تناوَل الكثير من الكُتّاب والنّاشطين موضوع مقابلة الكاتب اللبناني أمين مَعلُوف (1949) في قناة i24 الإسرائيلية الخاصّة والناطِقة بالفرنسية (1). الصّادِم بنظري هو السّياق الذي ظهر فيه مَعلُوف في تلك الحلقة، وأنا هنا سأتناول الجانب الموسيقي منه، وفي طيّاته الكثير من المخاطِر الجميلة.
هناك مثلًا فقرة عن عازف الكُونتَرباص الإسرائيلي أڤِيخاي كُوهِين، الذي شارَك في مِهرجان قرية أبُو غُوش “العربية في إسرائيل” كما وصَفَتها المُذيعة الاسرائيلية ڤاليري أبي قَسِّيس (من مواليد مدينة وَهران شمال غرب الجزائر). ذات المُذيعة التي سَبَق وأن أدلَت في مقابلة صحفيه أنها شَعرَت بالألم أثناء زيارتها للخليل وللنّاصرة لأنها وجَدَت “الله في كل مكان في هاتين المدينتين”، وبأنها مُستاءَة من أهل رام الله وغَزّة لأنهم “دَومًا رافضين التّعاون مع يهود وإسرائيليين” كُلَّما حاوَلَت أن تُعطيهم فُرصة المايكروفون وخشبة المسرح، جزاها الله كل الخير. (2)
حَسب موقع “عَرَبيل: صوت إسرائيل والتلفزيون الإسرائيلي”، يتم تنظيم (مِهرجان أبُو غُوش للموسيقى الصّوتية الكلاسيكيّة) مرتين كل عام وذلك “بالتّزامُن مع عيد المِظلّة وعيد نزول التّوراة لدى الشعب اليهودي” (3). وكالعادة، يبدو المُوسيقِي الإسرائيلي وكأنه يتنازل عن شُوڤينِيّته الاستيطانية ليُشارك “العرب” في مِهرجاناتهم، ناهيك عن طمعِ أمثاله من أن تزيد شعبيّتهم عند العالَم الحالِم بالسّلام، بما فيه عالَم مُتَعهّدي الحفلات والعرب المُغَيّبين.
إلّا أن الفَقْرة التي لفَتَت انتباهي الأكثر هي الأخيرة، حيث اختُتِمَت الحَلْقة المُشَبَّعة بأجندة الهاسبارا الصّهيونيّة بِوَصلَة موسيقية تُشارك فيها أخوات ثلاث إسرائيليات يحملن إسم “أيوَه” كفَريق موسيقِي (“أيوَه” الدّارجَة لكلمة “نَعَم” العربيّة، وليس فقط “اليمنيّة” كما يَقُلنَ بإصرار).
فتياتٌ جَميلات من أُصول يمنيّة (أو “يَمَنِيت”، تلك الكلمة المُعَبرَنَة، وكأنهم أرقَى مَنزلةً من اليمنيين “الچوييم”)، كُنّ يُؤدّين أغنية أجمَل بعنوان “فَضلَك يا سايق المَطَر”، والتي يُقَدّمُها الفَريق على أنها من “التّراث اليمني اليهودي الأصيل”. وبالطّبع، رغم أُصول الفتيات الشّرقيّة، كان اللَّفظ أقرب إلى الأشكنازيّة منه إلى اللَّفظ العربي، فيُضحِي المَطَرُ “مَتَرًا”. الفَقْرة الموسيقية في ختام البرنامج أعلاه تبدأ في الدقيقة (31:05). وهذا تسجيل آخر للأغنية من أداء نفس الفريق. (4)
الأغنية، كما يقتَرح عنوانها، هي نداءٌ للاستِسقاء، غنّتها الأخوات الثَّلاث على مقام “العَجَم” المُشابِه لسُلَّم “الماجُور” في الموسيقى الغَربِيّة (5):
