إن التغيير الذي قامت به المخرجة كاملة أبو ذكرى على أحداث رواية بهاء طاهر «واحة الغروب» كي تخرج إلى الضوء عملاً درامياً يحمل الاسم ذاته، يضعنا أمام سؤال ملح؛ إلى أي مدى يُعتبر النص الأصلي مقدساً؟ فحين ترى التغييرات التي قامت بها المخرجة، تتساءل من أين جاءت بهذه الجرأة لتزيد أو تنقص من رواية جميلة مثل «واحة الغروب»؟ وهذا التغيير لم يبدأ فقط عند المخرجة، بل من الورق وما فعلته الكاتبتان مريم نعوم وهالة الزغندي خلال كتابة الثلاثين حلقة.
وكانت السيناريست نعوم انسحبت بعد أن كتبت 15 حلقة من المسلسل مع الكاتب أحمد بدوي، وكان اسمها ظاهراً على التتر حتى هذا العدد من الحلقات ليظهر بعدها اسم الزغندي.
وبغض النظر عن تسابق كل من الكاتبتين بمباركة المخرجة لإضافة شخصيات وتغيير مصائر أخرى، خاصة في الـ 15 حلقة الأخيرة، فإن السرد الدرامي اختلف ككل عن طبيعة السرد الروائي الذي اختاره الكاتب بهاء طاهر لروايته.
وقد اختارت المخرجة الأسهل في التكنيك الدرامي بأن تبدأ الأحداث زمنياً وبالتحديد منذ دكّ الاحتلال الانجليزي الإسكندرية في القرن التاسع عشر، وموالاة الضابط محمود عبد الظاهر (خالد نبوي) لثورة عرابي، ومن ثم التحقيق معه من قبل مرؤوسيه، وخيانته لنفسه ولثورة عرابي كي ينجو من العقاب، وبعدها يقابل كاترين الايرلندية (منة شلبي) المهتمة بالتاريخ ويتزوجها، إلى أن يتم إبعاده في وظيفته ليصبح مأمور واحة سيوة، وهناك يبدأ الصراع مع أهل الواحة لجمع الضرائب.
في حين نجد أن الرواية بدأت منذ اللحظة التي يسلّم فيها عبد الظاهر بقرار إبعاده إلى الواحة واستعداده للسفر، وكل الأحداث التي تأتي حاضرة وآنية في زمن المسلسل، هي عبارة عن ذكريات وماضي في زمن الرواية، في مونولوج داخلي طويل تعتمده الرواية في السرد عبر الشخصيات (كاترين، محمود، الشيخ يحيى، الشيخ صابر، واسكندر الأكبر).*
وإذا كان كثيرون يعتبرون رواية «واحة الغروب» التي نشرت عام 2008 ليست أفضل ما كتبه طاهر، بأسلوبها الكلاسيكي المباشر، فإن المخرجة زادت على هذه الكلاسيكية كلاسيكية الدراما والحوار المباشر والتمثيل الذي فيه كثير من الإلقاء الخطابي خاصة في الحلقات الأولى.
وعلى الرغم من أن المخرجة اختارت هذا التكنيك التقليدي، إلا أن المَشاهد منذ الحلقة الأولى كللتها حرفية الإخراج والإنتاج الضخم، كلقطات دك الإسكندرية، فيصبح هذا أسلوبها طوال المسلسل بتكوين لوحات تصوير إبداعية، وإشباع كل مشهد إلى أقصى حد، أكثر بكثير مما تفعله الرواية التي تمر مروراً على الأحداث لكنها تهتم بأرواح الشخصيات وصراعها الداخلي.
هذا الصراع داخل كل شخصية لم يظهر في المسلسل قوياً، على عكس الحوادث التي كان الاهتمام بها كبيراً كوقوع حجر المعبد على ساق الشاويش إبراهيم وامتدت الحادثة إلى ثلاث حلقات، والشيء ذاته مع العاصفة التي هبت خلال طريقهم إلى سيوة، ولكن من الصعب مثلا لمس تأثير صراع محمود مع ذاته وإحساسه بخيانة مبادئه على سير أحداث المسلسل، وهو ما ركزت عليه الرواية؛ فانطلاقاً من هذه النقطة العتمة في شخصية محمود تتصاعد المشاكل في الواحة.
