تشكل الأعمال القصصية للكاتب “عدي الزعبي” منذ العام 2011، سلسلة توثيقية-أدبية للتجربة السياسية والثقافية التي عاشها المجتمع السوري خلال هذه المرحلة. وهو يخصص مجموعته القصصية الأخيرة “نصف ابتسامة” للتعبير عن علاقة السوريين مع الذاكرة في الفترة التاريخية الراهنة، فيفتتح الكتاب مستشهداً بما كتبه القاص الصيني “لو شوان” في مجموعته القصصية الأولى، بأنه وجد نفسه مدفوعاً إلى الكتابة، بسبب شعور بالوحدة العارمة عارمة، لم يكن قادراً على النسيان، لذا، كتب قصصاً عن الماضي. ويكتب الزعبي: “هذا بالضبط ما دفعني إلى الكتابة، وحدة عارمة. أنا أيضاَ فشلت في النسيان، فكتبت ما تبقى في الذاكرة عن سوريا قبل الحرب. فقدان الذاكرة الجزئي يكبر ويتضاعف يومياً. بقي لي نصف ذاكرة”.
الذاكرة من الحكايات المدرسية والأغاني العاطفية
تبدأ المجموعة بقصة تتناول النظام المدرسي والقيم التربوية والممارسات التعليمية بعنوان “من جد وجد”، وترسم بفسيفساء حكائية مشهداً من واقع الطفولة والتربية والتعليم. من حكاية الطالب محمود الذي كتب على أحد دفاتره بخط كوفي جميل: “من جد وجد، ومن سار على الدرب وصل”، فيتعرض بالسخرية من زملائه الذين يردون على هذه العبارة بالقول: “مدد يا رسول الله مدد”. من خلال هذين الشعارين، تعكس القصة ما يشبه الصراع في قيم الطفولة بين الجهد من جهة واللجوء إلى الغيبيات من جهة أخرى: “بكلمات فخمة، خط أحد الخطاطين على حائط المدرسة، بجانب سارية العلم، المثل العربي الشهير. وفي ليلة ظلماء، قفز محمود وطارق ونجوان ونور وميشيل إلى المدرسة وخطوا كلمات مرتعشة: مدد يا رسول الله مدد. فيجن المدير، لاعناً الحيوانات الحقيرة التي ابتلاه الله بها، مهدداً بإرسالهم إلى السجون، هؤلاء الصهاينة، عملاء الدول الرجعية، وخدم الاستعمار والإمبريالية، على حسب تعبيره. وتنتقل بنا القصة إلى حكايات فرعية، لا تخلو من المفارقة الساخرة للتعبير عن القيم التربوية، فتصبح حادثة حرق دفتر حدثاً سياسياً جللاً، وحادثة سرقة بعض الأوراق من غرفة الموجهة جريمة جنائية ينشغل بها النظام التعليمي بأكمله.
اثنان من قصص المجموعة تتعلقان بالموسيقى والغناء، القصة الأولى بعنوان “عودة وردة”، والمقصود المغنية الشهيرة “وردة الجزائرية”، والتي مع نهاية الثمانينيات، بدا أن شهرتها قد وصلت إلى نهايتها المحتومة، فكادت أن تصبح وردة جزءاً من التراث الغنائي الخالد، لكن في مطلع التسعينيات، تردد أن وردة ستعود مع ألبوم جديد، شبابي، متميز، شجاع، مختلف. انتظر الناس الشريط بفارغ الصبر، وانقسموا حوله بشدة. وتربط القصة بين حكاية أغنية “بتونس بيك” وبين مصير خالة الراوي التي تحمل اسم الفنانة وردة، والتي عاشت قصة حب لم تكتمل وقصة زواج لم تحقق لها السعادة، فتروي القصة تحول شخصية الخالة من زواية ابن الأخت: “في اليوم الأول الذي قضيته مع خالتي، في بيتها، رأيت تلك المرأة التي طالما حلمت، ومازلت، بأن تكون لي زوجة مثلها، أو كما قتل مراراً: أريد أن أتزوج خالتي. قبل زواجها، كانت خالتي طفلة في جسد امرأة، أعني طفلة ببساطتها وسهادتها وصراحتها. ولكنها كانت امرأة مكتملة الأنوثة، تثير التعليقات والشهوة. بعد زواجها، تغيرت خالتي بين يوم وآخر، لم تعد تلعب معي ومع بقية الأطفال. أخبرت أمي بالتحولات غير المفهومة، وغير المحبة التي طرأت على خالتي، سائلاً إياها إن كان هذا ما يعنيه الزواج”.
