دويري مذنب… ونحن أخطأنا

زياد دويري

أسماء الغول

كاتبة من فلسطين

وقد ربطت الرواية بين العمليات "التفجيرية" في فلسطين ودوافع الإرهاب في العالم، بعيداً عن سياق القضية، لذلك كانت الرواية مجتثة من واقعها، محض فانتازيا تحكي قصة سهام الزوجة المسيحية الغنية، وزوجها الجراح العربي الفخور بإسرائيليته. تختار سهام أن تفجر نفسها في مطعم يحتفل به 17 طفلاً بعيد ميلاد أحدهم، ويبدأ زوجها عقب موتها بالبحث عن أسباب فعلها ذلك دون أن يجد دافعاً قوياً سوى أنها زارت مخيم جنين عقب الاجتياح، وهكذا يعبر المخرج عن معاناة الفلسطيني "بالكلام والأطلال" بينما الحبكة والحدث كله يتركز على معاناة الإسرائيلي من "الإرهابي" الفلسطيني.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

27/10/2017

تصوير: اسماء الغول

أسماء الغول

كاتبة من فلسطين

أسماء الغول

كاتبة وصحافية من مخيم رفح جنوب قطاع غزة، ومقيمة حاليا بفرنسا.

وصف البيان الأول الصادر عن حركة مقاطعة إسرائيل BDS، فيلم «قضية رقم 23» للمخرج زياد دويري  بأنه “لا يخضع للمعايير الحالية للمقاطعة”، وقد كان مقرراً عرضه مساء الإثنين 23 أكتوبر/تشرين الأول في ختام مهرجان “أيام سينمائية” إلا أنه تم إلغاء العرض في اللحظات الأخيرة بسبب دعوات نشطاء إلى منعه، ففي رصيد المخرج السينمائي فيلم تطبيعي وهو «الصدمة»، 2012.

وانتقادي هنا لبيان حركة المقاطعة، ولموقفها الموضعي والآني وغير الاستراتيجي، والذي معناه أن فيلم «الصدمة» الذي اتُهم على أساسه دويري بالتطبيع لو لم يتم تصويره في “تل أبيب”، ولم يستعن بممثلين إسرائيليين كان هو الآخر لن يخضع للمعايير الحالية للمقاطعة، ماذا عن محتواه؟ ماذا ستكون تهمته في تلك اللحظة؟ إن الأمر يحتاج ليس فقط إلى قياس جنسية العمل والعاملين فيه ليكون مطبعاً أم لا، بل بنقاش مضمونه أيضاً فالمصداقية والتضليل ليس لهما جنسية محددة.

لقد انقسمت الجماهير حرفياً إلى طرف متهم بالتطبيع أو تشجيعه وهو من يطالب بعرض فيلم «قضية رقم 23»، وآخر متهم بالتهديد والعنف وهو الرافض لعرض الفيلم، وهنا يجب العودة إلى ماهية المنع ذاته، فأحياناً ننسى دافع الفعل حين تصنع الشعارات والمواقف جداراً سميكاً من التعبئة المسبقة. 

وقد خلق هذا النقاش عدة أفكار رئيسية محيرة حول أسباب المنع وحدود التطبيع؛ فإذا كان المنع كنوع من عقاب للمخرج، فإن كثيرين يرونه بمثابة دعاية لصالح المخرج وأفلامه، أما إذا المنع سببه حماية الجماهير فهذا يعتبر وصاية على الذائقة الجمعية الأدبية والسينمائية والفنية وهي مرفوضة حتى من قبل نشطاء المقاطعة أنفسهم، وقد صرح بعضهم أن المنع جاء لعدم تشجيع مخرجين آخرين للقيام بأعمال تطبيع، وهنا أيضاً نحن نمارس دور الأخ الأكبر في عدم الثقة بوعي المبدع وحريته ووطنيته.

إن منع العرض تحول ليكون الهدف ذاته دون أن نبرز سياقاً واحداً قوياً ومنطقيا لمنع منتج ثقافي سينمائي، وأرى أن هذا السياق يجب أن يكون متجانساً ومتواصلاً وأقوى من “هناك فيلم سابق للمخرج صوّره بإسرائيل” أو “إن عرض فيلم غير مطبع لمخرج طبع سابقاً يشجعه على القيام بمزيد من التطبيع”، بل كما أشرت في البداية يجب أن تكون هناك استراتيجيات ومعايير لقياس مضمون دعائي في أعمال فنية وأدبية عربية وعالمية تبرز ”الحق“ الإسرائيلي في التخلص من الفلسطيني، إضافة إلى كونها تتعامل إجرائياً مع إسرائيل الدولة والجنسية.