وهذا الانفصام في شخصية محمود بكونه الثوري أم الخائن المطيع للانجليز ظهر في الرواية جلياً ليس فقط عبر علاقته بأهل الواحة، بل حتى بمشاعره نحو زوجته كاثرين، فهي التي قبل بعلاقته معها لأنها لم تكن إنكليزية بل إيرلندية، لكن نجده في النهاية ينتقم منها ومن نفسه فيدمر المعبد الذي أرادت أن تثبت عبره نظريتها حول مكان دفن الاسكندر، فمحمود لا يريد أن يكون هذا الاكتشاف من نصيب الغزاة “هذا إذن هو المجد الذي يكتشفه لنا الإنجليز لنعرف أننا كنا عظماء، وأننا الآن صغار… ليبقى الأسياد أسياداً”، وهو ما لم يفعله المسلسل بل جاءت النهاية لتكمل فّجة الخطابية الوطنية، فيُفجّر القسم بالديناميت كرمز على الاحتلال بعد أن يكون طلّق زوجته واعترف بجزء من مشاعره لشقيقتها فيونا وهو ما لا يحدث في الراوية أيضاً.
ومع هذا الاختلاق للنهاية إلا أن الصوت الداخلي الذي يظهر في مشهد المسلسل الأخير هو من مونولوج محمود النهائي في الرواية.. “لماذا تتحرك الشرارة بهذا البطء؟، هيا أيتها النار المقدسة إلتهمي هذه المعابد المقدسة لننتهي من هذه الحكايات كلها”، بيد أنه لم يُحرق في المشهد سوى قسم الشرطة.
إن ما كان تكاملاً في إظهار تناقضات شخصية محمود عبد الظاهر في الرواية، بدا في المسلسل خللاً في بناء الشخصية وتحولات غير منطقية وكذلك الأمر بالنسبة إلى كاثرين، ففي الوقت الذي يكره فيه محمود العبودية ويحاربها في المسلسل، ويخاطب أهل مصر في أوراقه التي كان يحرقها قبل أي اقتحام محتمل لمنزله بقوله “إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وربيتهم في حجر الاستبداد… وأنتم صامتون، صابرون بل راضون.. فلو كان في رؤوسكم أعصاب تتأثر فتثير النخوة والحمية لما رضيتم بهذا الذل وهذه المسكنة.. لعن الله من يكره الحرية”، نجده في الوقت ذاته بمشهد سابق يهين “نعمة” التي يحب، ويرفض سؤالها إذا ما كان يحبها بقوله: “إيه الكلام الفارغ ده؟ إنت ناسية إنت إيه؟ إنت جارية.. جارية.. مرة تانية أسمعك تقولي الكلام الفارغ ده أرميك في الشارع.. في الشارع”، أما العبارة في الرواية في مونولوج محمود فقد جاءت: “ما هذا الكلام الفارغ يا بنت؟ لو عدت إلى هذا الكلام سأرميك في الشارع” دون أي تأكيد على مظهر العبودية، أو خطابية لاحقة لمحاربتها.
كذلك الأمر بالنسبة لكاثرين التي منذ تعرف عليها محمود وهي تلح على حبه، وتتأكد في كل مرة أنه لا يوجد أخريات ينافسنها على هذا الحب، لكن نجدها في الواحة تبتعد عنه وتتحول فجأة إلى أنانية، مولعة بالعلم ومتلهفة كي يدخل اسمها التاريخ، في تحولات جذرية غير مبررة لدى السيناريست هالة الزغندي سوى “أن الواحة غيرتها” كما قالت في إحدى اللقاءات الإعلامية، مع أن التغيير كان يكفي أن يُلمس في شعورها بالإغواء حين احتضنتها “مليكة”، لتؤكد لنفسها في الرواية عدة مرات “لستُ سافو” وهي شاعرة إغريقية شعرت بالعجز مع الرجال، ومالت إلى بنات جنسها من العذراوات، أما في المسلسل فقد بقيت تردد كاثرين “أنا لست كذلك”.