“بقدر ما تمر الأعوام ، يضطر كل إنسان إلى تحمل عب ذاكرته المتنامي. شيئان اثنان يخنقانني، ويختلطان فيما بينهما أحياناً، ذاكرتي وذاكرة الآخر في غير المتواصلتين”.
“قصة ذاكرة شكسبير، بورخيس”
إن كل من القصة السابقة، وقصة ” شيء لا يشبه الحزن” ترتبطان بذاكرة السارد عن الآخر المذكورة في اقتباس بورخيس. الذاكرة في الأولى عن شخصية من العائلة، أما القصة الأخرى فترتبط بذاكرة الصداقة. وهي تنقلنا إلى مرحلة تاريخية مختلفة. وتروي حكاية الصديق من المرحلة الإعدادية “عبد الله” والذي فارق الحياة أو بالأدق بقي مختفي المصير قسرياً: “عبد الله صديق قديم عرفه منذ الطفولة. .رفض الأصدقاء المشتركون من أيام المدرسة الإعدادية مرافقتي للتعزية بمقتله. تذرع اثنان بمشاغلهما الكثيرة، وقال آخرون إنهم لا يستطيعون مواجهة موقف كهذا. محمود، بصراحة، قال إنه يخاف أن تكون المخابرات مراقبة البيت، لا يريد المخاطرة”. تتطرق القصة إلى التحول الذي عاشه صديق المدرسة نحو التشدد الديني: “عبد الله تطرف بالتدريج، في المدرسة الإعدادية بدأ يُصلي الفروض الخمسة، ثم أصبح يصوم كل اثنين وخميس في المدرسة الثانوية، بعدها، كنت ألتقيه مرة كل شهرين أو ثلاثة، وتتغير لغته ومفرداته مع كل لقاء”. لكن عائلة أم الصديق عبد الله لا تحصل على جثته: “ما في جثة، هيك قالو. ما في جثة. أمو قالت يمكن ما مات. بس في حدا من جماعتو بعت خبر، حدا موثوق كتير، قال مات بتفجير. يعني مات وصار قطع، مشان هيك ما في جثة. أمو قالت عم يكذبو”. كما ترصد القصة التحول الذي عرفه اليسار السوري نحو الإسلاموية، مثلاً من خلال وصف مكتبة العائلة: “أقف وأتجول في مكتبة البيت، كتب حزبية كثيرة، بعض المنطلقات النظرية، ومجلة المناضل، وأعمال اشتراكية كثيرة، لماركس وأنجلز ولينين، وإلياس مرقص وسمير أمين وغيرهم. روايات حنا مينة، ونجيب محفوظ، أشعار محمود درويش وسميح القاسم ونزار قباني. أذكار وأدعية عذابات القبر، في ظلال القرآن”. وتنتهي القصة برؤيا تقارب الهذيان بين الطفولة والتجربة الحالية يعيشها القاص: “ارتجف، اسقط على الأرض، دم على يدي، يأتي أبي ويضربني، يفصعني ويجرني من يدي شاتماً أمي وعائلتها. عبد الله على الشجرة، عبد الله ينظر إلى دمعي ودمي. يجرني أبي بعنف، يشتمني، يقول إنني لا نفع لي، إنني ولد تافه. يختفي أبي”.
وتروي قصة “البراغيث المهتاجة” تجربة ما بعد الهجرة، إنها لمحة عن العلاقات الاجتماعية والثقافية التي يعيشها السوريون في المجتمع الأوروبي. تحاول القصة رسم شخصية “ناديا” المتعاطفة مع قضايا حقوق الحيوان دون التطرق إلى قضايا حقوق الإنسان: “ناديا، صديقة السمراء المثيرة، بشعرها القصير جداً كمجند في الجيش، ذات الجسد المتناسق، كانت من أشد المدافعين والمدافعات عن حقوق الحيوانات، وغير معنية بالسياسة على الإطلاق، نموذج للنفاق الغربي الأخلاقوي، في الحقيقة. بدلاً من الانخراط في المعارك السياسية والصراعات الطبقية، تكتفي بالقول إن مصائب الفقر سببها التغير المناخي. وناديا، ككل أصحاب القضايا الكبرى والمناضلات والمناضلين، تعتقد أنها تعرف كل شيء. تسخر من المسلمين بإستمرار، لأن دينهم يفرض عليهم أكل اللحوم في عيد الأضحى. وهي تكرر باستمرار: “علينا أن نهتم بأنفسنا أولاً، وأن نترك تغيير العالم للسياسيين الذين ننتخبهم. الأفراد لا يستطيعون تغيير العالم”.
تجليات الذاكرة في تجارب السرد
يتخيل بورخيس في قصة “ّذاكرة شكسبير” قدرته على امتلاك ذاكرة الشاعر والمسرحي الإنكليزي الأشهر. يوافق الشخصية الرئيسية “هرمان سورجل”، وهو مؤلف كتاب “كرونولوجيا شكسبير” ما يعرضه عليه صديقه ثورب، وهو أن يمتلك ذاكرة شكسبير. الذاكرة في قصة بورخيس تدخل في الوعي لكن ينبغي اكتشافها ستنبجس في الأحلام، أثناء السفر، عند تقليب صفحات كتاب أو عند الانعطاف مع زاوية. كما هو عليه الأمر في قصة “نصف ابتسامة”، والتي تتشكل من تضافر حكايات عدد متنوع من الشخصيات، لكل منها مشهد أو انبثاق في عي الذاكرة. أما شخصية هندى فإنها عن ذاكرة نفور الدمع أثناء ممارسة الجنس مع زوجها. فهدى زوجة وزير سابق، طباخة ماهرة، مشغولة بأولادها الأربعة وزوجها ذي المزاج الجاف الحزبي، ودوامها الطويل في الجامعة، يؤرقها الوزن الزائد في الأوراك، ولا تجد حلاً. ويردد زوجها: “صايرة دبة حقيقية يا مرا، أيمت بدك تنحفي”. ويمارس الجنس معها بعد هذا التعليق، فيما هي تحاول كبح دمعها. وبعد أن تنتهي حكاية نهى تتنقل بنا القصة إلى حكاية هيا الفتاة الفاتنة لكن طبعها الناري يجعلها مثار خلاف بين صديقاتها: “تقول أختها ندى إن العائلة بدأت تتصرف بصورة أكثر طبيعية بعد عزل أبيها من الوزارة، بل ارتاحوا في تصرفاتهم، ليسوا مضطرين إلى التحرج من صرف المال والتمتع بما يملكونه. ابتسمت هيا، وهي تفكر في غرابة هذا التصريح: زوجة ابن وزير سابق أفضل من زوجة ابن وزير حالي”.