يا صاحِبَ الجُود والكرم
أحيَيتَ الأرضَ مِن عَدَم
خَلّيت (الإبل) والغَنَم
يرعَى مِن (الدّار) والشِّجَر…
فَضلَك يا سايق المَطَر
تُشكَر يا سايق المَطَر
تُحمَد يا سايق المَطَر…
كانت أيضًا آلة الدّرَبُكّة الإيقاعيّة مُرافِقَة لإحدى الأخوات، وهي تَنقُر بأُسلوب شَرقيّ مُصطنَع الإيقاع الرُّباعي “المَقسُوم” على وَزن (4/4)، والذي نَظرًا لسَلاسَتِه ومُتَوسّطِيّتِه (كالبَحر) في المِزاج، لطالما رافَق الموسيقى المِزراحِيّة والشّرقيّة في غناء الإسرائيليين من أُصول مَشرقيّة (6). ولَم تَغِب أيضًا التّنَكَة أو عُلبَة الصّفيح (كتلك التي تَحوي الزّيت) المُستَخدَمَة في الموسيقى الشّعبيّة اليمنيّة، بما فيها تُراث اليهود المُتديّنين الرّافضين للآلات اللَّحنِيّة. فتَبدُو التّنَكَة هنا آلةً إسرائيلية مُنسَجمَة مع عرض الصُّور في خلفيّة الاستوديو من مناظر صحراويّة خَلّابة تَقطَعُها جِمالٌ عربيّة، وكأنّنا نُتابع فيلمًا للمخرج البريطاني ديڤيد لين.
هو إذًا مشهد استِشراقي صِرف، وبكل التّعريفات، الأكاديميّة منها والهُوليوُوديّة. ولِباس الفتيات – وهُنّ مغنّيات مُقتَدِرات ذوات مَلَكَة توزيعيّة معاصِرة لافتَة للاهتمام – كان خليطًا من اللّباس الأورُوپِّي واليمني وحتى المغربي والبَلُوشي… پاستِيشٌ استِعراضيّ مُبَندَق ومُربِك رغم جاذبيّته.
أُقِرّ بأن معرفتي بأغنية “فَضلَك يا سايق المَطَر” لم تتعَدَّ تلك التي أدّتها المطربة المصريّة آمال حسين (1912 – ؟) برفقة “شَيخ المَدّاحين” الممثّل والمغني المصري محمد الكَحلاوي (1912 – 1982) في فيلم “رابحَة” (1943) من إخراج وسيناريو نيازي مصطفى، عن قصّة لمحمود تَيمُور، تَحمِلُها أزجال كل من بيرَم التّونسي وعبدالحميد عبدالرحمن، ومن بطولة كوكا وبدر لاما. (7)
تدور أحداث الفيلم حول قصّة حُب بين فتاة من قبيلة بدويّة وشاب من المدينة وهُما في خِضَمّ مُعارضة أهل الفتاة المُحافظين على عاداتهم العَشائريّة. إلا أن نُسخَة آمال حسين ومحمد الكَحلاوي كانت على مَقام “الرّاست” الشّرقيّ الخالِص (8)، على خِلاف نُسخَة الإسرائيليات في مَقام “العَجَم”. تظهر الأغنية في الفيلم في سِياق احتفال قبيلة “بَنِي عامِر” بموسم الشّعِير في العام الذي تجري فيه الحكاية. هناك أيضًا نُسخَة صوتيّة شهيرة يُؤدّيها الشّيخ محمد الكَحلاوي مُنفَردًا. (9)
