يحلل معرض “تشريح السيطرة” للفنان الفلسطيني محمود الحاج، هيمنة الحاكم العسكري الممتدة عبر مراحل التاريخ الفلسطيني ويعكس تحولات العلاقة بين الجسد والخرسانة، والمراقبة والعقاب. يتألف المعرض من 45 عمل فني بمقاسات مختلفة تم اختيارها من ثلاثة مشاريع فنية أنتجت ما بين 2018 و 2023 وهي: “هش”، “402 من الرمادي”، “عنف على مدار الساعة”.
تناول الحاج في أعماله الفنية الكثير من المفاصل المحورية والتناقضات التي تخلق معنى وتوازن للواقع فمن جهة سوف ترى منظومة الهيمنة الاستعمارية وعنفها الظاهر بكل أشكاله، ومن جهة اخرى تشهد الأمل في حتمية سقوطها وانتهاء هذا العنف والسطوة بكل ما هو محمل به.
طرح المعرض بعنوانه ومضمونه فكرة “تشريح السيطرة” التي فرضها المستعمر على الفلسطيني بعموم وعلى مدنية غزة بشكل خاص وقد جاء هذا الطرح بهدف، تتبع وتفكيك ودراسة شكل وأدوات وبنية وأحداث عنف بعينها تم إنتاجها بواسطة الحاكم العسكري في قطاع غزة والضفة الغربية على فترات ممتدة بين 1987-2023 وكان ذلك بغرض استعراض التطور الذي طرأ على هذه الأدوات من جانب وعرض التشوه المرئي وغير المرئي من جانب آخر والذي أحدثته هذه الأدوات واحدثه العنف حسب ما يطرح الحاج.
يفرض المستعمر هيمنته وسيطرته من خلال استخدام أساليب متعددة منها البانوبتيكون بما يحمله من إحساس مستمر بالرقابة. يقول الحاج في هذا النوع من الرقابة إن (تشبيه قطاع غزة في سجن البانوبتيكون هو أمر تجميلي لقباحة أفعال الحاكم العسكري، يمكن تشبيه غزة بهذا السجن قبل 2005 لكن مع استمرار المراقبة والإحساس الدائم بدأ يتحول قطاع غزة بسكانه وجغرافيته وعمارته إلى مختبر تجارب لقياس فاعلية أحدث اختراعات وابتكارات الحاكم العسكري بدأً من طائرات الاستطلاع والمراقبة، وصولا إلى قنابل الدايم وهذا تثبته كثير من تصريحات الجنرالات والضباط الإسرائيليين الذين يشرفون على برامج شبيه بما تحدثت عنه.
من الواضح أن أعمال الحاج ترتكز على نظرية فوكو للسلطة والمراقبة سواء كان ذلك مقصود أم أنه جاء متسقاً مع الواقع، ويقول الحاج في هذا السياق إن عمله ليس له علاقة مباشرة بنظرية المراقبة والمعاقبة لميشيل فوكو. لكن كان يحاول تتبع حالة المراقبة والعنف والمعاقبة والأسلوب المتبع من قبل الحاكم العسكري في غزة من خلال أحداث بعينها، وإن كانت نظرية المراقبة والمعاقبة تتقاطع مع ما يحدث في فلسطين عموماً وغزة على وجه التحديد تقريباً إلا أنها ليست متطابقة 100% حسب ما يطرح، لأن النظرية تقول أن الخوف من المراقبة سوف ينتهي بالناس أن يفكروا بفعل ذات الأشياء خوفاً من أن يتم الانقضاض عليهم ومعاقبتهم وتسمى هذه حالة التطبيع الفعال والذي سينتهي بالقضاء على الإرادة الحرة والتفكير المستقل وسيخلق حالة نستطيع تسميتها “مجتمع من الآليين”. هذا نظريا جميل، يقول، ومن الممكن أن يكون قابل للتطبيق في كل الانظمة وفي كل دول العالم الا في فلسطين لأننا ما زلنا قادرين على التفكير ولنا ارادة.
تكرار ظهور الجدران والأبراج في أعمال الحاج يحمل دلالات متعددة ومن وجهة نظر الحاج فإن استخدام الأبراج والجدار ما هو إلا إعادة تمثيل بصري للإحساس الدائم بالمنع وانعكاسات لسياسات ممتدة لعقود من الزمن والتشويه بحق الجغرافيا، حيث استخدمه أو أسقطه على هذه الصور الخاصة بالجدار وأبراج المراقبة بأماكن واشكال مختلفة على الأسود وهذا له دلالته طبعا على المباني والأشخاص.
هذه الخرسانة الصلبة تحولت إلى واقع مرضي للمكان والأشخاص كونهم داخل سجن كبير وتحت العنف الاستعماري، يعكس الحاج آثار ذلك من خلال اشرطة الدواء التي كرر استخدامها ويقول: إن مشروع ” هش ” والذي استخدمت فيه أدوات متعددة منها أشرطة الدواء المتنوعة قمت بإنتاجه أثناء جائحة الكورونا، كان ذلك محاولة تذكير وتنبيه للعالم أن هذه البقعة (غزة) كانت ولا تزال تخضع للحجر العسكري الممتد لعقود وكان له آثاره على المشهد الحضري سواء بالقصف أو التدمير الشكلي والتدمير العقلي والنفسي للناس الذين يعيشون في هذا المكان، طبعا حالة الإغلاق والحصار دفعت الكثير من أبناء هذا المجتمع الى الذهاب باتجاه تعاطي الكثير من أنواع الأدوية التي تتعلق بالصحة العقلية والتي كان مصدرها مجهول عند البعض لكن عند البعض الآخر معروف هي قادمة من أين؟ وهي من الحاكم العسكري.
