بلا شك يجري تهميش إنجلز في الغالب، والأسوأ هو موقف “الماركسية الغربية” الذي لا يهمّش إنجلز فقط بل يرفضه، ويعتبر أنه مُدخِل “لوثة هيغل” إلى الماركسية، فـ “الديامات” هي من اختراع إنجلز وليس لماركس علاقة بها. قبل ذلك كان بيرنشتاين يعتبر الديالكتيك هو “لوثة هيغلية” ركبت ماركس.
إذن، إنجلز يتحمّل هيغلية ماركس، حيث يبدو أن “هيغلية” إنجلز قد أُلصقت بماركس، أو يجري الفصل الكامل بين إنجلز وماركس على اعتبار أن هذا الأخير قد تخلّص من “لوثة هيغل” التي ظلت لصيقة بإنجلز. هذا المنظور يوصل إلى فهم ماركس كاقتصادي، أو هو أساس ما شاع تحت عنوان “المادية التاريخية”، ومن ثم إخراج إنجلز من الماركسية. وهو المنظور الذي أوصل ألتوسير إلى اعتبار الماركسية هي “علم التاريخ”، وباتت تُبنى على نص لماركس كتبه في كتاب “إسهام في نقد الاقتصاد السياسي”، يفهم التاريخ انطلاقاً من الأساس الاقتصادي، وعبره يتكرر “استشفاف” ماركس لأنماط الإنتاج وكأنه قانون منضبط للتطور التاريخي.
إنجلز الاقتصادي وماركس “الفيلسوف”
كان لقاء إنجلز مع ماركس بعد كتابة الأخير لنص “خطوط أولية لنقد الاقتصاد السياسي”، وأيضاً بعد إصدار إنجلز كتاب “حال الطبقة العاملة في إنجلترا”، والذي كان أيضاً سبباً في تقارب كبير بينهما. أي أن “الفهم الاقتصادي” هو الذي قارب بين الإثنين، ودفعهما معاً للتشارك في نقد اليسار الهيغلي طيلة سنوات 1844/ 1846، وهو النشاط الفكري الذي كان يحاول “الدمج”، أو “المزاوجة”، بين جدل هيغل والاقتصاد، حيث كانت المرحلة الغنية التي أفضت إلى بلورة “المنهج الجديد”، أي الجدل المادي.
وهذا ما ظهر بعد إذ في كتاب “ضد دوهرنغ” الذي كتبه إنجلز رداً على دوهرنغ، وسرد فيه منظورهما معاً، في مستويات الفلسفة والاقتصاد والاشتراكية، والذي كان ماركس في تفاعل مع إنجلز حين كتابته، وأيضاً كتب جزءاً من القسم الاقتصادي فيه. بالتالي لم يكن ماركس بعيداً عن “منظور إنجلز” الوارد في الكتاب، والذي يشرح فيه الجدل المادي.
هذا يوضّح أن إنجلز لم يكن “فيلسوفاً” وماركس “اقتصادياً” بل أنهما معاً بدآ من فلسفة هيغل وغاصاً في الاقتصاد عبر مادية فورباخ، وأنهما أخذا جدل هيغل كما يشير ماركس في المقدمة الثانية للجزء الأول من “رأس المال”، وعبر مادية فورباخ بلورا الفهم المادي، الذي قال إنجلز أنه من اكتشاف ماركس، ويقوم على أن الاقتصاد والبنية المجتمعية التي تنجم عنه بالضرورة، يشكلان في كل عهد تاريخي الأساس للتاريخ السياسي والفكري لهذا العهد، وبالتالي فإن التاريخ هو تاريخ صراع طبقات. وأوضح الاختلاف عن هيغل في نقطة مركزية تتمثل في “أولوية الفكر أو الواقع” كما شرح في كراس “لوفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية”. لكنهما معاً تمسكا بجدل هيغل، وهو ما يوضحه ماركس في المقدمة الثانية لكتاب “رأس المال”، حيث يرفض اعتبار جدل هيغل فطيسة، ويشير إلى “محاكاته” في الكتاب، كما أنه يوضّح كيف فكك القشرة الصوفية التي حكمته لدى هيغل.