نظرًا لتطابُق الكلمات – مع اختلاف بسيط في كلمتين أو ثلاث – بين النُّسخَة “اليمنيّة اليهوديّة” وتلك “المصريّة”، يمكننا أن نجزم بأن مُؤلَّف كلمات الأغنية كما تظهَر في الفيلم هو إمّا بيرَم التّونسِي أو عبد الحميد عبد الرحمن، أو كلاهُما (حَسب ما هو مكتُوب في مُقدّمة الفيلم) (10). من خلال البحث، وَجَدتُ أغلب المصادر تَذكُر بيرَم التّونسِي (1893 – 1961) زَجّالًا لكلمات الأغنية. فكيف إذًا تكون الأغنية “يَمَنِيت” دونَ غيرها، رغم أن سِياق الأغنية ظهر كأُهزوجَة بدويّة في فيلم مصري؟
لا عجب إذًا أن نرى مُطَبّلاتي الپرُوپاغاندا الصّهيونيّة النّاطِقَة باللُّغة العربيّة أڤيخاي أدرعي وهو يَدعو مُتابِعيه العرب على صفحته في “الفيسبوك” للاستماع إلى فريق “أيوَه”، قائلًا
للإجابة على هذا السؤال، ذَهَبتُ في رحلة بحث في الموسيقى اليمنيّة التي طالما أحببتُ ولها طَرِبتُ أثناء سنين النّشأة في الكويت خلال سَبعينِيّات القرن الماضِي. وجَدتُ أن هناك بالفعل أغنية يمنيّة تحمل نفس الإسم (وكذلك إسم “رُحماكَ يا سايق المَطَر”)، وتَتّبِع نفس القالِب الموسيقِي، أيضًا على مَقام “الرّاست” كالنُّسخَة المصريّة، ولكن بكلماتٍ مُغايِرَة لها ولتلك التي تُغَنّيها الأخوات الإسرائيليات الثَّلاث.
تُعتبَر النُّسخَة اليمنيّة الأكثر شُهرة تلك التي من أداء الفَنّان اليمني الكبير محمد حمُود الحارثي (1935 – 2007)، حيث تُصَنَّف الأغنية في أكثر من تسجيل ڤيديو بأنها من “الغِناء التّطريبي الصّنعانِي”. بالنسبة للَّحن (وهو بالمناسَبة مُطابِق للَحن الكَحلاوي في الفيلم المصري)، قَرَأتُ في بعض المصادر أنه يُنسَب للحارثي، وفي أُخرى للتّراث اليمني. علاوةً على ذلك، وجَدتُ أن أغلب المصادر اليمنيّة، الصّوتيّة منها والمَقرُوءَة، تُصَنِّف الأُهزُوجَة كنشيدٍ دِينِيّ (لا دُنيَويّ)، أي أن للأُهزوجة طابعٌ رُوحانيّ يتماشَى مع صلاة الاستِسقاء، لدرجة أن بعض التّعليقات تَنصَح بالتّخَلّي عن الآلات اللَّحنيّة وبالاكتفاء بتلك الإيقاعيّة، نظرًا لقَداسة المُحتوى: (11)
بالإسم، باللُّوحِ، بالكتاب
بالنّور، بالعَرش، بالحِجاب
بالفَضل يا مُنشِئ السّحاب
ومُوجِدَ الكَون مِن عَدَم…
فَضلَك يا سايق المَطَر
تُحمَد يا سايق المَطَر
تُشكَر يا سايق المَطَر…
إذًا، الأُغنية بنُسخَتها “الإسرائيلية” استَخدَمَت نشيدًا يمنيًّا أو/و حتّى أغنية مصريّة من تلحين محمد الكَحلاوي، مع تغيير المَقام من “الرّاست” إلى “العَجَم”. ثُمّ ألبَسَتْهُ كلماتٍ من نَظم بيرَم التّونسِي، وهي التي نَسمَعُها تُغَنَّى في فيلم مصري عن قبيلة بدويّة. فأصبح هذا “الكوكتيل” المُتَماشِي مع الأزياء المُتَخالِطَة للفنّانات الإسرائيليات “تُراثًا يمنيًّا يهوديًّا”!
