أحتار جدًا لحال غزة الثقافي والفني، لماذا يبدو فيها كلّ شيء ضعف حجمه؟ إذا ما أقمت حفلةً موسيقيةً تكون الضجة مضاعفة، إذا تعلمتْ الفتيات البالية تجد وكالات الأنباء الأجنبية في المكان، إذا ما فرشت “السجادة الحمراء” لمهرجان سينما تراه خبرًا في العالم أكثر مما يتردد اسم مهرجان “كان”، هل لأن المفترض غزة تعيش عكس كل ذلك؟ هل لأن العالم نسيها ربما، وأصبحت مكة العالم الإنساني، يحج إليها القادة، فإذا ما أراد موظف أممي أن يثبت أنه أحن من الأم تيريزا يذهب لاحتضان المكلومين هناك، وقد يجرب السباحة في بحرها، أو يتعلم سفيرًا ما الدبكة أمام الكاميرات. لماذا غزة فيها كل تلك الجاذبية لتجعل الأشياء مضخّمة وكأنها مرآة مكبرة؟ وربما هي مرآة مستوية، وهذه حقيقة الأمور ببساطة، ومن ندرة الفرح والفن والترفيه نصنع منه حدثًا. وكلّ الأمر أن هذه المدينة مليئة بالمجانين الذين يجعلون من الأشياء صيتًا مختلفًا، وحين يبادرون يصلون الحد الأقصى، كما فعل ويفعل خليل المزين مع “مهرجان السجادة الحمراء”، بشعار هذا العام “شوفونا” في وقت توقف العالم سنتين وأكثر عن كل شيء.
يعود اليوم “مهرجان السجادة الحمراء” بدورته السادسة، ليفترش هذه المرة سجادته الفارهة ليس في الشجاعية أو قبالة البحر أو بين جنبات سينما عامر المهجورة بل في حي التفاح، أحد أهم الأحياء الأثرية وأكثرها شعبية في غزة القديمة، ليجعل السينما مرةً أخرى متاحة أمام الناس العادية، وليس للنخبة فقط، يشاهدون شاشة سينمائية كبيرة في الهواء الطلق، فربما لن يشاهدوها مرة أخرى طوال حياتهم إذا لم يخرجوا من قطاع غزة الذي يخلو من القاعات السينمائية منذ عقود.
في 2014 حين فكر المزين بفرش السجادة الحمراء على حطام حي الشجاعية عقب الحرب في صيف ذلك العام، لم تكن سوى فكرة مجنونة، نظرنا كلنا إليه “إنت شو بتقول..”، لكن يبدو أن المجد لا يلحق سوى المجانين ففَرَش خليل وأصدقاؤه المخلصون من الفنانين سليمان النواتي ويوسف نتيل وسائد السويركي، السجادة الحمراء وليس لعام أو عامين بل خمسة أعوام، كل مرة تفترش السجادة مكانًا عريقًا في غزة، فيظهر المهرجان ومدينته مُصرّان على السينما والحرية والوجه المختلف عن دور الثقافة الرسمي، والحكومة التي تديرها حركة حماس ومعروفة بموقفها المحافظ من السينما والمهرجانات المختلطة، ويقتصر دورها هنا على منح الأذونات، ومشاهدة الأفلام مسبقًا وقص اللقطات، والتحذير من بثّها وإلّا لا مهرجان سجادة حمراء.
ولأن الفنَّ أشد جنونًا من الواقع بل الواقع يغشّ منه كما يقول أوسكار وايلد، فالسينما هي حياة خليل منذ سنوات حين كان ينهب شوارع غزة مشيًا ومعه المخرجان الشابان عرب وطرزان قبل استقرارهما في فرنسا وشهرتهما، ويناقش الثلاثة أفلام هتشكوك وستانلي وكيشلوفسكي ويوسف شاهين، يجلسون في القهوة أو مكاتب الأصدقاء يقترحون فيلمًا، ثم يناقشون مدرسة المخرج، دون فزلكة أو تكبّر أو نخبوية، وكأنهم الثلاثة ولدوا ليفعلوا ذلك، خليل في حواري مخيم رفح وعرب وطرزان في غرفتهما على السطح بحي الشيخ رضوان، مع فارق الأعمار.
