بينما تجتهد بعض البرامج التلفزيونية المصرية المسائية (التوك شو) في استضافة كاتب مثير للجدل، في محاولة منها لجذب مشاهد غير تقليدي إلى بثها، ومحاولة منها قد تكون غير ناجحة لتقديم وجبة دسمة غير وجبة السياسة التي لم يعد في الإمكان أن يقال فيها الكثير، بل صارت وجبة مسمّمة، سواء للمذيع إذا خرج عن النص، أو للمشاهد إذا لم يكن واعياً بما قد يتناوله من كذب وتدليس، بينما تحاول هذه البرامج أن تجد في الثقافة منقذاً وملجئاً، نجح الكاتب عمر طاهر في أن يقدم برنامجاً ثقافياً من الألف إلى الياء، برنامجاً يخاطب العقول، والقلوب المعلقة بالكتابة والأدب.
يبدو الأمر مدهشاً، كيف يقبل منتج مصري على إنتاج حلقات برنامج يستضيف كتاباً ومثقفين، بعضهم غير مشهور، والبعض الآخر بالتأكيد معروف، ليطلوا على الناس مساء كل جمعة ليتحدثوا عن موضوع يخص الكتابة، المهنة ومشقتها، القراء وسطوتهم، الكتّاب في عالمهم الثالث مقارنة بأقرانهم في العالم الأول، مشكلات الكتابة والوحي، الاستمرارية، جودريدز، وغيرها من الموضوعات شديدة الخصوصية، التي تدور كلها حولها الكتابة والإبداع.
في الثاني من مارس آذار، بدأ الكاتب عمر طاهر بث أولى حلقاته «وصفوا لي الصبر» وفي عنوان فرعي للبرنامج هو «عن الكتابة وأهلها». عرّف عمر طاهر برنامجه في مقدمة الحلقة الأولى بقوله: الكتابة أمر لا يخلو من غدر، الواحد ما بيعرفش يكتشف صعوبتها غير وهو في نص الطريق، عاوز تعرف تعبها، شوف الشخص العادي بيتعب قد إيه وهو بيقول لواحدة ”بحبك“… وكذلك الكتابة.
يستمد البرنامج بهائه من أن أفكاره كانت دوماً حبيسة في معاناة الكُتاب، ومشكلاتهم مع الكتابة، صارت تلك المشكلات واقعاً مرئياً في هذا البرنامج، ولا أبلغ من دقة اختيار عنوان البرنامج «وصفوا لي الصبر» أحد مقاطع أغنية أم كلثوم الشهيرة، ليدل على أن محتوى البرنامج، فكل ضيف من ضيوف الحلقات الأسبوعية، سوف يصف لعمر طاهر وصفة من وصفات الكتابة، أو يقدم له حلاً، أو درساً خصوصياً كما سماه في الحلقة الأولى التي استضاف فيها الروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم، أو يحدثه عن مشكلات الكتابة عامة، أو مشكلات الكُتاب في العالم العربي عامة ومصر خاصة.
ظهر الروائي صنع الله إبراهيم في أولى حلقات البرنامج، لينكر تماماً أي وجود لما يسمى الإلهام، أو الوحي، وقال أنها بدعة، ابتدعها الكُتاب أنفسهم، ليروجوا حول أنفسهم هالة، مؤكداً أن هناك حالة من العشق لموضوع معين، أو المهنة نفسها.
شبّه صنع الله إبراهيم الكاتب بالجزمجي، الذي يحب المهنة، ويتفنن في خياطة الجلد، فعشق المهنة، عند الجزمجي، يماثله عند الكاتب. يرى صنع الله إبراهيم أن كلاهما، الكاتب والجزمجي، ينضبطان في ممارسة مهنتهما طيلة النهار، وهكذا يلتقيان بشكل ما.
بينما يناقش عمر طاهر مع ضيوفه معضلات الحذف وإعادة الكتابة، يلقي بالمقولات والنصائح أيضاً سواء في الفواصل الموسيقية، أو تلك التي تمضي بين تعليق لضيفه، وتعليق لضيف آخر.