بمعنى أن بلورة الديالكتيك المادي كان عبر التفاعل بين كل من ماركس وإنجلز، وأنهما معاً توصلا إلى “الصيغة المكتملة” لمنهجية جديدة مثّلت نقلة نوعية في تطور “علم المنطق”، لأنها تجاوزت منطق أرسطو وتضمنته معاً. فقد أحدثا نقلة نوعية في الفهم، في معرفة العالم، وفي وعي الصيرورة، التي هي حركة المجتمع ككل. وربما كانت هذه النقلة هي بفعل “اكتشاف” ماركس، كما يؤكد إنجلز، لفكرة “دور الاقتصاد”، والبدء من تحليل التكوين الاقتصادي والبنى الطبقية التي تنشأ عليه. لأن التوصّل إلى ذلك فرض “إيقاف هيغل على قدمية” بعد أن كان واقفاً على رأسه، حيث عكس ماركس فكرة هيغل القائلة بأن الفكرة هي التي تصيغ الواقع، وبالتالي فإن الواقع هو ظلال للفكرة. فأكد على أن الواقع الذي في أساسه يقبع الاقتصاد، والتكوين المجتمعي الذي يُبنى عليه، هو الذي يحكم نشوء الأفكار، وأيضاً الدولة. وهو ما صاغه إنجلز في أولوية الواقع على الفكرة بعد أن كانت الفكرة هي الأولوية على الواقع لدى هيغل.
ماركس الاقتصادي وإنجلز “الفيلسوف”
الآن، لا شك في أن ماركس قد كرّس طيلة عقد الخمسينات من القرن العشرين لدراسة الاقتصاد الرأسمالي، وهو المجهود الذي أنتج كتاب “رأس المال” ومخطوطات اقتصادية ظهرت في ثلاث مجلدات. وربما كان هذا هو النتاج الفكري الذي رُبط بماركس، وعُرف من خلاله، وبالتالي جرى اعتبار أن الماركسية هي البحث في الاقتصاد، وأن دراسة التاريخ تقوم على فهمه كأنماط إنتاج محدَّدة اقتصادياً. وهو الذي أوجد الميل الاقتصادوي، أو “المادي التاريخي”. ومن ثم جرى إخراج إنجلز من الماركسية كونه عُرف بالبحث في الديالكتيك والفلسفة (في كتاب ضد دوهرنغ، وأيضاً كتاب ديالكتيك الطبيعة). ولم يشفع له أنه هو الذي أكمل إصدار المجلدين الثاني والثالث من كتاب “رأس المال”. ولقد أكملها وهو يعرف تماماً كلية منظور ماركس، وكل تحليله الاقتصادي.
لكن ميزة إنجلز تمثلت في أنه انطلق من تفوق قدرة ماركس في مجال الاقتصاد (لهذا يعترف له باكتشافه دور الأساس الاقتصادي)، ولهذا عمل مساعداً له في هذا المجال. ولقد قرَّر أن يغطي المساحات التي لم يكن يسمح الوقت لماركس أن يغوص فيها، أي أن يكمل المنظور الماركسي في المساحات “غير الاقتصادية”. كان في طليعة هذه المساحات مسألة المنهج، أي الجدل، الذي بذل مجهوداً كبيراً لتوضيحه، وتوضيح معنى “قلب هيغل” من أجل إيقافه على قدمية. وكذلك ليؤكد على علمية المنظور الاشتراكي، وكيف أن الاشتراكية لم تعد يوتوبيا (كتاب “الاشتراكية: الطوباوية والعلم”). وبحث في الطبيعة لكي يُظهر الطابع الجدلي لصيرورة تطورها. وتناول الكثير من المسائل التاريخية لتأكيد الفكرة التي توصّل ماركس إليها حول أن التاريخ هو تاريخ صراع طبقات (كتاب “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة”). وإذا كان ماركس قد ركّز على الصراعات السياسية والطبقية في فرنسا، فقد ركّز إنجلز على ألمانيا فكتب عدداً من الكتب الهامة (“حرب الفلاحين في ألمانيا”، و”الثورة والثورة المضادة في ألمانيا”).
