في مبنى قديم أشبه بمَنزل عائلي منه إلى مقر رسمي في ضاحية “كامدِن” شمال مدينة لندن، تتوافَر تسجيلات ميدانية لأغانٍ إنجليزية تُراثيّة قديمة مِن توثيق الباحِث الموسيقي البريطاني “سِيسِل شارپ” (1859 – 1924)، والذي يُشار إلى المَبنى باسمه. العنوان الرّسمي لهذه المؤسسة التي تحوي مكتبة موسيقة وكتابيّة وقاعات مختلِفة للأداء الموسيقي والتّراثي، هو “جمعية الرّقص والغِناء الفُولكلوري الإنجليزي”. (1)
ساهَمَت أعمال “سِيسِل شارپ” في الحفاظ على الموسيقى التّراثيّة الإنجليزية والتي ما زالت مُتَجاهَلةً مِن قِبَل الكثير مِن الإنجليز أنفسهم، الذين يُفضل أغلبُهم الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية الغَربيّة أو موسيقى اﻟ “پُوپْ” الحديثة أو موسيقى “العالَم”، والأخيرة في أغلبها هي امتدادٌ للفِكر الكولونيالي كما التّطبيعي، ولنا في هذا حديثٌ آخَر ليس بأخير.
كتابتُنا هُنا عن أُمسية حضَرتُها في هذه الجمعية للمُغنّي والباحِث الأفريقي الأمريكي “دُوم فلِيمُونز”، مِن مواليد مدينة “فِينِكسْ” عاصمة ولاية “أَريزُونا” عام 1982 (2). أغلَب الحضور كان مِن تيّار اليَسار البريطاني ومِن الباحثين في الموسيقى الفولكلوريّة ومُؤَدِّيي أغاني الاحتِجاج السّياسي “پرُوتِست”، وكانت أعمارُهم تتفاوَت ما بين الخمسين والتّعسين مِن العُمر. الملحوظة السريعة هذه كفيلة بأن تُعطي القارئ فكرةً عن المَقُولة التي سيُغَنيها فلِيمُونز بعد دقائق.
يدخُل “حائِكُ الأغاني الأمريكي” كما يُعَرِّف فلِيمُونز نفسَه وفي يَديه عِظامٌ صغيرة ذكّرَتني بتلك التي كُنا نَراها في أفلام الكارتون الأمريكية على وجوه الأفارقة مُخترِقةً أنوفَهُم المُبالَغ في تكبيرها فوق شفاهٍ مُبالَغ في غلاظتها، وهم يُغَنّون بأسلوب أشبه بالكوميديا منه إلى التراجيديا أغاني اﻟ “بْلُوز”، تلك الأغاني التي من المُفتَرَض أن تكون حزينةً حُزنَ المُستَضعَف الصارخ بألم الثَّبات، لا نقيضَه الباكِي بألم الاستِعباد. تلك كانت أفلام قد تم انتاجها في الثلاثينات والأربعينات مِن القَرن الماضي، أيام الفَصل العُنصري “الرّسمي” في أمريكا، وأيام ما قبل “التّصويب السّياسي” الذي يرفُض الإشارة إلى الآخَر مِن منظور استِحقاري. ما يهمني هو المنظور الإنسانَوي “هيومانِست” لهذه الظاهرة أكثر من المنظور السّياسي “المُصَحَّح”، أيضًا مِن قِبَل الرجل الأبيض. (3)
قَبل البَدء في الغِناء، أخذ فلِيمُونز بالضّرب على العِظام (واحدةً في كل يَد) بإيقاعات مُرَكَّبَة سريعة خطفَت الأبصار قَبل الأسماع. هُنا بدَأَت عملية “التّصويب” للأفكار السائدة، ليس فقط تلك المُنتَمية للغَرب، بل أيضًا المُنتَمية للشّرق والمُتأثِّرة برواية المُستَعمِر عَبر أفلام الكارتون وهُولِيوُود العُنصريّة. (4)
الغِناء المُصاحِب، رَغم اختِلاف اﻟ “تُونالِيتِي” أو صِبغِيَّة الّلحن عن مُرادِفه العَرَبي، بَدَى عَتيقًا بعُمر قُرون عُبوديّة الإنسان الأفريقي ومؤثِرًا بعُمق العاطفة المَلأى بالمُقاوَمة. انتابتَني ذات الحَرقَة العَذبَة التي غَمَرَتني عندما حضَرتُ لأول مَرّة أثناء طفولتي عُرسًا جَليليًّا في قرية الوالدة “نِينْ”، مِن القُرى “الزُّعبِيَّة” جنوب شَرق مدينة الناصِرة.
