لو حالفك الحظ وحضرت يومًا ثقافيًا أو تضامنيًا فلسطينيًا في الشمال البريطاني، لكنت أحد متذوقي الفلافل والحمّص من صُنع يدي رجل بريطاني كبير في السن لا تفارق وجهه ابتسامة جَدّ قَنُوع بأحفاده اسمه جورج آبِيندستِيرن (1930 – 2019). بجانبه سيدة تبدو أصغر منه سنًا اسمها ليندا كلِير، زوجته التي ناضَلَت معه في الـ 39 سنة الأخيرة من حياته المليئة بالأحداث السياسية التي أَطّرَت كيانَه ووجودَه.
بالنسبة لي شخصيًا، حالفني هذا الحظ عندما قابلت جورج وليندا من خلال فعاليات “مهرجان مانشيستر الدولي” عام 2007. كُنّا نُقَدم مشروعًا موسيقيًا لمجموعة من اللاجئين بالتعاون مع موسيقيين بريطانيين. وكان في الحضور سيّدَة يهودية صهيونية لم تُعجِبها مقولة الأمسية، وكُلما ذكَرنا شيئًا أو أخَر عن التراث الفلسطيني، كانت تقفز قائلة: “هذا موجود في تراثنا نحن أيضًا!” ثم تقَدمَت ليندا برفقة جورج، كلاهما كان ملتحفًا الكوفية الفلسطينية، وقالت بلهجة شمالية أصيلة: “لا نحتاج لأي أحد أن يُشَكّك في يهوديتنا لمجرد أننا مُعادين للصهيونية، ولا نحتاج لأي أحد أن يُشَكّك في التراث الفلسطيني لمجرد أنكم لا تعترفون به.”
منذ ذلك اليوم، تكَوّنَت الصداقة والرّفقة السياسية مع جورج وليندا. أعترِف أن علاقتي مع ليندا كانت هي الغالِبة في بادئ الأمر، ربما لحاجتي إلى أم بديلة بعد وفاة والدتي، أو لرغبتي في التعرف على المزيد من النشاط السياسي في الشمال، هذه القطعة الجغرافية التي اشتَهَرَت عبر التاريخ البريطاني الحديث بحِراك الجمعيات النقابية وتظاهرات عُمّال المناجم وإغلاق مصانع النسيج وتصاعُد المطالَبات بالمساواة الاجتماعية. أعترف أنني لم أتَعَرّف على جورج عن قُرب إلا في السنوات العشر الأخيرة، وكانت معرفتي عن حياته ونضاله تنمو كلما اجتمعتُ به في مطبخه المليئ بالمُلصَقات السياسية والأطباق الفخارية الفلسطينية. في كل اجتماع، كنت اكتسب معلومة جديدة كوّنَت نسيجًا مُطرّزًا لشخصه الجميل كناشط سياسي ومناضل دؤوب حرّكَته الإنسانَويّة قبل الدّوغماتية، الأخيرة التي أصبَحَت من بَصمات البعض الأصُوليّ في حركات اليسار.
من مواليد ألمانيا، نزح جورج مع والديه وأخيه إلى بريطانيا عام 1938 إثر تصاعُد الحركة النازية في وطنه الأم، واتّجَهَت العائلة اليهودية إلى مقاطعة لانكِشِير في شمال بريطانيا التي ستُصبِح الوطن البديل لجورج مدى الحياة. كل هذه الجوانب كان لها صدى خاص في قلب وضمير هذا الرجل الصادق. في إحدى زيارات ضيوف من ألمانيا إلى مُدُن الشمال البريطاني، تساءَل أحدهم عن سبب اختيار جورج الحياة في مدينة “رُوتشدِيل” (التي قضى فيها 80 عامًا من عمره الطويل). كانت إجابته بكل بساطة، مع قليل من الدموع: “هنا بيتي، وهذا وطني.”
هذا “الوطن”، أو بالأحرى، “الوطنية” كانت بعيدة كل البعد عن التعصّب المَناطِقي الذي يكتنف العديد من الحركات القومية، في الغرب بالذات. تمثّلَت وطنية جورج في التضامن اللاشَرطي مع الطبقات العاملة والمجتمعات المُهمّشة. كان يطبخ للاجئين السياسيين في منطقته، غير متناسٍ أيام طفولته كلاجئ جديد في بريطانيا. كان يصطحب رفاقه إلى المحكمة، غير متجاهل ذكريات اعتقال والده من قِبَل السلطات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية لأنه “غريب من دولة العدو”. كان ناشطًا في “حملة نزع السلاح النووي” ومدافعًا عن “خدمة الصحة الوطنية”، تلك المنظومة التي تفخر بها بريطانيا والتي باتَت تخضع لتهديدات قد تزعزع من العلاج المجاني الذي طالما حَسَدنا عليه الكثير.