لكن سافر التوأم الموهوب، وهاجر خليل بثقافته وجنونه، وخلت الشوارع من الثلاثة الذين يناقشون السينما حتى مع الصراف، أو بائع الترمس، وقد يكون صاحب محل الملابس، وهم يأكلون، أو يضحكون، من الصعب أن ينسى تاريخ عزة الحديث تسكعهم الثلاثة معًا.
وبقي بعدهم المؤمنون بالسينما، والحريصون على المهرجان، مثل مديره التنفيذي الحالي منتصر السبع، والناطق الإعلامي باللغة الإنكليزية سعود أبو رمضان، لذلك عاد اليوم المهرجان قويًا، بثلاثة وأربعين فيلمًا من العالم، لم يطلب المهرجان أغلبهم، بل تقدّموا إليه للعرض، وإلى جانبهم ٢٥٠ فيلم آخر، لم يتم اختيارهم، فالأولوية للأفضل، ولن تتسع ثمانية أيام لكل الأفلام، فالمهرجان يُقام بإمكانياتٍ قليلة، ومسؤولياتٍ مالية كبيرة يُديرها مركز غزة الثقافي ومديره المجتهد أشرف سحويل باذلًا المستحيل لحجز الأماكن المناسبة، وعرض الأفلام في محافظات غزة جميعها، امتدادًا إلى القدس وأريحا ورام الله.
إنه الحلم الفادح الذي يصرّ عليه خليل اليوم من كندا، ويلاحق كل تفاصيله، يقول خليل في مقابلة مع “رمّان”: “رغم سنتين تأخير، والإمكانيات السيئة والحال الزفت، إلا أننا نُقَارن اليوم بمهرجاناتٍ كبيرة، بحضور يفوق الألف شخصٍ في الافتتاح، غزة حالة غريبة، معطاءة في الفن والثقافة، فعالية ثقافية واحدة تجد المئات يحضرونها، الناس كريمة في المبادرات والمشاركات. وين في موت في حياة”.
كما يرى أن جمال “مهرجان السجادة الحمراء” منذ تأسيسه يكمن كونه طارد المكان، وحتى لو كان المكان مغلق يفتحه، كما حدث مع سينما عامر في آخر دورة للمهرجان أُقيمت قبل الوباء عام 2019، مضيفًا “اليوم نعود إلى صالة مركز هولست وحي التفاح والناس البسطاء الطيبين الذين يستحقون السينما ويتعطّشون لها”.
وقد بثّت صفحة المهرجان الرسمية على موقع فيسبوك عشرات الرسائل المصورة عبر منصة سكايب من مخرجين ومدراء مهرجانات عالميين من بلجيكا ولبنان وتشيك وألمانيا وأميركا وغيرها من الدول، يدعمون الدورة الحالية من “السجادة الحمراء”، وهنا يقول خليل إن المصداقية وراء ذلك، والعمل الدؤوب، مضيفًا “أنا في كندا لكن لا أنام الليل، وأتواصل مع فنانين ومخرجين أو أكتب أو أتخيل بوستر، وأَضع ملاحظات، فجميعنا مثل خلية نحل كي ينجح المهرجان ويعود للأجيال في غزة حقهم في دخول صالة سينما واحدة في حياتهم على الأقل”.
وعلى الرغم من أن المهرجان ضمن شبكة مهرجانات حقوق الإنسان “كرامة” حول العالم إلّا أن خليل يحلم بأكثر من ذلك قائلًا “نأمل إقامة شبكة علاقات مع مهرجانات سينمائية كبيرة مثل كان والجونة وتنظيم ندوات مشتركة، وأن يأتي لغزة في يومٍ ما من أيام مهرجان السجادة مخرجون ومنتجون وممثلون عالميون، وقد يعطون فرصة لنجوم غزة ومواهبها”، وتمنى أيضًا أن يتخصص المهرجان في المستقبل فيُحدَد لكل دورة عرض أعمال مخرج معين، ويتناولها بالتحليل والندوات، وأن تتهافت عليه المشاركات العالمية، وعندها فقط من الممكن أن يكون للمهرجان جائزة بدرعٍ مميزٍ أصيل، على حد تعبير المزين.