لا يجب الوصول إلى مرحلة أن ندفع بأي مواطن عربي أو فلسطيني أو غربي بأن لا يطبع لأنه خائف من غضب مشجعي ونشطاء المقاطعة وتهمهم، بل لأن هناك سياق فكري ووطني وحقوقي مقتنع به، لذلك يجب أن نخوض على الدوام في نقاش الأفكار والحقوق والاستلاب الاستعماري مهما كان بديهياً.

الأمر الآخر يتعلق بحدود التطبيع مع العمل الفني الذي يجب مقاطعته فما يحدث هنا لا يتعلق بمنتجات تجارية يكفي ألا نشتريها لنتخذ موقفاً، بل نحن نتحدث عن فن يمس الوجدان العالمي، ويبقى في الذاكرة السينمائية.

لذلك أعتقد بأهمية أن تكون هناك مراجعات دائمة من حملة المقاطعة ونشطائها بحق عشرات الأفلام التي يقوم بها مخرجون من العالم داخل إسرائيل أو لهم في رصيدهم أفلام تطبيعية، ونقاش مضمونها ووضعها في تصنيفات وقوائم منشورة بمنبر واحد ليتحدد هذا السياق، بعيداً عن شروط إثنية جغرافية يتم تطبيقها على العرب أو الفلسطينيين فقط، فرفض فيلم كفيلم «الصدمة» يجب أن يكون إلى جانب أن المخرج عربي لبناني عمل مع إسرائيلي، أيضاً كونه بالغ التضليل، ومنحاز وانتهازي ومُشوِه.

لقد شاهدت فيلم «الصدمة» ”أون لاين“، ما جعلني أتساءل إذا ما كانت مؤشرات التطبيع في هذه الحالة تنطبق عليّ، ولا يعفيني من التهمة السعي لحكم مبني على المعرفة وليس الخوف أو التلقين؟! هذه الأفكار التي تناقش حدود المنع تحتاج إلى صوت واحد من حملة المقاطعة، صوت لا تنقصه الـ”هارموني” ولا تتبدل نغمته، كي لا يكون انتقائياً مرّة، وآنياً مرّات، لنتفاكر جميعاً حول إذا ما كان المُحرّم على الضمير الجمعي مسموح للضمير الفردي، وإذا ما كانت الإشكالية هي آلية عرض فيلم تحت دعوة فلسطينية ثقافية في مهرجان سينمائي، ليحضره جماعة من الناس.

أؤمن أن سلاحنا القادم ضد الاحتلال الإسرائيلي سيكون معتمداً على المقاطعة بشكل أكبر من الحاضر، فهذا أكثر ما يوجعه، لذلك هناك قوى كبيرة بأموال ضخمة ودعاية محترفة تستخدمها إسرائيل لمحاربة حركة المقاطعة BDS، إلا أن هذا لا يعني على الإطلاق عدم نقدها حين يحتاج الأمر إلى ذلك، فهي تعاني من إشكاليات كبيرة في إخضاع الفن والموسيقى والسينما والأدب إلى معايير التطبيع.

إننا نحب التشدق سوياً بمواقفنا الراديكالية سواء تلك التي جزمت بأن المنع يمس بحرية التعبير أو التي رفضت مسبقاً الحالة كلياً لشبهة التطبيع، وهذه المواقف حق يتسع لها المشهد الفلسطيني ككل، لكن الإشكالية أننا لا نرى فداحة انقسامنا، أو أننا نعشق الصراخ، وأن هذا الصخب في بعض الأحيان رغبة منا بإخفاء هروبنا من التحدي الحقيقي المتمثل بأشكال غير مغرية للوطنية بحكم تطلبها جدية العمل.

عَجزُنا عن التغيير صاحبه رغبة بدخول مدوي إلى الوطنية عبر الأبواب الكبيرة في حفلات فيسبوكية يشهد عليها العالم، ونحرف بالأساس البوصلة عن تلك الأبواب الصغيرة التي تشكل أصل الصراع، وأخلاقيته، فنتناسى السياسة التي هي دافعنا الرئيسي. لقد دفعنا أثماناً كبيرة سواء بالسلم أو الحرب كي نحقق انتصارات سياسية وإدارية لم تتحقق على الأرض حتى الآن، وكُسر الكثير داخلنا وأدركنا الدرس الكبير أن الوطنية نختارها ولا يلقنها أحد، وأننا في حاجة أن نرى الصراع من كل الزوايا لندرك ماذا نريد.