ما أجِدهُ أكثر غرابَة، بل وأشَدّ ألمًا من مشارَكة أمين مَعلُوف في تلك الحَلقَة، هو أن أغلب تعليقات المشاهدين العرب واليمنيين تَمدَح الفتيات الإسرائيليات، دون أدنى تَحَفُّظ. رغم اختلافي السّياسي العميق مع أي فنان صهيوني (مهما كانت درجة الموهبة)، إلا أنني لا أرى ضِرارًا في موضوعيّة تقدير الموهبة بصيغَة مُطلَقة، مع تشدِيد الخلاف الآيديولوجي دون المُساوَمة. ولكن أن يُثنَى على الفنّانات الإسرائيليات بأنّهنّ “يُحافِظنَ على التّراث اليمني”، هنا تكمُن المشكلة. لا عَجَب إذًا أنّي أشعُر بشَماتَة هِستيريّة حين أقرأ أغلب ردود الصّهاينَة على المُعجَبين العرب “المُندَلقِين”، قائِلِين:
“هذا تُراثٌ يهوديٌ يَمَنِيت، وهو لا يَمِتّ لكُم ولبَقِيّة اليمنيين المسلمين أوالعرب بأي صِلَة” أو:
“هؤلاء الفنّانات هُنّ إسرائيليات من أصلٍ يَمَنِيت، وهُنّ لسن بعربيّات”.
فتأتي هرولَة المُعجَبين العرب في تعليقاتهم أسفل تسجيلات ڤيديو “اليوتيوب” مُتَسابِقَة مع أمين مَعلُوف ليس فقط في التّطبيع مع الصّهاينة، بل حتّى في الإعجاب بإنجازاتهم. لن أضع كلمة إنجاز بين قوسين هنا، لأنّ مشاريع كهذه هي بكُلّ موضوعيّة إنجازٌ موسيقيٌ هام، وإنجازٌ صهيونيٌ أهَمّ، يُسهِم في نجاحه عاملان: مواهب إسرائيلية من أُصول يمنيّة، مَدعُومَة رسميًّا، تُعنَى بالمُحافَظَة على تقاليدها الآتِيَة من بلاد اليمن، وإهمالٌ عربيٌ شخصيٌ ورَسميٌ لتُراثِنا الغِنائيّ الجَماعيّ، فلسطينيا كان أم يمنيًّا.
تأتي إلى ذهني هنا الفنّانة الإسرائيلية من أصل يمني أُوفرا هازا (1957 – 2000)، التي رَحَلَت وهي في أوج عَطائِها الفَنّي. يُحِبّ الكثير من المُعجَبين العرب أن يَلفِظُوا اسم أُوفرا هازا بالصِّيغَة العربيّة، “عَفراء هَزّاع”، وكأنّها كانت تَعتَبرُ نَفسَها عربيّة. أمّا أنا، فسألتزم باسمِها العِبريّ لأنها اختارَتهُ دون غيره في حياتها الشّخصيّة والعَمَليّة (إسمُها في شهادة الميلاد هو: “بات-شِيڤا أُوفرا هازا”). (12)
من الصّعب إنكار الموهبة الكبيرة والمُتنوّعَة التي كانت تَحظَى بها هازا. هل نَلُومُها مثلًا على أنّها كانت حَريصَة على الحِفاظ على تُراث والديها اليمنيَّين؟ هل نحكُم عليها لأنّها تَمَتّعَت بمُساندة المُؤسّساتيّة الثَّقافِيّة الإسرائيلية؟ هل نستَنكِر احتفاء مِهرجانات “موسيقى العالَم” غير المَسبُوقَة بها؟ قد تبدو إجابَتي بالنّفي هنا غريبةً نوعًا ما، لأن في رأيي أن الأخطر من كلّ هذا وذاك هو ما تَفَوّهَت به هازا أثناء تقديم حفلها الشّهير ضمن فعاليّات “مِهرجان مُونترُو للجاز” في سويسرا عام 1990. بعد التّحيّة والسّلام بالعِبريّة والإنكليزية والفرنسيّة، وَقَفَت هازا وأعلَنَت على المَلَأ التالي: “يُعَلِّمُنا التّاريخ بأنّ أجدادي منذ أكثر من 2500 عامًا، إبّانَ حُكم الملك داوُود والملك سُليمان، أخَذُوا معهم هذه الموسيقى إلى مَنافيهم في الصّحراء اليَمَنِيت.” وبعد التّهليل والتّصفيق، انطَلَقَت هازا لتُغَنّي باللُّغة العربيّة الرّكيكة (اللُّغة الوحيدة التي لَم تُحَيّي بها جمهورها) أغنيةً من التّراث اليمني الدُّنيَوي، بمعنى أن الأغنية لم تَكُن من الأناشيد الدّينيّة الخاصّة بالمُجتَمَعِ اليهودي دون غيره في اليمن. (13)
بهذا تَمَكّنَت أُوفرا هازا، وببلاغَة سَلِسَة، من أن تُلَخِّص لنا العبقريّة الإسرائيلية في إعادة كتابة التّاريخ. بالنّسبة للمُؤسِّسين الصّهاينَة، هذه ليست بالسّرقة، بل على العكس. إنّها عمليّة اكتِمال للدّائرة الاستمراريّة المَزعُومَة، وذلك عن طريق “إعادة” التّراث “اليَمَنِيت” إلى مكانه “الطَّبيعي” على أرض فلسطين، بين حدود دولة أورُوپيّة-كولونياليّة حديثة المَنشَأ لا يزيد عمرها عن 68 عامًا (أو 42 عامًا، لو تحرّينا دِقّة تاريخ المِهرجان). إلّا أن في هذه العبقريّة فجوة لم نتمكّن نحن العرب من اختراقِها ليومنا هذا. ألا نُلاحظ التّضارُب في المَقُولَة الصّهيونيّة أعلاه؟ هُم يريدون أن يكونوا “مُتَمَيّزين” عن الآخَر في كل شيء، وفي ذات الوقت يريدون أن تتخطّى مَقُولَتهُم الوجوديّة كلّ الأصقاع، ضمن كلّ انتماء قومي، على رأس كلّ عُرس ثَقافيّ، وفي ثَنايا كلّ لِباس تقليدي. برأيي هنا تَكمن نقطة البَدء لدَحض أيّ ادّعاء صهيوني باستمراريّة الوجود “الإسرائيلي” على أرض فلسطين “منذ 2500 عام”.
أمّا الجيل الجديد من الإسرائيليين “اليَمَنِيت” فقد أخَذَ السّرقة الإسرائيلية إلى ما هو أبعَد… وأخطَر: إلى عالم الصّحراء والجِمال، والأزياء اليمنيّة المُهَجّنَة بالجلباب وبالحذاء الرّياضي الأبيض، بل وحتى بعصبتي الرأس الفلسطينية والأردنية، وأزجال بيرَم التّونسي مُوشِّحَةً لِنشيدٍ يمني، وبمُعالَجَة عَولَمِيّة بارعة من فنون “الرّاپ” و”الهِيپ-هُوپ” الغربيّة. بمعنى آخر: كفانا حديثًا عن السّرقة الإسرائيلية بأسلوب رَدّ-انفِعاليّ مُتَكرر عن الفلافل والحُمّص، على رغم أهميتهما للعُقُول قبل البُطُون. من الأجدى أن تَتَطَوّر جهودنا مع تفوُّق العمليّة الإسرائيلية في السّرقة وفي إعادة كتابة التّاريخ (وهي عمليّة فِعل حاضِر مُستَمِر، وليست بالفعل الماضي وحَسب)، لكي نلحق بسرعة وإن كانت متأخِّرة، بعمليّة خَلق الحقائق التّي هي نتيجة طبيعيّة للسّرقات المُتَكرّرة عبر العُقود.
لا عجب إذًا أن نرى مُطَبّلاتي الپرُوپاغاندا الصّهيونيّة النّاطِقَة باللُّغة العربيّة أڤيخاي أدرعي وهو يَدعو مُتابِعيه العرب على صفحته في “الفيسبوك” للاستماع إلى فريق “أيوَه”، قائلًا:
“أغنية (حبيب قلبي) باتَت إحدى الأغاني المسموعة أكثر في إسرائيل في الفترة الأخيرة. هذا الإيقاع اليمني يخترق حَلَبات الرّقص، ومعه الكلمات العربيّة باللّهجة اليمنيّة. صباح الخير.”
لاحِظ استخدام أدرعي كلمة “يمني” هنا، لا “يَمَنِيت” المُتَعالية، رُبّما كي يضمن كسب عدد أكثر من الشّباب العربي لصالح روايته الخَرقاء. (14)
على عكس تعليقات الإعجاب التي قرأنا منها الكثير أسفل تسجيلات ڤيديو المغنّيات الإسرائيليات، وَجَدنا هنا بعض التّعليقات التي تدعو إلى التفاؤل، وإلى شَماتَة… من نوعٍ آخر:
“صباح الطّين من مَصر، يَلّا يا ابن الكلب.” أو:
“وَلَا يا فُوفُو! إفتَح نايل سينما بسرعة، في فيلم (الطّريق إلى إيلات) إللّي انتَ بتحِبُّه.”
لكن من المُؤلِم أن نرى الكثير من التّعليقات الجارحة مُتَداوَلَة عند المُتابِعين العرب لصفحة أدرعي، ما بين مُعجَبين بفريق “أيوَه” أغلَبهُم للأسف من اليمن، وما بين مُعارِضين، كاشفين اختلافاتِنا على مَلَأ الصّهاينة، وبوحشِيّة مُخزيَة. وتَزُول بعض المَخاوف عند قراءة تعليقات أخرى من اليمن:
“أهل اليمن متبَرئِين منّك ومن تعليقك. تُراث اليمن تُراث عَريق، ومش منتظر من هؤلاء الكلاب عَشان يحيُوه.” أو:
“شُوف يا ابن الكلب… تتغَنّى بأغانينا اليمنيّة ومنَزّل منشور خاص… إنت كَتَبْت كلمات الأغنية بشكل خاطِئ.”
قد يلومُنا البعض بأن هذه المقالة رغم رفضها لجهود الهاسبارا الإسرائيلية، هي نوعٌ من الدّعايَة التِّلقائيّة لظاهِرَة فَنّيّة وسياسيّة مثل فريق “أيوَه”. ونحن نقول بأن “دعاية” كهذه هي ما نحتاج إليه الآن لكي نضع أيدينا على وَرَمٍ قد يَكبُر في المستقبل لدرجة يَصعُب علاجها. فالتّطبيع الذي يحصل أمام مَسامِعِنا ومَرآنا هو تطبيعٌ حِسِيّ أكثر منه فِعلِيّ، من شأنه أن يخترقَ الآذان والقلوب والعيون أينما كانت، دُونَ إقامة عَلاقات دبلوماسِيّة مع العَدُوّ (كي لا ننسى هذه الكلمة). هذا النّوع من “التّوعِيَة الصّهيونيّة” هو أخطر من أيّ تطبيعٍ مادّي أو جَسَداني. وها نحن نقرأ في أكثر من مصدر إعلاميّ، كما كُنّا نقرأ أيّام “الدّبلوماسيّة الثّقافيّة” لأُوفرا هازا في الثمانينات، بأن هذا الإعجاب الفنّي من شأنه “أن يبني جُسورًا ما بين الشّباب العربي ونظيره الإسرائيلي”. أنعِم وأكرِم…
فنَجِد إحدى الأخوات من فريق “أيوَه” بعد ذلك كُلّه تقول في مقابلة لها على موقع “ميدِل إيست آي”: “يسألنا النّاس هل أنتُم من اليمن أم إسرائيل؟ لقد أحبَبْنا الغُمُوض الذي يَلُفّ الموضوع، لأن التّركيز أصبح على الموسيقى، وهذا هو المُهم.” لاحظ كلمة “غُمُوض” الهُلامِيّة والخطيرة في آن. ثُم تُضيف، ماسِحَةً تحت السَّجّاد البُعد السِّياسِي لدَولتِها الاستيطانيّة: “نحن نُمَثّل كُلّ النّاس. الموسيقى بَريئة من السّياسَة، وهي لُغة يَفهَمُها الجميع، وهذا سِرّ جمالِها.”
