غابت أخبار الإفراج عن الشاعر أشرف فياض بين أخبار كثيرة جديدة أخرى، كما غاب هو عنا سنين داخل سجون السعودية، نتذكره بين حينٍ وآخر، ونُقيم الحملات المؤازرة له ثم ننساه، لكن هناك خلف الجدران المسيَّجة كان نبض مستمر، يحمل الأمل كما شقيقاته بعدما توفي والد ووالدة أشرف وشقيقه الكبير رائد وهم بانتظاره.
حيواتٌ تذوب في الانتظار كما هو مكتوب على الفلسطيني في كلّ مكان، لأنه لا يملك دولة أو جواز سفر قوي، فيتحول إلى لقمةٍ سائغة في تلك الأماكن التي لا تحترم الإنسان إلا إذا كانت دولته تدافع عنه، أو له كفيلة. خرج أشرف فياض ليس بعفو ملكي أو لأنهم رأوا مظلوميته، بل خرج متأخرًا عن مدة محكوميته ثمانية شهور، وبقيت متعلقاته الشخصية في السجن، ومنها أوراقه الثبوتية، ولا ننسى العمر الضائع، فقد دخل في بداية الثلاثينات وخرج في الأربعينيات.
فياض ضحية الأنظمة العربية، والمؤسسات البيروقراطية التي لم تعترف بإبداعه منذ كان طفلًا، فهذه ليست المرة الأولى التي يُظلَم فيها، فقد حدثني أحد أفراد عائلته حكايةً مؤلمةً حين قابلتهم في قطاع غزة قبل عدة سنوات، فحين كان أشرف في المدرسة الابتدائية بالسعودية، لم يصدق أستاذ الرسم أنّ هذا الطفل قد رسم هذه اللوحة المتقنة، فضربه وألحّ عليه أن يخبره من الذي رسمها. بكى وأقسم أنّه هو من رسمها، وفي اليوم التالي جاء والد الطفل وهو الفلسطينيّ الغلبان لكن صاحب الكرامة، ليُؤكّد للمدرّس أنّ ابنه من رسم اللوحة، فهو موهوب.
بعد أكثر من عشرين عامًا، يُحاسب هذا الطفل مرةً أخرى، ولكن ليس على رسمة بل قصيدة هذه المرة، وتحديدًا ديوانه الشعريّ “التعليمات بالداخل”، وهو ديوان شعر، فيه قصائد شعرية عن الوطن والذات والحب، وأصدر عام 2008، والتهمة هي الدعوة إلى أفكارٍ ملحدة على الرغم من أن الكتاب الذي صدر عن دار الفارابي في لبنان، لم يُوزع بالسعودية. ثم تتسارع الأحداث دراماتيكيا، ويُحكم عليه في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 بالإعدام.
وبين هذه القصيدة وتلك الرسمة، لم يفقد أشرف يومًا الأمل بل بقي يرسم ويكتب، ويصنع الأفلام، والمفارقة أنه مثَّل السعوديّة في العديد من المعارض الدوليّة، ومن هذه المعارض معرض فني في بينالي البندقية عام 2013، فعائلته مقيمة في السعودية منذ أكثر من خمسين عامًا، وولد أشرف “آخر العنقود” وجميع إخوته هناك، لكن لم تكن في حوزتهم لعقودٍ طويلة أيّ جوازات سفر سوى الوثيقة المصريّة، وهنا يأتي ضعف الإنسان الفلسطيني غير المعترف به أو المعرف سوى بإبداعه، وقد يأتي عليه هذا الإبداع بالمصير المأساوي إذا لم يعجب أحد رجال البلاط واللحى.
بدأت المشكلة حين قام شاب سعوديّ ويدعى ش.ع بمراقبة أشرف وملاحقته، حتّى أنّ أشرف كان يشتكي منه للمحيطين، وقد تبيّن لاحقًا أنّ هذا الشاب يعمل مندوبًا لدى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السعودية وهو ما يشبه الشرطة الدينية. واستمرّ الحال هكذا، يتبع أشرف في كل المحافل الثقافية، حتّى حدثت بينهما مشادّة عقب أحد عروض الأفلام في عام 2012، أهانه خلالها هذا الشابّ، ووصفه باللاجئ والشحّات وهدّده.
وهذا الفيلم ضمن مشروع سينمائي مستقل أطلق عليه اسم “السينما السرية”، ويروي القصة ذاتها صديق أشرف من السعوديّة وهو الكاتب بندر خليل، في مقال له نشر في موقع “ألترا صوت” في 25-11-2015 “خرج أحد الشباب المراهقين للمشاركة في الندوة المفتوحة التي أقمناها بعد عرض الفيلم. وكانت لغته الوعظية مُقزّزة للغاية، على الرغم من أنّ مظهره كان يميل إلى الحداثة… هذا الشاب هو نفسه الذي وشى بأشرف فيّاض بعد تلك الليلة ببضعة أشهر، وكان جزءًا من المكيدة التي أوصلته اليوم إلى القتل”. وأضاف في المقال: “كان الشابّ النزق الداعشي من الداخل، والدخيل على الفنّ والجمال، قد هدّد أشرف حينها بأنه سيُعيده إلى غزة”.
بحسب تفاصيل قضية أشرف فإنّ هذا الشاب، ش.ع، هو أحد الشهود الثلاثة الرئيسيين الذين يعملون لدى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذين شهدوا ضد فيّاض. ويوضح بندر في المقال أنّ الرجل الذي تولّى القضية من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو نفسه يعمل مُحقّقًا في هيئة التحقيق والادّعاء العام، مضيفًا: “في خلط رهيب بين السلطات، يكشف لنا حقيقة الدولة التي هي داخل دولة”.
استدعي أشرف للمرة الأولى من قبل الهيئة في السعودية كانت في عام 2013 بتهمة سبّ الذات الإلهيّة، لكنها برّأت ساحته، لتعيد القبض عليه في عام 2014. وبحسب الأوراق التي أصدرتها المحكمة العليا في مدينة أبها جنوب غرب السعودية في 25 أيّار/مايو 2014، والتي تضمّنت تهمًا عدّة في حقّ فيّاض، منها نشر الإلحاد بين الشباب في المقاهي، سبّ الذات الإلهيّة، والرسول، والسعوديّة، أوضحت أنه تمّ التراجع عن حكم “الردّة” وهو الإعدام بسبب إعلان المتّهم التوبة، كما شهد أشخاص لصالحه بأنه غير ملحد، وأنّ سبب هذه القضيّة مشادّة بينه وبين شاب عضو في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية.
وتمّ الاكتفاء بسجنه أربعة أعوام، والجلد 800 جلدة متفرّقة على 16 دفعة، بين كلّ دفعة وأخرى عشرة أيّام، وتتضمّن كل دفعة خمسين جلدة، إلا أنه تمّ استئناف الحكم واعتبار اعترافه أهم من شهادة الشهود لصالحه، والتي أسقطتها المحكمة، وبذلك يقام عليه حدّ “الردّة”، وهو القتل، وقد صدر الحكم في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2015، لكنها تراجعت عنه مرة أخرى في 2016 وذلك عقب ضغط إعلامي وسياسي كبيرين، ليبقى في السجن حتى قضى ثمانية أعوام وثمانية شهور، ليخرج إلينا منذ أيام فقط. وبحسب أقاربه، وفي حديث لـ “رمّان”، فإن أشرف سعيد، ويتنفس مرة أخرى، وسيبدأ عيش ما فاته.
المعلومات مستقاة من مقال قديم للكاتبة على موقع المونيتور.