فإذا أردنا محاربة التضليل في تصوير ألمنا كما في فيلم «الصدمة» وغيره، يجب أن يكون بإرادتنا الفردية الحرة وعن معرفة، فيساوي وعينا الحر بالمقاطعة واختيارها مقدار إنجازنا على الأرض وقناعتنا حين نأتي بخيمة صمود لفلاح فلسطيني في منطقة ممنوع فيها العمران ومهددة بالتحلل لصالح الاستعمار كما في أراضي الضفة الغربية المصنفة بأراضي ”ج”.

شاهدتُ فيلم «الصدمة» منذ يومين، ثم بعدها عرفت أن المخرج دويري هو صاحب فيلم «بيروت الغربية»، 1999، والذي شاهدته قبل عدة سنوات، وتأكدتُ أن هذا الرجل لا يجب أن يعتذر فقط عن التطبيع بل أيضاً عن المستوى الفني الذي هبط إليه بعد أيقونة بمستوى «بيروت الغربية».

دويري كان تائهاً في فيلم «الصدمة» يتحسس طريقاً شائكاً ليس خبيراً به، ما جعلهُ فيلماً ضعيفاً سينمائياً وفكرياً، فالفيلم مأخوذ عن رواية «الهجوم»، 2005، للكاتب الجزائري الفرنسي ياسمينة خضرة، وقد وصف أحد الكُتاب الإسرائيليين الرواية بـ” ليس كتاباً مقنعاً: إنه فكرة جيدة لم تنجح في أن تجد تعبيرها الأدبي”، وهكذا كان الفيلم أيضاً فنتازيا صعبة التحقق إلا بأفلام هوليود، وهذا كان سعي دويري دوماً إلى العالمية.

ولا أستطيع أن أطلق حكماً ظنياً فأقول أن هذه العالمية كان ثمنها فيلماً تطبيعياً يتجاوز فيه المحرمات، لأن دويري كمخرج كان يكفيه أن يستمر على نهج «بيروت الغربية» ليصل إليها، ولكن ربما لم تعد الحرب الأهلية في لبنان تلك الحبكة البكر التي يصنع منها فيلماً آخر عظيماً، ما جعله يختار واحدة من أكثر الروايات جدلاً.

وقد ربطت الرواية بين العمليات “التفجيرية” في فلسطين ودوافع الإرهاب في العالم، بعيداً عن سياق القضية، لذلك كانت الرواية مجتثة من واقعها، محض فانتازيا تحكي قصة سهام الزوجة المسيحية الغنية، وزوجها الجراح العربي الفخور بإسرائيليته. تختار سهام أن تفجر نفسها في مطعم يحتفل به 17 طفلاً بعيد ميلاد أحدهم، ويبدأ زوجها عقب موتها بالبحث عن أسباب فعلها ذلك دون أن يجد دافعاً قوياً سوى أنها زارت مخيم جنين عقب الاجتياح، وهكذا يعبر المخرج عن معاناة الفلسطيني “بالكلام والأطلال” بينما الحبكة والحدث كله يتركز على معاناة الإسرائيلي من “الإرهابي” الفلسطيني.

إن فيلماً كفيلم «الصدمة» هو مؤذٍ بجميع المقاييس الإنسانية والوطنية، ولم أكن أستطيع أن أخرج بهذا الحكم الذي يساعدني في مطارح عدة واحد منها هذا المقال، دون مشاهدته، وهو حكم رافض للفيلم وليس نقدياً له، فحين نأتي لمحاربة تضليل الأفكار، يجب أن يكون بالطريقة ذاتها، وبالحفاظ على الطاقة الوجدانية الداخلية التي تتسع أخلاقيتها بالخيال، ولن يكون هناك خيال دون التماس مع الفن خاصة في خضم صراع استعماري طويل لن يكف كثيرون عن حسمه على طريقة المخرج دويري بصدمة تهدف لإعادة تفكيك وبناء وعي المتلقي بشكل مضاد.

دغدغ دويري المشاعر الغربية بهذه الصورة الانتهازية، وأرسل على الموجة الإسرائيلية، لذلك يجب محاربة فساد هذه الأفكار وبقوة، وأنا هنا لا أتحدث عن جنسية أفلام ومخرجين وممثلين فقط، بل عن محتوى مرعب توجد حاجة ملحة إلى مشاهدته وتفنيده ثم رفضه لضمان استقامة الحكم.

