبصر شو بتقرأ… كيف لو أبصروا؟ يا للهول”.
وبقي كنفاني وجبرا معي في شبابي بمثابة بوصلة الطريق فكريًا بل ونقديًا لأن كلّ ما جاء بعد غسان وجبرا كان نادرًا ما يفوقهما، أو حتى بالمستوى ذاته.
قرأتهما في الفترة الزمنية ذاتها، فقد جمعت كتبهما معًا إلى جانب كتب غادة السمان وسحر خليفة، ذاتها أرفف المكتبة التي ضوت أتعس لحظات أيامي، مكتبة خالي أحمد الغول، مدرسة اللغة العربية الآن في رفح، والتي لاحقًا تدمرت واحترقت في اجتياح إسرائيلي للمخيم.
أقرأ مسرحية “القبعة والنبي” ثم أذهب في غموض “البحث عن وليد مسعود”، أترك “أم سعد” لأتابع “يوميات سراب عفان” أو أبحر مع “السفينة”، لكن سرعان ما أشتاق إلى ذلكم الأبطال المناضلين في رواية “العاشق” لغسان، أو عبث الحوار في مسرحية “الباب” فأعود إليها، هكذا مثل طابة التنس قضيت بينهما سنوات.
روايات جبرا نقلتني إلى الحرية بين جدران الغرف الموصدة، أرجعتني إلى الحلم بالوطن الحقيقي، وليس ما رجعت إليه من الغربة بعد 1996، وليس أيضًا ما شهدته بعد انتخابات 2006.
كم تمنيت وطنًا يشبه الذي في خاطر أبطال روايات جبرا، وحبًا يشبه ما حمله وليد مسعود لشهد، و”عالم بلا خرائط” كما تمناه جبرا وعبد الرحمن منيف، حتى الآن وأنا أدخل أربعينيتي أعود إليه في رواية “صيادون في شارع ضيق”، وأفعل ذلك مع قصصه القصيرة لكنها ليست كما رواياته.
تأتي علي لحظات أعيش فجأة الروايات التي قرأتها منذ سنوات، تمامًا كأنك عدت إلى فترة في حياتك بسبب أغنية أو رائحة ما، أعيش النشوة، وكأني في أحداث الرواية، وأتمنى الرجوع إليها، ليس لزمنها بل لزمني معها، وربما الزمنين معًا.
أفتقد تلك البراءة، براءة الكتب، والأبطال وبراءتي، لا يوجد أبطال في روايات اليوم كما أبطال تلك الكتب، لا يوجد أحداث كما تلك.. وكأن الزمن فسد. حاولت مؤخرًا أن أقرأ روايتين ذاع صيتهما، ولا أريد ذكر عناوين كون كتّابها من أصدقائي الفيسبوكيين “وهذا نفاق، لكن دون ذلك سأكون حقودة بنظر الجمع وأدمر الإبداع”، واحد غارق في تفاصيل موظف حكومي يذهب لمقابلةٍ في وصفٍ ممل يستمر لعشرات الصفحات على الرغم من اللغة الجيدة، وآخر سطحي اللغة وغارق في وعي أنه يكتب رواية، لذلك جاءت كلها مُصنّعة غير منسابة وتشعر بأنه يقول لك أنا أكتب رواية في كل صفحة كما لو أنه يصنع ماكيت.
لماذا لم تعد تنساب الروايات حين نقرأها، نغرق معها، بل نتوقف عند مطبات في كل جملة وسرد إما لسذاجة أو تصنُّع كتابة، أو غياب المنطق أو ضعف الحوار، أو اللارواية في الأصل أو وصف أبدي ممل.
فأعود إلى تلك الروايات الكلاسيكية التي كنا نقرأها على نفسٍ واحد “أتذكر وصلة رقص الحارة على أغنية أم كلثوم التي أشعلت فيها القلوب لمى زوجة دكتور فالح في رواية السفينة، ولحظة سرق أبو خيزران مقتنيات جثث رجال في الشمس، وخيمة أم سعد، وحوار خلدون في عائد إلى حيفا مع والده..