أما الوطن “السياسي”، فكان بالنسبة لجورج هو الانضمام إلى “الحزب الشيوعي” الذي وجد فيه ضالته في بادئ الأمر كمَنفَذ لإشباع ميوله وتطلعاته الاشتراكية. إلا أنه ترك الحزب فيما بعد، وانضم إلى “الحزب الشيوعي الجديد” مع رفيقة دربه ليندا التي تعرّف إليها عام 1980. بعدها بسِتّ سنوات، تزور ليندا فلسطين لأول مرة في حياتها، وتُشَكّل هذه النقطة بداية جديدة لنشاط جورج السياسي ضمن “حملة التضامن مع فلسطين” التابعة لمدينة مانشيستر، ثالث أكبر مدينة في بريطانيا بعد لندن وبيرمنجهام. لم يتوقف نشاط جورج إلى هذا الحد، بل امتَد إلى مساندته لمنظمة “نساء شماليّات من أجل فلسطين” التي تعمل ليندا في صفوفها، والتي لي الشرف أن أكون من النساء المتعاوِنات معهن بحُكم ولادتي في مانشيستر. كان من الطبيعي أيضًا أن تجد “حركة مقاطعة إسرائيل” نصيرًا جديدًا لها في جورج، الذي لم يأل جهدًا في دعمها، بدءًا من حضور الاجتماعات والدعوة إليها وانتهاءًا بحملاته المُشاغِبة التي تمثّلَت بانتقاء المنتوجات الإسرائيلية في الأسواق المركزية ووضع ملصقات حملة المقاطعة عليها، خُلسة دون شك!
بالإضافة إلى تخصصه في تحضير الحمّص والفلافل والسّلَطة العربية، مَن مِنّا من نشطاء حركة التضامن في شمال بريطانيا لم يذُق خُبز الـ “بِيغِيل” الذي كان من اختصاص جورج؟ (قُرص خبز دائري من ابتكار المجتمع اليهودي في پولندا، مكوّن من عجين القَمح الذي يتم غليه قبل أن يُوضَع في الفرن).
هذه هي اليهودية “الثقافية” التي افتَخَر بها جورج، هذا الأوروبي الذي برع في تحضير أطباق خاصة بمجتمعه اليهودي في وطنه الأم، بالإضافة إلى شوربة الدجاج الشهيرة بـ “الپِنسِلِين اليهودي” التي تخَصّصَت ليندا في طهيها. ولا ننسَى اللغة اليِدِيشِيّة “إِيدِيش” التي اشتهر بها يهود أوروبا، والتي بَهّرَت مصطلحاتها المُؤلِمة-المُضحِكة لغة وسردية جورج وليندا. إلا أن هذه الثقافة اليهودية الأوروبية لم تشفع لهما: لطالما عُرِف جورج في الأوساط الصهيونية بأنه “ليس يهوديًا صِرفًا” نظرًا لمعاداته الشديدة للصهيونية. ولطالما تعَرّضَت ليندا إلى مضايقات وتهديدات وصلت لدرجة ترتيب حراسة خيالة الشّرطة أثناء التظاهرات الفلسطينية الكبيرة في مانشيستر، المدينة ذات التواجد اليهودي الأكبر في بريطانيا بعد محافظة لندن الكبرى.
باختصار، نَجِد أن مسيرة جورج لم تَفصل ما بين “الشخصي” و”الجَماعي”، إلا أنها تمكّنَت بجدارة إنسانية أن تَفصل ما بين “اليهودية” و”الصهيونية”، بيد أنها لم تَفصل ما بين الأخيرة و”الفاشية”.
كيف لنا إذًا أن نطمع في المزيد من الإلهام والصّمود في مقولتنا السياسية والثقافية أمام مَثَل كهذا؟ بكل أسى، ستفتقد حملات التضامن والنشاط السياسي في بريطانيا مناضِلًا شرسًا من المُحارِبين القدامى الذين عاصروا النازية والفاشية والعنصرية والصهيونية، إلا أنهم لم يُناصِروا نضالًا دون الآخر ولم يُفَرّقوا بين الضحية والأخرى.
هذه، بكل بساطة، هي الأممية الحَقّة التي ما انفك يُغَنّيها الاشتراكيون في نشيد الـ “الإنترناسيونال” منذ نهايات القرن التاسع عشر: “هذه هي معركتنا الفاصِلة والأخيرة، حين تثور الإنسانية وتحيا الأممية.”