كيف لفلسطينيّةٍ مِن الشَّتات أن تشعُر ذات الشّجن لدى استماعِها لمُغنٍّ أفريقي أمريكي لا يتجاوز عمره اﻟ 34 عامًا؟ الإجابة هي أنه على رَغم اختلاف الأبعاد “الّلحنيّة”، إلا أن الأبعاد “الوُجوديّة” ليست فقط متقارِبة بل تكاد تكون مُتماثِلة. والتماثُل هنا أعمَق مِن مجرد التّركيز على المُعاناة المشترَكة للجَماعات المُستَضعَفة، رَغم مِصداقيّتِها على انفِراد. بمعنى أنه يُمكننا أيضًا الاستِفادَة مِن خِبرة الأفريقي الأمريكي في تَوثيق مُعاناتِه التي استَغرَقَت عقودًا ، بل قرونًا، سَبَقَتْ تاريخ تأسيس الدولة الصهيونيّة. وهذا لا يعني أننا كشعب وكفنانين وكمُؤرخين لم نُوَثِّق تاريخ فلسطين ما قبل 1948، لأن نِتاجنا الإبداعي كشعبٍ أصلي مُتجَذِّر في أرضه مليء بالتّوثيقات التّاريخيّة والكِتابِيّة والشّفَهيّة والموسيقيّة والإبداعيّة.
ما لفَتَ نظَري في أسلوب فلِيمُونز هو تركيزه على أن التّراث الموسيقي الجَماعِي ما زال يحتل الأهمية الأولى فوق الأغنية “الخاصّة”، رَغم غزارة أغانيه التي كَتَب ولحّن دون الّلجوء إلى المَورُوث. قَد نُوافِقُه الرأي أو نختلف معه، لا سِيّما وأن الأغنية الخاصّة – وأعني هنا الأغنية التي يكتُبُها أو يُلحِّنُها الفنّان والتي قد تكون مُستوحاة مِن التّراث أو مِن الشِّعر أو مِن تجربة شخصيّة – هي ذاتها التي ستُساهِم على المَدى البعيد في توثيق السِّيرة الجَماعيّة لأي شَعب.
ومع أن فلسفة فلِيمُونز تبقى دائمًا – حَسَب تعريفه – أن الموسيقى التي يُحِبّ أن يُغَنّيها هي تلك “الموسيقى الجيّدة” سواء كانت تُراثيّة أو خاصّة، إلا أنه مازال يُشدِّد، وأنا أوافقه الرأي، على أن التّراث القديم لا يقل جَودةً وأهميةً عن الكلاسِيكِيّات الأدبيّة. يقول فلِيمُونز (بِتصرُّف): “عندما يقوم أحَدُهُم بتقديم مسرحيّة لشِيكسپِير على سبيل المثال، أنت تعرف بأن (المادّة) ستكون جيّدة. إلا أن العَرض الحَيّ والمُعاصِر لهذه (المادّة) هو الذي يتحمل مسؤولية الحِفاظ عليها، بل وعلى رَفع مَقامِها، كي يصبح العملُ عَرضًا مسرحيًّا بجدارة.” بهذا أخذ فلِيمُونز على عاتِقه تَقديم المَورُوث الغِنائي القديم بصيغةٍ حَيّةٍ مُعاصِرة. (5)
تكمن هذه المُهِمّة في التركيز على الحَكايا غير المُوثَّقة للموسيقى الأفريقية في أمريكا، وكذلك على “استِعادة” السِّياق التاريخي والسّياسي لأغاني “المِنسْترِل” وأغاني “راعي البقَر الأسوَد”. فَفنّان اﻟ “المِنسْترِل” في التاريخ الأمريكي هو المُغَنّي الأبيض الذي كان يصبغُ وجهَه بالسّواد ليُغَنِّي أغاني ذات أصول أفريقية لا تمت له بأي صلة! وقد احتَكر الفنّانون البيض هذا النّمَط في نهايات القَرن التاسع عشر وبدايات القَرن العشرين، بعد أن “زَنَّجُوا” وُجوهَهُم بصَبغةٍ سوداء مُصطنَعة كاصطِناعِهم في الغِناء واستحقارِهم في الأداء. وبفَضل موسيقيّين جادّين أمثال فلِيمُونز، تمَكنّا مِن التّعرُّف على مُغنّيي “مِنسْترِل” أفارقة، وكذلك مِن سَماع أغانِيهِم التي تَمّ مَحْو ذِكراها مِن تاريخ هذا النّمط الغِنائي في أمريكا. (6)
أما بالنسبة ﻟ “رُعاة البقَرالسُّود”، يُخَبّرنا فلِيمُونز بأنه أثناء القرن التاسع عشر كان هؤلاء يُشَكّلون رُبع التَّعداد الكامل لِرُعاة البقَر في ولاية “تِكساس”، وهُم مِن الأفارقة الذين “تحَرّرُوا مِن العُبوديّة”…. هؤلاء الرُّعاة، والذين ما زالت قِصّتهم غير معروفة على نِطاق أوسع، كانوا يؤدّون أغانيهِم بعد عَناء النّهار حول النار الموقَدة في ساعات الليل الطويل… مشهَدٌ مألوفٌ لنا مِن خلال أفلام اﻟ “ويستِيرن” المَعنِيّة بقَصص الغَرب الأمريكي، باستِثناء أن رُعاة البقَر في تلك الأفلام كانوا بِيضًا. وها هو فلِيمُونز يُكرّس وقتَه وموهبَته لنَفضِ الغُبار عن المؤلَّفات الموسيقية لِرُعاة البقَر السُّود، في أكثر مِن تسجيل وأكثر مِن مُنتَدى. (7)
أجدُ في تجربة فلِيمُونز مثَلًا يُحتَذَى به لكُل مَعنِي بتوثيق وتقديم التّراث الموسيقي، ليس فقط لمَن ينتَمي إلى الجَماعات المُستَضعَفة، بل لكُل مَن ينتمي إلى شعبٍ هدفُه الحفاظ على كِيانه الجَماعي. والمسؤولية علينا نحن كفنّانين وكباحثين في التّراث، أو على الأقَل عَليّ أنا شخصيا، أن نتعلّم مِن تجارب مَن سَبَقونا بعُهود في توثيق معاناتهِم عبر تاريخهِم الشّفَهِي. والأهم مِن ذلك أن نحرص على استِرجاع التّراث وإعادَتِه سالِمًا إلى سِياقه التاريخي الأصلي. كُلّ هذا قبل أن يتوغل المُحتَلّ في كتابة التّاريخ التي بدَأ منذ سنين مَضَت، بهدَف مَحْو تاريخ السّكان الأصليين.