ومن هنا جاءت الأحداث منفصلة عن صراع الشخصيات الداخلي في المسلسل، ومثال آخر على هذا الصراع هو محبة الشيخ يحيى لابنة أخته “مليكة” وإحساسه نحوها بالعجز عن حماية هذه الطفلة التي جاءت مختلفة عن العادات والتقاليد، فنجد أن السيناريست أكثرت من إحاطة مليكة بشخصيات جديدة لم تذكرها الرواية، بداية برضوان ابن الشيخ يحيى “أحمد مجدي” وثم حكاية حبهما وزاوجهما، في حين تظهر “مليكة” في الرواية خلال مونولوج على لسان الشيخ يحيى حين تهرب من زوجها العجوز.
كذلك ابتكرت السيناريست شخصيات أخرى تحيط بمليكة؛ جدتها وأم جدتها وشقيقها وجميعهم ظلموا مليكة باسم العادات، وقد كانت هذه إضافات الكتابة التلفزيونية بعد العجز عن تصوير صراعات النفس المعتملة داخل الشيخ يحيى، فقد أراد صُناع المسلسل تحويل هذا الصراع إلى شخصيات من لحم ودم، لكن هذه الشخصيات الزائدة تحولت إلى مجرد بوق لتضخيم عيوب أهل الواحة ما أساء كثيرا لأهلها، وتسبب المسلسل في خلافات بين شباب الواحة كتبت عنها الصحف المصرية.
وقد يكون مبرراً درامياً تغيير بعض المصائر كخاتمة الدليل الذي أصبح اسمه في المسلسل الشيخ أيوب (منذر رياحنة)، وكان دليل محمود وكاترين خلال رحلتهما إلى سيوة، وتوفي بسبب العاصفة التي ضربت قافلتهم، وهذا لم يكن في الرواية، ولكن ربما الرحلة الطويلة التي لم يتخللها الكثير أجازت ذلك، ليتناسب مصيره ضمن سياق حوار الموت الذي خاضه مع محمود.
أما الحمى التي أصابت محمود خلال الرحلة فهي حدث مقحم على المسلسل، والرواية بطبيعة الحال، بهدف خلق تصاعد درامي لم يكن بمكانه، فمحمود في الرواية لم تصبه الحمى بل كان يسترجع داخله دك الإسكندرية والتحقيق معه خلال تأمله الصحراء أو كما سماها البستان الأصفر، وهذا السرد الرجعي تحول في المسلسل إلى أول حدث في الحلقة الأولى وما تلاها من صراع مع زميله طلعت الذي يعترف عليه.
ولم يكن هناك إمكانية كما يبدو عند صانعي المسلسل لتحرير كل هذه المونولجات الداخلية الطويلة سوى عبر كثرة جمل الحوار، والإسقاط الصوتي للشخصية للتعبير عن حوارها مع ذاتها _وكانت هذه المقاطع للصوت الداخلي أكثر طولاً في الـ 15 حلقة الأولى_ وأيضاً عبر هلوسة الحمى التي تصيب بالترتيب محمود والشاويش إبراهيم وكاثرين، ومن ثم جاءت الأحلام، فيمتلئ المسلسل بالحشو الدرامي؛ وهكذا تكون المخرجة في مشهد حمى محمود أعادت عرض ما مر به مع زميله طلعت ونعمة ودك الإسكندرية مرتين، في حين كان الحل الأفضل منذ البداية اتباع تكنيك السرد الرجعي ولكن ربما فكر القائمون عليه أن هذا سيؤدي إلى مزيد من نخبوية المسلسل الذي سبق عرضه حماس كبير في وسط الأدباء والمثقفين، بيد أنه حماس سرعان ما فتر!
ويبقى الاجتهاد الذي قامت به السيناريست نعوم في الجزء الأول من المسلسل هو الأسوأ، فقد أخلّت بالمسلسل والرواية تماماً، حين حولت كل ما جاء في الرواية كتاريخ قديم للواحة إلى حاضر في المسلسل بهدف مزيد من التشويق الدرامي إلا أنه لم يكن كذلك، فبعد أن يَعرض المسلسل أهل الواحة الشرقيين والغربيين متحدين معاً في المناسبات والاجتماعات والصلاة، يقرر الطرفان فجأة أن يتحاربا ويتقاتلا، ليبدو القتال بين الجهتين كأنه لعبة منازلات في ساحات الواحة، لترجع بعدها الحياة المشتركة بينهما كأن شيئا لم يحدث.