ربما منظور طفولي لكني عشت مع هؤلاء زمنًا من الدهر أنقذوني من البشر الحقيقيين.. أشتاق لتلك الأوراق، لذاك الوقت حين كان باستطاعة الكتب انقاذي والآن لا شيء ينجيني منهم.
الكتاب الجيد أصبح نادرًا أو أن الحياة التي نكتب عنها لم تعد بالجودة ذاتها، وربما وسائل التواصل المرآوية جعلتنا نغرق بالفعل اليومي لذواتنا وتمجيدها أكثر من مداواة خيالنا وآلامنا.
كان أبطال غسان فقراء، خذلتهم الحياة، النضال خيارهم الأول، أما أبطال جبرا فهم مخذولون أيضًا لكن غربتهم تجعلهم يبقون يبحثون عن الوطن في برجوازيتهم وحبهم الضائع، وربنا يتخلون عن كل شيء من أجل حلم النضال كما فعل وديع عساف ووليد مسعود، النضال الذي تكتشف أنه يبقى على الورق أجمل مما فعل به القادة في الواقع.
من المؤسف أن بعضنا يشعر بالملكية لغسان لمجرد أنه ينتمي إلى تياره السياسي، في حين أن غسان الكاتب الحقيقي هو ملك لكل عطش لرواية جيدة، وفلسطين حقيقية، لقد كان روائيًا عبقريًا لم يتكرر، على الرغم من المحاولات لتقليده، وكذلك جبرا إبراهيم جبرا هناك من حاول تقليد خطه الاجتماعي الوطني الأدبي لكن فشل.
إن فلسطين تعيش اليوم خريف عمرها في كل شيء السياسة والمعارضة والأدب والأكاديميا، ذهب عصر الروايات التي تستطيع أن تنتشلك من واقعك ويأسك لتعطيك الأمل، هناك روايات تُقلد تيارات السرد الحديثة والمواضيع وحتى التشبيهات دون قوة حقيقية في السرد والشخصيات، لا ترى حتى سياق يشفع لها المبالغات.
لا أشعر بعمق البطل الحقيقي حتى لو كان صعب تفسير أفعاله كما كان عند جبرا، أو نقاء نضال أبطال غسان الذي يكون ساذجًا أحيانًا، فحتى هذه السذاجة عصيت على الكُتّاب الجدد، والكلاسيكيين منهم، إما نرى صفحات من الوصف القاتل والحوارات المملة التي لا يوجد بها أي ذكاء فكري أو سردي أو هناك أحداث غير مفهومة..
حقيقي ما الذي قد يشدُّك لتنهي كتابًا إذا لم يكن بالجمال الكافي؟، وليس الجمال الذي قتله فعل الوعي كما لو أنها عمليات تجميل في الرواية، أو الذي قتلته أساليب السرد الحديثة أو أنا الكاتب التي تضع نفسها في الأحداث هنا وهناك.. أو الكتابة الأيدلوجية التي تتعمد وضع بعض المبادئ بين صفحاتها..أقصد الرواية الجيدة وكفى، وبالتأكيد هي ليست تلك الرواية التي في رصيدها الجوائز.
وجدت نسخة بالعربية لرواية “عائد إلى حيفا” أهديتها لابني، إلا أنه لم يمسها، بل غارق في قراءة سلسلة “Five nights at Freddy's fazbear frights”، لكن هذا ليس شيئًا أشكو منه، فهم يجدون ما ينجيهم أيضًا لكن على طريقة التيك توك والبلاي ستيشن.
زمن غسان وجبرا ليس زمني، وزمني ليس زمن ابني، إن الغربة عن الكتب قاسية، كما الغربة عن الأهل والأصدقاء، وسأبقى أعود لكتب أحببتها حتى أجد كتاباً جديداً يجايلني.