في روايته “هوليود” (منشورات الجمل ودار مسكلياني 2017 – صدرت بالإنكليزية 1989) يقص الشاعر والروائي الأمريكي تشارلز بوكوفسكي (1920 – 1994) حكاية كتابة سيناريو فيلم، ويجعل من حكايتهِ كشفًا دقيقًا لعالم السينما، ونوعًا من الترويض المر لموهبة الكتابة الحرة.
تتحدث الرواية التي نقلها إلى العربية عبد الكريم بدرخان، عن هنري تشيناسكي. هو الكاتب ذاتهُ، وقد وجد نفسه متورطًا بكتابة سيناريو، ما أن يظهر اسمه على الشاشة، حتى يدرك أنّه قد صار جزءًا من هوليوود، وليشعر بالذنب. بين قبول تشيناسكي لكتابة السيناريو وظهور اسمه على الشاشة يسرد الكاتب جزءًا من سيرتهِ الذاتية؛ انتقاله من مقعد في الحديقة إلى غرفة واسعة في منزل يدفع أقساطه، تغير حال الجوع والمذلة إلى امتلاك سيارة بي إم دبليو سوداء. وفي ذروة ذلك الانتقال، كان تشيناسكي يعي كيف يضحي بفرديّته، دون قدرة على المقاومة. لا سيما أنّه كتب أفضل ما عنده في “أيام الجوع الرائعة”! إنّ الأسلوب الأخاذ الذي راح يتحدث فيه عن الكتابة، أشبه بنوعٍ من الاعتذار منها. على الرغم من ثقتهِ بالقدرة على كتابة نص جيد، أراد أن يحثّ قارئه على التعاطف مع الكتّاب الذين يجوعون وينتحرون ويصابون بالجنون. ليس لأنّهم أصحاب الأجر الأدنى فحسب، بل لأنّ الكتابة تفوقهم في السيطرة على شؤون حياتهم. لقد بدا منزوع الإرادة أمام النبيذ والآلة الكاتبة. وجاء في صورتهِ، مكملًا لمشهد شيّدته الأشياء من حولهِ!
يتحدث الفيلم عن سكير في حانة، فالكاتب الذي يعدّ نفسهُ من “الكتّاب الكحوليين” وجد في قصة حياتهِ موضوعًا لفيلم، وأراد في الوقت عينهِ، لفت الانتباه إلى الحياة البائسة التي يعشيها السكّيرون، ما أوقع الفيلم في مشاكل إنتاجية. فمن سيهتم بفيلم عن سكّير سوى سكّير آخر؟ إضافة إلى المخرج جون بينشو والذي اختار هنري كي يكتب السيناريو وجمع المال لأجل ذلك. دفع بهِ عشقه لصناعة الأفلام إلى تجريب ضروب المعاناة كافةً؛ مثل الإضراب عن الطعام والتهديد بقطع أعضاء من جسده حتى يستطيع تمويل الفيلم.
في مشهدهما داخل المنزل؛ الكاتب في الطابق الثاني أمام الآلة الكاتبة والمخرج ينتظر صوت ضرباتها في الطابق الأرضي، يجد القارئ نفسهُ حيال ثنائي بائس وخلاب. لقد بات محتمًا على تشيناسكي إنهاء السيناريو، الأمر الذي دفعه إلى الطلب من جون المغادرة كي يستطع الكتابة دون حرق الأعصاب ذاك، كان يكتب تحت المراقبة، وهذا ما لم يعد قادرًا على احتمالهِ، إذ لم يكن يريد سوى الكتابة، لكنه راح يختبر بوعي عاجز كيف يتحول إلى شخص لطالما كرهه. بعدما بحث عن بيت لا يريده، ها هو يكتب سيناريو لا يريده، وإنّما ملتزم أمام صديق مهووس بالسينما دفع لهُ مقدمًا من الأجور، في الوقت الذي كان جون على وشك الإفلاس ويخوض على نحو جدي ومؤسف في جو عارم من الزيف والرداءة يمثلان الأساس في عالم هوليوود.
الأساس الذي وقف وراء نص بوكوفسكي ودفعه إلى توثيق تجربته في كتابة فيلم “زبون البار 1987” توثيقًا أدبيًا؛ لا يقبل التسويات التي أضطر عليها في السيناريو، ويصون خصوصيته، إضافة إلى تعامله مع قارئ يتقبل “الإحباط والإهانة” لا مع متفرّج كسول ومتعالٍ. إنّ روايته عن السيناريو تشكل احتفاءً بكرامة كاتب هُدرت في هوليوود. واستطاعت الترجمة التقاط روح النكتة والسخط، إلى جانب النزق العالي والمتواري خلف قناع من القبول أو الحياد.
في سن الخامسة والستين يعتبر تشيناسكي أنّ حياته قد بدأت برفقة زوجته ساره، والتي راحت حياة هوليوود تستهويها، في حين كان تشيناسكي يبني عالمًا لكي يتسنى لهُ الهروب منهُ، مسكونًا بخوف من نهاية وشيكة، لمعرفتهِ أن “لا أكثر من النجوم الآفلة” في مهنة الكتابة. وراغبًا بالحديث عن حضارة أسندها للأرواح الضالة في الحانات وخارجها؛ عندما كانت حياته “فيلم رعب” ساعدته الكتابة على الاستمرار، وفي الوقت الذي كان يراها نوعًا من “الخداع”، راح يوفّر وقت الطعام من أجل الشرب والكتابة. ليجلس في النهاية، في زاوية معتمة من صالة العرض والأضواء الباهرة تتركز على الممثلين. على الرغم من أنّه صاحب الفيلم الأول، وقد رحل ندماؤه جميعًا. عندما يُسأل “ما الذي أبقاك حيًا؟” يجيب: “الكتابة، إنّها نشوتي العظمى”.