وقد كانت هذه الحروب المختارة بين أهل الشرق والغرب في الرواية عبارة عن ذكريات بعيدة يتذكرها الشيخ يحيى في شبابه حين كانت تجري ما يسميه حفلات الدم، وقرر يوماً ما في عنفوانه تحديها ليقضي أحد الطرفين على الآخر وبذلك تنتهي أعراس الجثث هذه.
ويبدو أن السيناريست أرادت لهذه الحرب أن تحدث كي تجد مخرجاً لقتل رضوان زوج مليكة (المختلق)، فيرثيه الشيخ يحيى بكلمات (صوت داخلي) هي ذاتها كلماته في مونولوج الرواية لرثاء مليكة: “بيديّ هاتين دفنت إخوة وزوجات وأبناء وأحفاداً، فلماذا وأنا العجوز الفاني لا أحتمل موتك يا ابنتي؟ أبكيك وأبكي نفسي..”
ويستمر التغيير في أحداث الرواية حين يقترح المأمور محمود عبد الظاهر أن يصبح هناك زواج بين طرفي الواحة كي يتصالحا، في حين أنه في الرواية يكون عرفاً قديماً قرره الشيخ السنوسي الذي يتبع طريقته الدينية أهل الواحة.
وتظهر مليكة في الرواية واحدة من زوجات أعيان القبيلة الأخرى، لكنها تكرهه وتشتكي لأهلها عجزه فتهرب منه عذراء، بينما في المسلسل يتم التضحية فيها كأول عروس أرملة لتنفيذ قرار المأمور، وتستمر سلسلة من التغييرات كإظهار والدتها خديجة مشتاقة للرجال، وقد أرادت أن تكون هي هذه الزوجة المختارة بدلاً عن ابنتها.
وكما كل الشخصيات سريعة التحول في المسلسل، فإن التشاؤم والعنف اتجاه مليكة من قبل شقيقها، وجدتها المحرضة أم خديجة والجدة الأولى والدة الشيخ يحيى وأدت الدور الممثلة القديرة رجاء حسين، سرعان ما يتحول إلى ندم وحزن وقت مقتلها في مشهد حزين إذ تكون نهايتها واضحة في المسلسل على يد أمها خديجة على عكس الرواية، وقد أدت دور مليكة بخفة وبراعة الممثلة الأردنية ركين سعد.
إن تقبّل ضعف الأعمال الدرامية ذات المكونات الضعيفة أسهل من تقبّل ضعف وتذبذب الأعمال التي تحمل مكونات قوية كالإخراج والإنتاج والممثلين، لذلك جاء الإحباط قوياً من المسلسل الذي كانت بعض مشاهده في منتهى الضعف كإعدام الضابط الشركسي لرجال الزجالة في مشهد بارد، وكان المسلسل قد قدم الزجالة بشكل أقرب إلى العبيد، في حين أن الروائي قدمهم كعاملين أقوياء ومقاتلين من أهل الواحة، وهذا ما يتفق مع تاريخ الواحة السوسيولوجي.
إن هذا العبث المريع الذي طال أحداث الرواية، أخرج عملاً درامياً مفتعلاً شوّه الواحة وأهلها وأظهرهم متخلفين وجهلاء وكارهين لمصرّيتهم على عكس الرواية، وذلك في سبيل دراما مشوقة تحصد مشاهدين، فكلما زاد عددهم، زادت الإعلانات وأرباح المسلسل،
وارتياح شركة الإنتاج، لندرك اليوم معنى المقولة الشهيرة “إن الروائي العظيم لا
يكتب سيناريو”.
إن هناك ما يشبه اليقين لدى هؤلاء بأن التصوير السينمائي والتلفزيوني أفضل من الأدب، باعتباره يهب الحياة للروايات والكتب، وبالتالي يصبح السيناريست فخوراً بإضافة شخصيات واللعب بزمن الرواية، وتغيير الأقدار، وينفرد المخرج بخلق الشخصيات على أرض الواقع، وينسون جميعاً أن الأب الحقيقي هو الروائي الذي تُخلد شخصياته على الورق، أكثر مما تعيشه دراما موسمية.