سنُحاول في كتاباتٍ لاحِقة تسليطَ الضّوء على المُحاولات الصهيونية المُرادِفة لمحاولات الرّجل الأبيض في أمريكا. هناك، على سبيل المِثال لا الحَصر، الموسيقي الإسرائيلي مِن أصول عراقية “يائِير دَلال” (1955) الذي دَومًا ما يُعَرّف نفسَه بأنه “ناشِط سلام”، رغم أنه لا يُخفي حقيقة خدمتِه في جيش العدو. كما يتباهَى في سيرته الذاتيّة بعَزفه وغنائه عام 1994 في احتفاليّة جائزة “نوبِل” على ألحان معاهدة “أوسلُو” المشؤومة. نُشَدِّد هنا أن لِدَلال كامل الحَقّ في الحِفاظ على التّراث الموسيقي التاريخي لِيهود العراق، وجهوده في هذا المجال أثمرَت نتائج أكاديميّة وأدائيّة ناجِحَة. ودَلال – حسب انتمائه – يفعلُ ما يراهُ صوابًا في تَجيير مقولته الصهيونية لهذا التّراث الغنائي العَريق. إنّما الخطأ هو مِنّا نحن العرب الذين أهمَلنا مُساهَمات اليَهود في مجتمعاتِهم العَرَبيّة قبل عام 1948 وترَكنا بهذا الباب مفتُوحًا على مصراعيه لتَتبَنّى المؤسّسة الثقافية الإسرائيلية هذا الإسهام الثقافي الغَني. (8)
ولكن أن يَدّعي دَلال الخِبرَة “الوجوديّة” في موسيقى البدو الأصليين في فلسطين، وأن يُقدمها للعالَم على أنها موسيقى “إسرائيليّة عَربيّة”، هنا يَتحوّل حادِي العِيس الأصيل إلى “مِنسْترِيل” مُصطَنَع يُغَنّي لِرفع شأن الاحتلال ولإعطائة مصداقية “المُحافطة” على التّراث. وها هو موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية يتباهى ﺑ “مهرجان الثقافة البدويّة” الذي يشارك فيه دَلال تحت رعاية پرُوپاجاندا رسميّة. (9)
فهل بوسعنا نحن كفلسطينيين أن نُحِيك الأغاني لكي نتَمكّن مِن مواجهة هذه التّحديات الوجوديّة؟ نستَعيرُ هنا تعريف فلِيمُونز لِموسيقى اﻟ “بْلُوز”: “هو فَنّ الضَّحِك الذي سيُمِكِّنُك مِن التوقف عن البُكاء.” هذا هو الضَّحِك العَميق الذي مِن شأنه أن يُساهم بشكلٍ فعّال في توثيق تُراثِنا، بَدلًا مِن البُكاء عليه.
ملحوظة: الآراء السياسيّة للكاتِبة بخصوص القضية الفلسطينية أعلاه ليست بالضرورة آراء الموسيقي الأمريكي “دُوم فلِيمُونز” في هذا السِّياق.
المَراجِع المكتوبة باللغة الإنجليزية
Clarfield, G., ‘An American Revivalist: Dom Flemons and the Return of the African-American String Band’, The Brooklyn Rail, Brooklyn NY: 2012
Flemons, D., ‘Can You Blame Gus Cannon?’, Oxford American, Issue 83, Conway Arkansas: 2013
المصطلحات الإنجليزية:
كامدِن:
Camden
سِيسِل شارپ:
Cecil Sharp
سِيسِل شارپ هاوس:
Cecil Sharp House
موسيقى اﻟ “پُوپْ”:
Pop Music
موسيقى “العالَم”:
World Music
“دُوم فلِيمُونز”:
Dom Flemons
مدينة “فِينِكسْ”:
Phoenix
ولاية “أَريزُونا”:
Arizona
أغاني الاحتجاج السياسي “پرُوتِست”:
Protest Songs
حائِكُ الأغاني الأمريكي:
The American Songster
اﻟ “بْلُوز”:
Blues
“التّصويب السياسي”:
Political Correctness
إنسانَوي “هيومانِست”:
Humanist
اﻟ “تُونالِيتِي” أو صِبغِيَّة الّلحن:
Tonality
الأبعاد الصوتية “الّلحنية”:
Musical Intervals
أفلام اﻟ “ويستِيرن”:
Western movies
رُعاة البقَر السُّود:
Black Cowboys