لكُلّ هذه الأسباب، أجِدُني أُشَدّد بأنّ مقابلة أمين مَعلُوف كانت أخطَر من مجَرّد التّطبيع، رغم فَداحَتِه على انفِراد. وأشُكّ بأن مَعلُوف لا يَملكُ الذّكاء والفِراسَة الكافِيَين لإدراك مدى خطورة الفَقْرات المُختَلِفَة لتلك الحَلقة التّي تَغَنّتْ بسائق المَطَر فوق صحراء أرض مَسرُوقَة من سُكّانِها الأصلِيين.
هذا بالنّسبَة لمَعلُوف، أمّا بالنّسبَة للشّباب العربي المُعجَب بالمُغنّيات الإسرائيليات (وأغلبهُنّ مثل سابِقَتِهنّ أُوفرا هازا قد خَدَمْنَ في جيش الاحتلال الإسرائيلي)، فهذه حالة فَريدة من الاستِشراق المُنعَكِس على الذّات، لا سِيَّما أنّ أغلَب هؤلاء الشّباب يَنحَدِر من مُجتَمَعات شَرقيّة إسلاميّة لا تُشَجِّع بَناتها على الظُّهور، فضلاً عن الغِناء والرّقص. والنّتيجة هي حالة مُتخبِّطة من الاسقاط الثّقافيّ المُتَعَطِّش للانتِماء على البَدِيل الوحيد المُتَوافر، وهو الإسرائيلي للأسف، وبجدارة.
ليست المشكلة فيما إذا كانت أغنية “فَضلَك يا سايق المَطَر” مصريّة أم يمنيّة، دينيّة أم دُنيَويّة. المشكلة هي أنّ فريقًا غنائِيًّا إسرائيليًّا ومن صُلب المُؤسّسَة الثّقافيّة الصّهيونيّة قد استطاع أن يُزيح الغُبارَ عنها، وأن يُقَدّمها للعالم على أنّها تُراثٌ “يَمَنِيت”، أي إسرائيلي بالتّبَعِيّة. أمّا نحن العرب، فيبدو أنّنا لا نَعرف أصل الأغنية من فَصلِها، رغم نعمة وعراقَة تُراثِنا. ذلكَ بأن سائِقَ المَطَر “لمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِم” (الآية 53 مِن سُورَةِ الأَنْفال).
الروابط:
1 http://www.i24news.tv/fr/tv/revoir/culture-fr/x4e5esd
2 http://miridavidovitz.blogspot.co.uk/2015/05/parisian-woman-in-orient.html
3 http://www.iba.org.il/arabil/?entity=576045&type=1&topic=0
4 https://www.youtube.com/watch?v=2jInF0ZLfNs
5 http://www.maqamworld.com/maqamat/ajam.html#ajam
6 http://www.maqamworld.com/rhythms/muwashahat1.html#maqsum
7 https://www.youtube.com/watch?v=QjfbKji-O9E
8 http://www.maqamworld.com/maqamat/rast.html
9 https://www.youtube.com/watch?v=ymLydnWYRPU
10 https://www.youtube.com/watch?v=ZWk619O2cA8
11 https://www.youtube.com/watch?v=opz5tUTzzYw
12 https://en.wikipedia.org/wiki/Ofra_Haza
13 https://www.youtube.com/watch?v=rPtWrfpI22Q
14 https://www.facebook.com/IDFarabicAvichayAdraee/posts/1005288156188443