لم يتخلَّ مارك شاغال عن اليهود المشَّائين الذين لم يجدوا ملاذاً لهم في الامبراطورية الروسية. انتهى بهم المطاف داخل لوحاته، باهتين في كل الفصول، حاملين أكياساً، مرافقين تيوساً، هائمين أو طائرين غالباً فوق البيوت وعتبات الغابة. في إحدى عباراته، يقول الرسام المتوفى عام 1985 “أنا متمسك بالأرض، بالتربة. لا أريد تغيير شيء، ولا بلوغ أي من مقامات الفانتازيا”. يشبه الأمر تمسُّكًه بحبيبته “بيلا”، التي ستظل عروساً بعد موتها الغامض أواسط أربعينات القرن العشرين. “هل تتذكر كيف مات الثعلب الصغير؟”، يعنون إحدى لوحاته التي تبرز إنساناً عملاقاً – الأرجح أنه يهودي روسي – وفي إحدى زوايا هذا اليهودي العملاق، ثعلب صغير للغاية، كحشرة. صغر الثعلب المجازي، وتقهقره، ولجوؤه إلى كائن أراد شاغال إبرازه متقهقراً، إنساناً ضعيفاً ولاجئاً، لكنه ضخم، يجعله رساماً يلعب بين التصوير والسوريالية. وصفه أحد النقاد بكونه فناناً تفرَّجَ على مجايليه أو رفاقه العظماء، بيكاسو، موديلياني، ميروـ ماتيس، بريتون، إرنست وغيرهم، من دون أن ينساق إلى قنواتهم التشكيلية. لعل سر شاغال وقوته، يكمنان في تمسُّكه بالتعبير من جهة، وعدم تخليه عن النبرة التصويرية من جهة أخرى. رسومه بالحبر، تتشابك مع أساليب الفنانين الألمان الذين احتجوا على سياسة هتلر، بالخطوط، بالتوحش في المكان والظرف، وليس فقط بترجمتهما تشكيلياً.
رأيت لوحاته ذات يوم، برفقة إيرين. كانت معروضة في متحف لوكسمبورغ في باريس. تقرب المئة. كانت أشبه بالدخول إلى ماكينة تذويب. لا مفر أمامك وأنت محاط بلوحات شاغال. بعد الانتهاء من زيارة المعرض، ينتابك شعور بأن على كتفيك بقعاً من الدهان، تسرَّبتْ من اللوحات. “هل اقتربتَ كثيراً؟”، سيسألك الشرطي الفرنسي بجثَّته الكبيرة التي تتكئ على مسدس جاهز للاستعمال. عوالم شاغال رطبة، وأنتَ مستعد لتغرف بإصبعك بعض عناصرها. “فلتُعاد الصور إلى اللوحات، وسأكتفي بالاحتفاظ ببعض الألوان”، تقول بعد أن يفتشوا جيوبك، الشرطي، وحارسان آخران بالزي الرسمي. “لون واحد فقط”، ينصحونك بحزم. فتجيب “أوكي. أُفَضِّل الأزرق”. كان على المنظمين أن يضعوا ورقة على باب المتحف يكتبون فيها “هل أنت جاهز؟”، وأن يصادروا كل الملاعق. تعلِّق إيرين “يا مازن، هذا ليس آيس كريم، بل مأساة”. “أوكي” مرة ثانية. أرمي الملاعق في إحدى حاويات “إعادة التصنيع” مقابل قطار المترو القادم بسرعة الآن. لا أريد أن أختلف مع أحد. المأساة التي أراد شاغال إبرازها، توراتياً، تاريخياً وإنسانياً، يتدخل فيها الكيان اللوني. الخطأ ليس خطئي إذن. والأزرق الذي أشتهيه أو أستعيره، أو آخذه معي إلى البيت، هو أزرق شاغال. وهذا لا يشبه أزرق بيكاسو. ولا أزرق ميرو، أو موديلياني (“هل استعمل موديلياني الأزرق؟” أسأل صديقتي الآن وأنا أكتب هذا المقال). فليسقط النقد. لم لا يسقط كل النقد مرة واحدة وأخيرة، وتحل مكانه القصص الانطباعية؟ “هيا، ما الذي أخذتَه من مشاهدتك هذه اللوحات؟ لا تقل لي مقالاً نقدياً آخر”. اللون والتاريخ مخادعان كبيران. تنتهي القصص العظيمة للحرب داخل إطار (الطولxالعرض، “اسم اللوحة”، زيت على قماش/ غواش/ أكيريليك/ باستيل على قماش (سؤال آخر “هل استعمل شاغال الباستيل؟”)/ مواد مختلفة على قماش/ ورق/ كرتون/ صفيحة دموية يابسة).