ولا شك في أن إسهاماته هذه توازي إسهامات ماركس. ولكن لا بد من التوضيح أن أهم ما قام به هو محاولته لبلورة قوانين الجدل المادي، وقد كان ماركس يأمل في أن يقدّم عملاً مهماً في هذا المجال، ولم يشفع له الوقت نتيجة تركيزه على الاقتصاد الرأسمالي. وكما أشرت قبلاً فقد قرأ كتاب ضد دوهرنغ، وأسهم في جزء منه، لنقول بالتالي أن الكتاب يمثّل رؤيته كذلك. ولا بد من التوضيح أن كل ما صدر عن كل من ماركس وإنجلز كان يعبّر عن منظورهما المشترك. ولهذا يجب اعتبار كل ما كتب إنجلز هي إكمال لمنظور موحَّد، وليست “خارج السياق”، وهذه هي الماركسية التي تقوم بالأساس على منطق الجدل المادي. وبالتالي نصل الى أن ماركس بحث في “المستوى المادي” (الاقتصادي)، وإنجلز في “المستوى الذهني” (الفلسفي) في جزء مهم من كتابتهما. وبحثا معاً في مستوى الصراعات السياسية والطبقية في “تقسيم للعمل” جعل كل منهما يركّز على منطقة معينة.
ماركس وإنجلز: يعني الجدل المادي
الجدل المادي هو منهجية ماركس وإنجلز بعد أن بلوراها معاً خلال نقد اليسار الهيغلي (في كتاب “الأيديولوجية الألمانية” وكتاب “العائلة المقدسة”). لكن يمكن التوضيح أن ماركس قد اهتمّ بالمستوى الاقتصادي، بينما اهتمّ إنجلز بالمستوى الفلسفي، وكليهما بحثا انطلاقاً من هذه المنهجية في صراع الطبقات والتاريخ، والصراعات السياسية والحروب العالمية والاستعمار.
بالتالي فإن مَنْ يفصل بينهما يكون كمن يفكك الجدل المادي بين مستوييه المادي والجدلي. المادي الذي يعني الاقتصاد والتكوين المجتمعي، والجدلي الذي يعني الصيرورة التي يتقدم المجتمع عبرها. هذا أولاً، ومن ثم ثانياً يحوّل البحث الاقتصادي إلى مبحث “أكاديمي” جامد، وشكلي، بالضبط لأنه يفصله عن المستوى المجتمعي والمستوى الفكري، وكذلك المستوى السياسي. ويكون بذلك قد أوجد “تخصصية” منعزلة.
ويظهر ذلك واضحاً في البحث الاقتصادي دون الربط بما هو مجتمعي، وبمعزل عن الواقع السياسي والصراعات السياسية، وأيضاً عن الوضع الفكري. بهذا يجري إنتاج تخصصية اقتصادوية، تنعزل عن كلية البنية المجتمعية، ولا تعود تفسّر الوعي السائد أو توضّح أساس الصراعات السياسية. ويظهر ذلك واضحاً أيضاً في منظور المادية التاريخية التي تركز على الاقتصادي، وجزئياً على الطبقي، متجاهلة السياسي والوعي. أو تقوم بإعادة كل ذلك إلى الاقتصاد بشكل ميكانيكي. فغياب الجدل يمنع رؤية التفاعل بين المستويات، وكذلك رؤية الصيرورة بما هي عملية جدلية في كل المستويات وفيما بينها.
من ثم يمكن القول أن كل ميل لتهميش إنجلز ينطلق من منظور اقتصادوي ضيّق، حيث أنه يختصر ماركس بنتاجاته الاقتصادية متجاهلاً المنهجية التي أسَّس عليها بحثه الاقتصادي. وألتوسير اكتشف متأخراً أن كتاب رأس المال مليئ بالجدل، بل يمكن القول أنه قائم على الجدل المادي. بمعنى أن الجدل المادي هو منهجية تبحث في الاقتصاد والطبقات والدولة والأيديولوجية، وليست منزعاً مجرَّداً. وبالتالي فإن تحديد قوانينه ضرورة من أجل فهمه وتمثُّله، والانطلاق منه في التحليل والبحث والتفكيك، فهو “آليات نشاط الذهن” وهو يحلل ويفكك ويغوص عميقاً في الواقع.