وخليل قد يصل إلى تحقيق ذلك، فشخص مثله مهووس بالتفاصيل يستطيع أن يجعل لغزة مهرجانها العالمي، فهو يلح وراء التفاصيل، وأحيانًا يهرب منه الناس على حد تعبيره، فمثلًا أعاد البرومو 14 مرة حتى تم بثّ البرومو المعتمد الأخير وسط حالة من النقاش وتبادل الأفكار، وكذلك البوسترات الرسمية للمهرجان والشعارات، متابعًا “لا نريد أن نبقى نجلد أنفسنا، فنحن لدينا شباب موهوبين حقًا”، مؤكدًا على السعي وراء الاحتراف والمهنية لكن ذلك لا يعني عدم وجود خلل وأخطاء وهو أمرٌ طبيعي.
ولا يرى خليل أن المبادرات السينمائية والفنية تتضخم لكونها في غزة فقط، بل يرى أن العالم كله في حالة تضخم ويريد أن يكون نجمًا وهذا ما تدل عليه مقاطع الفيديو المليونية على منصات فيسبوك وتيك توك وانستغرام، لأن الكل يريد أن يكون نجمًا فلماذا غزة لا تكون جزءًا من الحالة؟
ويتابع “ربما هناك خصوصية لغزة بسبب الحصار وحالة الكبت والمنع عن الحركة السينمائية والإنتاج الفني العالمي، ففي وسط عزوف الناس عن صالات السينما والاتجاه نحو منصات إنتاج معنية مثل نتفليكس وآبل، نجد غزة تخرج بالمئات لحضور فيلم في مهرجاننا، فليكن فيها حالة الإبداع المضخمة هذه. أحيانًا أشعر أن الفن والإبداع في غزة أصبح لديه مستوى تقبُّل وجماهيرية أعلى من القيادات السياسية”.
وهناك كثيرٌ من الأسباب تدعو خليل للتخلي عن غزة والمهرجان، أهمهما ليس غربته فقط بل اكتشاف إصابته بمرض السرطان تزامنًا مع وقوع وباء كورونا، فحين ذهب قبل عامين في كندا ليفحص إصابته بالفايروس اكتشفوا إصابته أيضًا بالمرض، ولكن هل تخلى يومًا عن أحلامه في غزة؟ يقول هنا “مستحيل، أنا روحي في غزة، حين أخرج هنا لا يوجد سوى البرود التام، سواء برود الطقس أو الحياة الاجتماعية، لا توجد حياة، الشوارع فارغة، وغزة على الرغم من القصف والموت وخلوّها من الديمقراطية إلا أن كلها حياة، وهي التي أعطتني الأمل وقت كنت وحيدًا أتعالج بالكيماوي، فعائلتي لم تكن التحقت بي بعد، وكانت تكفي ذكرياتي بها لتُخفّف عني الألم الذي لن يمنعني يومًا من متابعة أحلامي هناك، فكما يقول صديقي نعيم الخطيب سيقتلني الملل وليس السرطان”.
كان خليل يمشي في الشارع لا يرى الناس أو يسمعهم، وحيدًا في شوارع كندا الباردة، يطارده شبح الموت، فاكتشافه المرض والعمليات المتلاحقة بعدها كانت مفاجأة، ما جعله يعود لكتابة الأفلام والعزلة والردة إلى الماضي، ويفتش عن سعادته هناك، وبداية حكاية المهرجان وجيوش الشباب والفتيات الذين آمنوا معه بالفكرة، ما أعطاه نفَسًا في وقت انعدم فيه النفَس، على حد قوله.
والآن حين تعافى المزين نراه يرد النَفس لغزة، ويعطيها قبلة الحياة في سينما عالمية بلا حدود، وسجادة حمراء لن تبلى يومًا.