للألوان أمكنة غير موجودة. أتوقف قليلاً هنا. لم أفهم ما الذي عنيتُه بـ”للألوان أمكنة غير موجودة”، لكن احتفظ بالعبارة وليفسرّها الآخرون. زار شاغال فلسطين، في الثلاثينات. بقي في القدس بعض الوقت وهناك “تشرَّب جذور ديانته اليهودية، وتعرف إليها”. “عذراً” بمقدار صوتي بسيط. هل احتاج شاغال المتمسِّك بالتوراة كقاموس تشكيلي، والباحث عن مكانه في قريته الروسية، لا “الفلسطينية”، القدس ليصدِّق على غلاف التوراة؟ شُبِّهَ شاغال لهم ككاتب عدل. مثله مثل كافكا. ثم إنني قهقهتُ في المتحف واستداراكاً، سعلتُ. ومرَّ بجانبي بعد دقائق سيِّد سُلِّم كاميرا صغيرة جداً ولاسلكي في اليد الأخرى “هل هذا هو؟”، قال بعد أن نظر إلي. لكن شاغال صُدِمَ بفلسطين. ثورة الثلاثينيات. تداخلٌ في الرؤى والمستويات، الأحلام والأصوات. “ما الذي أفعله هنا؟”، قال الرسام لنفسه.
الفلسطينيون، جيرانه في القدس حيث أقام، ربما نظروا إليه كمجرد وافد يهودي. كان المكان ضاجاً، منافساً للضجيج التشكيلي في لوحاته. ضبضب أغراضه. هَجَّ. وبدوره، لم يحمل أي شيء في ذاكرته عن الفلسطينيين. كان عليه الانتظار خارج الواقع الملطَّخ بالأبعاد الأخرى للأزرق، كالخبث والتورّم. خارج واقع الفلسطينيين وداخل هجرة اليهود. ماضي هؤلاء البائسين الباحثين عن مكان، ظل يصطدم بالجِلد الفلسطيني المشدود كطبل والمحاصر في الوقت عينه بحائطين، واحد عربي وآخر أوروبي – أميركي. لقد فهم شاغال أكثر بعد تلك الزيارة، يُحكى. عن العهد القديم فهم، وعن نفسه. وظلَّ اليهود مشائين وتبعهم بعينين صامتتين، حتى بعد وصولهم فلسطين. سينسحب شاغال سريعاً إلى الأقصوصة الدينية، متخطياً حدودها، ومحتفظاً بالبعد التبشيري فيها، بالاحتفاء، بالفرح الإنساني الأكبر، وبصورته كرسام، لا يزال، وسط العالم المتغيِّر جذرياً. بيلّا ستساعده ببقائها عروساً في كل اللوحات، تُمسِك بفقاعة الحياة الضخمة التي تحتوي قصة اليهود وفلكلورهم. التيس والكمنجة والشمعدان، وشاغال رساماً والمسيح المصوَّر مصلوباً وسجادة الصلاة اليهودية تلفُّ خصره مخبِّئة أعضاءه الحساسة. ربما ألبس شاغال المسيح الطاقية الصغيرة أيضاً. “هل هذه طاقية اليهود؟” أتساءل وأنا أنظر إلى اللوحة الملحمية. محاولةٌ لانتقاء فضيحة. ربما! التوراة هي مصدر الشعر الأكبر لشاغال. وبالتشكيل سعى لمعرفة هذا النص الديني “الساحر”، عائداً إلى بلدته “فيتيبسك” التي هجرها مرة واحدة، ليقيم فيها مرات عدة من نيويورك وباريس أو مدن الجنوب الفرنسي المتوسطية، حتى موته.
إننا نفسد كل شيء، ولو أعطي الأطفال القوة ليفرضوا القصة من جديد انطلاقاً مما يرصدونه في أعمال المعرض وما تتركه الصباغات في نفوسهم، لسيَّروا عجلات “الإنسانية” بعيداً عن القمع الروسي ومن بعده النازي لليهود. لوضعوا ربما خرافة ما، جديدة، تكون شديدة الأهمية، تؤرق كاتبي التاريخ الحديث وترفع بلاطة المأساة اليهودية التي سُحِقَتْ تحتها مآس أخرى، في أفريقيا وآسيا وحتى أوروبا نفسها. ولربما صفَّقَ التشكيلي العاقل، مارك شاغال، لهؤلاء، من قبره.