استخدم الحاج مصطلح “الحاكم العسكري” بدل المستعمر ويعلل سبب ذلك بقوله: أنا لا أستخدم اسم إسرائيل، استخدم مصطلح الحاكم العسكري (الجنرال) وذلك للدلالة على سياسات إسرائيل والجيش وتصويره كشخص دكتاتور حتى يكون سهل عليّ أن اقدم هذه الأحداث من منظوري الشخصي. وحتى تكون هذه السردية قابلة للإسقاط على تجارب عنف أخرى في مناطق أخرى من العالم.
تحولات كثيرة عكسها الحاج من خلال استخدام الرقمنة في أعماله الفنية وقد امتدت الى مشهد بيوت المستوطنة والجدار الفاصل والمغزى من وراء ذلك حسب ما يطرح هو: استعراض التغير الذي حدث على العمارة في الفترة ما بين 2000 الى 2008 حتى اشير الى ان البيوت هي مكون أساسي من مكونات المشهد وهي تعود الى حقبة زمنية كان لها بالغ الأثر في تشكيل حياتنا ووعينا ولا يجب إخفاؤها خصوصاً إذا كانت تتعلق هذه الصور باختفاء أرشيف يوثق ذات الفترة وهي بالمناسبة تم نبشها من صفحات مستوطنين كانوا يعيشون في غزة، وبهذا العمل تحديداً لم استخدم الصور بشكل عفوي بل استخدمتها للدلالة على الزمن.
أما قيمة المعرض رنا عناني، فعلّقت لـ “رمّان” في أن أعمال محمود الحاج جذبتها لأنها تطرح موضوع مهم غير مطروح من قبل في الفن الفلسطيني، فقد قرر الحاج عدم تناول موضوعاته بالتركيز على الإنسان / الضحية وإنما من زاوية كيف يرى الجلاد ضحيته وكيف يستخدم أدوات العنف للسيطرة على الفلسطينيين سواء في غزة أو في فلسطين ككل.
الملفت في أعمال محمود الحاج انه ينتهج الفن الرقمي في إنتاج اعماله، ولكنه لا يدع الرقمنة تسيطر على العمل وإنما يسيطر عليها ويطوعها لتخدم أفكاره ورسالته. عمله دقيق جدا وفيه تفاصيل غنية، قد ينظر المرء إلى بعض أعماله نظرة سريعة في البداية ويرى فيها مربعات تجريدية، ولكن إن نظر أكثر يبدأ برؤية خرائط من الجو، واذا دقق أكثر فأكثر، يستطيع أن يرى ألواح زينكو التي تغطي أسطح المخيمات في غزة، ومن ثم يبدأ يرى تفاصيل في هذه الأسطح كراسي وحبال غسيل وشوارع صغيرة وغيرها. يلجأ الحاج إلى الأرشيفات والى تركيب الصور مع بعضها البعض بعناية ولكنه في الواقع يعمل عمل مهندس بارع. ولد الحاج في عام ١٩٩٠ في غزة وطوال نشأته كان يتمنى أن يرى العالم الخارجي، ولكنه لم يكن يستطع في ظل حصار شديد للقطاع. دفعه كل ذلك ليلجأ للانترنت وخرائط غوغل ليبحث عن كيف يراه العالم، ولكنه تفاجأ بأن ذلك أيضا غير متاح. فبينما بالإمكان رؤية واشنطن او مدريد جوا، من غير الممكن رؤية غزة جوا، فخرائط غوغل مقيدة، ولا تظهر التفاصيل عندما يتعلق الأمر بفلسطين. معرض محمود الحاج الذي يعكس فيه التحكم والسيطرة خلال السنوات الماضية، يأتي في وقت يتم فيه إبادة الفلسطينيين في غزة، أي أن العنف والسيطرة وصلت إلى ذروتها، وكذلك الأمر فيما يتعلق بتوظيف تكنولوجيا القتل والمجازر. أرى من المهم أن نفسح مجالا للتعرف على فنانين غزة وخاص الشباب منهم في هذا الوقت تحديدا، فالحصار لم يغيبهم عن العالم فحسب وإنما غيبهم عنا في الشق الآخر من الوطن. خلال السنوات الماضية، حضرت غزة من خلال الشاشات ولا زالت تحضر كذلك من خلال الشاشات، وآن الأوان وحتى ان كان متأخرا أن نعطي المجال للناس للتعرف على فنانين غزة وبالأخص الشباب منهم الذين يمثلون جيل ولد ونشأ تحت الحصار، على الأقل أن نفتح أذرعنا لهم في هذه الفترة العصيبة وأن نعرف العالم بهم وبأفكارهم وأعمالهم ما استطعنا، وهذا أقل ما يمكن”.
حاول الحاج توثيق الواقع في غزة في فترة سبقت 7 أكتوبر 2024 من خلال الأعمال الفنية على تنوع الأدوات المستخدمة فيها ليظهر العنف الاستعماري الممتد والمتراكم من فترات طويلة والذي غير طبيعة المكان وأثر بشكل عميق على السكان، وعلى الرغم من ذلك إلا أن الحاج واضح في فكرة اليقين بالتحرر والخلاص من الحاكم العسكري بكل ما فرضه على الفلسطيني من هيمنة، ولن يستطيع سلخ الفلسطيني عن هويته وكيانه.