تجمع قصة “آلهة بعشر أذرع” بين أروقة رجال النظام الحاكم وبين الكوميديا. وهي تداعي حر يجري في ذاكرة وزير يتوقع من رحلته بين مزرعته في بلودان وفرع الخطيب للأمن الذي سيعلمه بمصيره النهائي: “الزمن يطول ويطول. نصف ساعة كأنها دهر. نصف ساعة من مزرعته في بلودان إلى مكتب العقيد في فرع الخطيب. يتمنى لو يستيقظ من هذا الكابوس، تذكر طفولته، كان دوماً يتمنى لو يستيقظ فجأة مما يحيق به، لو تكون الحياة حلماً. لحظات الذعر الرهيبة تلك، لحظات الانتظار قبيل الضرب المبرح”. وتتابع القصة رصد التغيرات التي عرفتها أروقة الأمن والتجارة بعد حرب الخليج، وانفتاح البلد الاقتصادي، وقانون الاستثمار رقم عشرة، وتحول المسؤولين والضباط إلى تجار، أو شركاء للتجار في كل شيء. أما الوزير فهذه المرة لم يفهم ما حدث، ربما أخطأ في مكان ما، لم يتابع التغيرات المتسارعة في الأجهزة الأمنية بتأن: “أخبره أبو شادي أن السجن مسألة بسيطة، 3 أشهر ويخرج، لم يصادروا الكثير من المال. فقط المبلغ الذي قبضه على القضية التي حُبس فيها، بالإضافة إلى الرشا الكبيرة التي اضطر إلى دفعها هناك وهناك في أثناء التحقيق. اقتنع. أبو شادي أول وزير يحبسه النظام بعد حركة التحديث والتطوير”.
يؤكد دي كوينسي أن الدماغ البشري طرس، تخفي فيه كل كتابة جديدة الكتابة السابقة، وهذه تغطيها بدورها الكتابة التي تعقبها، ولكن يمكن للذاكرة كلية القدرة أن تنبش أي طباعة، مهما كان وقتيتيها، إذا أعطيت الحافز الكافي. هكذا تبثق الذكريات في القصة الأخيرة في المجموعة بعنوان “ست محطات في حياة محمود عبد الله” التي تذكر بسيناريو فيلم “التوت البري، أنغمار برغمان”، حيث تنبثق الذاكرة في رحلة الطريق الأخيرة، لكن القصة الحالية تأخذ سرداً معكوساً لحياة الإنسان، فالمحطات الستة التي تشكل حياة الشخصية الرئيسية تروى من لحظة الموت رجوعاً إلى لحظة الولادة. فالمحطة السادسة نهايات مفتوحة تروي مصير محمود المختفي قسراً: “تدريجياً، أصبح ناشطاً مع التنسيقيات، عمله الرئيس الأمور التقنية. اعتقله الأمن في 2013، ثم اختفى تماماً. في الأشهر الأولى حصلنا على معلومات من الفرع الذي اعتقله. لاحقاً، لم نستطع الوصول إلى أية معلومة، بعض النصابين أعطونا معلومات زائفة، لقاء مبالغ كبيرة، ظلت أمه تدفع كل حين وحين. أرى اسمه بين قوائم المفقودين والمعتقلين التي تصل إليً، وأبتسم بألم. أتذكر تررده وذعره في ذلك الاعتصام الكبير، ثم اندفاعه وشجاعته منقطعة النظيرة، بل تهوره أحياناً بعدها”. وتروى كل محطة من قبل شخصية من الشخصيات المحيطة بالشخصية الرئيسية، فالمحطة الرابعة: بوح ذاتي، تروى من جانب الزوجة، والمحطة الثالثة: كاتم الأسرار، تروى من طرف سعيد شريك محمود في لعب الورق لسنوات. وتختص المحطة الثانية: الهروب الدوري، بحكاية صديق قديم جداً، أنهت الأقدار علاقة صداقته: “ميشيل حداد، صديق قديم جداً. لا أذكر جيداً تلك السنوات، ولكنني أذكر محموداً وصداقتنا. لا أعرف لماذا أو كيف انتهت بالضبط. اعتقد أن القطيعة حدثت تدريجياً، ودون قرار من أي طرف. في النوسات الأولى في الجامعة كنا نلتقي، ثم تباعدت اللقاءات، حتى توقفت تماماً”. وأخيراً، وفي المحطة الأولى، تستعيد نائلة محمود تجربة ولادته بالتوازي مع وفاة جده: “دائماً أروي للناس هذه القصة، أخبرهم بها وأضحك. لا أعرف لماذا أضحك. كنا في الشعلان، وبدأت تعود إليّ آلام الولادة وذكرياتها، آلام الولادة للأولاد الثلاثة، ولكن لمحمود خاصة. ثم تذكرت جنازة أبي بتفاصيلها، ووجهه الشاحب الأبيض في الكفن”.