إن أفلاماً إسرائيلية عديدة كانت أكثر صدقاً من هذا الفيلم العربي الفرنسي للمخرج اللبناني الفرنسي الذي دافع عنه بالقول قبل أربع سنوات: “في بعض الأوقات هناك أفلام وكتب ومسرحيات تدفع الجمهور تلقائياً إلى البحث في المر والتفكير فيه، وهذا ما يحدث معي اليوم، لكن لم يكن هذا هدفي“. إذن ماذا كان هدفك؟ تصوير فيلم عائلي عن زوج يشعر بالغبن لأن زوجته لم تقل له أنها ستفجر نفسها بـ17 طفلاً وتقتلهم، يا للهول! ما أضعفها من حجة.

لقد حشر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي داخل قصة عائلية عادية في فيلم عادي، فكان من العادي أن يصوره بـ”تل أبيب”! وبحسب قوله فقد بحثَ في تونس وقبرص ولم يجد ما يشبه “تل أبيب”، وحفاظاً على واقعية الصورة السينمائية ذهب إلى بلد “المنشأ”  لكنه في مغبة البحث عما يشبه “تل أبيب” نسي أن الفكرة لا تشبه سوى كتاب ياسمينة خضرة نفسه ولا شيء آخر. 

أراد أن يصور دراما عائلية دون أن يحاكمه أحد لصورة الصراع التي يقدمها الفيلم، إذن كان عليه أن يصنع نسخة أخرى من الفيلم الفرنسي «زوج الكوافير»، 1990، فهو أجدر أن يكون فيلماً شخصياً بين زوج وزوجة اختارت الموت ولم تخبره مسبقاً أيضاً، فانتحرت، دون أن تحتاج للخلاص عبر قتل 17 طفلاً، والمس بصراع عمره عقود.

الآن، في 2017، عاد المخرج دويري، وكاتبة السيناريو جويل توما إلى بيروت وصراعاتها، في فيلمهما «قضية رقم 23» الذي نال الفنان الفلسطيني كامل الباشا عن دوره فيه جائزة أحسن ممثل في مهرجان فينيسيا السينمائي بدورته الرابعة والسبعين.

وقد كان فوزاً سرعان ما لحقه ألم وغصة كبيرة أصابت الممثل الفلسطيني، كما أصابت جمهوره، فهذا الاستحقاق العالمي جاء مع مخرج لطالما عزف على الوتر المشدود في قضايا التطبيع الثقافي حتى قطعه نهائياً.

وتقديري لهذا الممثل لا يعني أنني لا ألومه على ردوده العاطفية بعد منع عرض الفيلم في ختام مهرجان “أيام سينمائية” بقرار من قبل “بلدية رام الله”، وأعتقد أن تنغيص فرحته يتطلب منه مزيداً من التأمل بدلاً عن التشنج الذي لم يصبه وحده، بل أيضاً شَابَ الطرف الآخر الرافض لعرض الفيلم والذي يحتاج هو الآخر رؤية نفسه بعيون هؤلاء كي يدرك ماهيته الكاملة وفعالية إرادته.

وسأختم مقالي باقتباس أعتبره مفارقة، فهو إلى جانب أنه يستحق أن يكون رداً على دويري وبقية الكورال، إلا أنه أيضاً مأخوذ من حوار في فيلمه التطبيعي «الصدمة»:

“أي حقيقة؟… حقيقة العربي إلي مكيف على حاله عشان معاه بسبور إسرائيلي ولا العربي إلي انسلخ عن جلده وبينعزم على حفلات وبتنزت عليه هدايا وجوائز من ناس بدهم يورجوا العالم قديش هم متسامحين؟ هاي هي الحقيقة إلي بدّور عليها ولا إلي بدك تتخبى منها؟ إنت بأي كوكب عايش يا إبني، بلادنا منتهك عرضها شمال ويمين، مدنّا عم بدفنوها تحت الجرافات والدبابات، ولادنا نسيوا يعني إيش مدرسة وإنت لمجرد إنك عايش في تل أبيب مبسوط، بتفكر إنك ممكن تيجي هون وتعطينا محاضرات وتعلمنا شو صح وشو خطأ؟!”

الكاتب: أسماء الغول

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع