بعد الانقلاب المصري أصدرت صحيفة الغارديان تحقيقاً عن وفاة 37 معتقل اختناقاً في عربة ترحيلات تابعة للأمن المصري، وأشار التحقيق إلى أن سبب الوفاة كان نتيجة حشر 48 معتقلاً من معتقلي اعتصام رابعة، في شاحنة لا تتسع سوى لـ 24 بأسوأ الاحتمالات، وتركهم لمدة ست ساعات داخل الشاحنة في درجة حرارة تجاوزت 31 درجة في باحة سجن أبو زعبل المنقولين إليه، معظم الضحايا كانوا من جماعة الإخوان المسلمين، إلا أن التحقيق تطرق أيضاً لمدنيين كانوا بالمكان الخطأ في الوقت الخطأ، وانتهوا بالشاحنة، وكما هي عادة القصص المأساوية في دول الظلم، انتهت القصة بالتمييع من قبل قضاة السيسي، وأصبحت منسية إلا من قبل أهالي الضحايا والناجين.
ينطلق المخرج محمد دياب من الحادثة الرهيبة ذاتها ويحاول تلخيص مصر كلها في عربة ترحيلات، نساء ورجالاً، أغنياء وفقراء، إخوان وبلطجية وشرطة، الجميع في الشاحنة التي شكلت فضاء الفيلم كله، يتصارعون تارة ويتآلفون أخرى، والشاحنة تسير بهم إلى حتف أمضوا 94 دقيقة يحاربوه، فما نفعهم دق جدار الشاحنة، ولا فادتهم مواقفهم الفكرية والسياسية، من الموت تحت أقدام المتظاهرين، الذين خرجوا دعماً للانقلاب في نهاية الفيلم.
الفيلم الذي لم ينتصر لطرف سياسي على حساب آخر، بل حاول تجريم الجميع، للخلاص من حالة “الهستيريا” حسب تعبير المخرج والتي أصابت المجتمع المصري نتيجة التمترس وراء الأراء السياسية المتصلبة، حاول تقديم عمل فني خارج السياسة، مع العلم أنه أشار للوثيقة في أحد مقاطع الفيلم عندما تقول إحدى الشخصيات “انت ما سمعتش عن الـ 37 شخص اللي ماتوا بشاحنة زي دي”، وعلى الرغم من قول المخرج أن السيناريو تمت إعادة كتابته 14 مرة كي يخلص من السياسة، إلا أن السؤال الأزلي عن علاقة السياسة بالفن وإمكانية الأخير الخلاص من الأولى تعود هنا مع الفيلم بشكل أكثر وضوحا لتعلن أنه لا علاقة لعدد مرات إعادة كتابة السيناريو بالهروب من السؤال السياسي، خصوصاً أن الراهن العربي عامة والمصري خاصة مغمس بما يفرضه الظرف السياسي على واقع الناس.
الحادثة المأساوية التي حصلت في 18 آب 2013 تفرض نوعاً من الاصطفاف الأخلاقي ضد الانقلاب، إذا ما جردت من كامل المشهد المصري، بينما يدين «اشتباك» الجميع انطلاقاً من تلك الحادثة بإعادة خلق حادثة مشابهة مع تغيير في الشخصيات، والسماح للخيال الفني بتشكيل المشهد ” الروائي” لتقول القصة ما يريد فريق العمل تقديمه. ليس الأخوان ضحايا الشاحنة بل مصر بغناها وتنوعها، وليس القاتل “الدولة”، بل المظاهرات المشحونة بنوعيها، الداعم لانقلاب العسكر، والمؤيد لشرعية الرئيس الإخواني المنتخب، فيبدو المشهد كما لو أن المصريين العوام الذين لا حكاية لهم إلا الهستيريا والتشنج، القابعين خارج الكادر، يقتلون مصر الحكاية، التي سيحكم عليها بالموت بعد معرفتنا تفاصيل أهلها، تفاصيل الحكاية التي فرضت على الكاميرا التواجد داخل الشاحنة خلال دقائق الفيلم كاملة.
تتتالى الاعتقالات والحشر في الشاحنة بدأً من صحفي مصري أمريكي وصديقه، مروراً بمجموعة داعمة للانقلاب قذفتهم بالحجارة وهم داخل الشاحنة، فظن الأمن أنهم إخوان، وصولاً إلى مجموعة من الإخوان المتظاهرين ضد الانقلاب، انتهاء بعسكري تضامن مع سوء وضعهم، الجميع يكلله العنف، من هم في داخل الشاحنة ومن هم في خارجها، لا الإخوان أنبياء، ولا رجال الأمن، حماة الانقلاب، ملائكة.
مشهد واحد يصور هدوء الجو العنيف داخل الشاحنة، عندما تحن الشخصيات لثورة يناير ويتحدثون بحميمية عن الميدان، الجميع يتحدث بشوق ورهف عن أيام ولت، وبات الحاضر أمامها كتلة من العنف تفور وتهدأ في الشاحنة، وكتلة من الهستيريا تغلف الشاحنة (ليكن اسمها مصر) من الخارج. هكذا ينتصر محمد دياب لثورة يناير، وينبذ كل ما جاء بعدها، وكأنه يقول أن النظام الحالي هو قاتل استباح من لم يكن بالأصل نظاماً جيداً على الرغم من كونه نظاماً شرعياً، فالجميع متورط بما آلت إليه البلاد وإن تفاوتت درجات الاشتراك بالجريمة، وهكذا تحمل حكاية حقيقة، حصلت في بداية زمن الخراب الحالي، ونهاية زمن الأحلام الثورية الجميلة، معنى لما جاء قبلها وبعدها، ضمن قالب فني متين جدير بأن يفتتح تظاهرة «نظرة ما» في مهرجان كان الأخير.