في الحلقة الثانية، فتح عمر طاهر ملف القراء، المتسلط منهم، صاحب اليد الثقيلة في التعليق على كتابة أحد الكتّاب، تناول في تلك الحلقة الشيقة مع الإعلامي إبراهيم عيسى أنواع القراء، وصف عمر طاهر القارئ بأنه غرام الكاتب وعذابه، وأنه جاسوس يقرأ خطابات غرام الآخرين، يؤمن عمر أن القارئ بالنسبة للكاتب، مثل الصفقة لرجل الأعمال، الصفقة التي يكسبها هي التي تجعله يستمر، يناقش ما إذا كانت العلاقة بين القارئ والكاتب قد تحولت، وإن كان الأول قد صار عنيفاً، والثاني بات منسحقاً أمامه، كان من المبرر أن يستضيف إبراهيم عيسى في هذه الحلقة، نظرا لخبرة الأخير بالقارئ في مختلف خبراته التي مارسها مع الكتابة، سواء الكتابة الصحفية، أو الأدبية، كانت هذه الحلقة مشوقة أيضاً نظراً لحساسية تلك العلاقة بين الكاتب وقارئه.
في الحلقة الثالثة نجح عمر طاهر في لمس نوستالجيا عند العديد من المصريين، باستضافة الشاعر مجدي نجيب، الذي كتب عدد من الأغنيات الشهيرة التي سمعتها أجيال عديدة، وسكنت في نفوسهم، ومنها أغنية “شبابيك” التي تغنى بها المطرب محمد منير و”شد القلوع يا مراكبي”، وأغنية “كامل الأوصاف” و”قولوا لعين الشمس“. كانت الحلقة كنزاً حقيقياً، كنزاً للمشاهدين، وتكريماً للضيف الفريد، وشهدت الحلقة أيضاً إثارة موضوعات مهمة، مثل حصول المغني على كل الضوء، بينما يخبو الشاعر، كذلك تناول عمر طاهر مع مجدي نجيب فكرة استمرار أغانيه في وجدان الناس، بالمقارنة مع العديد من الأغاني الجديدة التي تنطفئ، وتُنسى.
أما الحلقة الرابعة، فتناولت موضوعاً شيقاً آخر، آلا وهو مقارنة أحوال الكاتب في عالمنا العربي، بزميله في العالم الأول، المشكلات التي يواجهها كلاهما من حيث الرقابة مع المجتمع، صراع الأفكار، قدرة كل كاتب في العالم العربي على تمرير رسائله دون الاصطدام بالمجتمع، وهو ما تجلى في الفقرة الأولى من الحلقة التي استضاف فيها الروائي المصري حمدي أبو جليل، كما استضاف في الفقرة التالية الكاتبة المصرية شيرين سامي، التي تناولت في حديثها مشكلات الكاتبة وأحوالها وتربص عائلتها بما تكتب، وخوفها من الرقابة المجتمعية والتلصص الذي يمارسه القراء على حياتها، وكانت الفقرة الثالثة من نصيب كاتب هذه السطور، التي ركزت على أوضاع الكُتاب المادية في أوروبا، وقدرتهم على الحياة فقط من دخلهم الذي يأتي من القراءات الأدبية التي يتلقى الكاتب الأوروبي مقابلاً عنها.
خلال تسجيل الحلقة مع عمر طاهر، كنت أشعر أن الفكرة جريئة، ولم أعرف كيف سيُعرض هذا الحديث، في مساحة تلفزيونية تتوجه إلى جمهور ربما لا يكون مهتما بهذا الموضوع.
كان هذا الشعور مهيمن عليّ خلال التصوير، وحينما عُرضت الحلقة شعرت أننا لا يكون بوسعنا تنفيذ مثل هذه الأفكار الجريئة انطلاقا من وتخوّفنا من استقبال الجمهور لها، بعد بث الحلقة، بالسياق الذي ظهرت فيه، شعرت أن الكتابة والأدب بحاجة لنافذة جريئة مثل نافذة برنامج «وصفوا لي الصبر» ليعرف الناس أكثر عن الكُتاب وهمومهم، وهواجسهم، ربما يكون هذا جسر وبداية تصالح بين المجتمع ومثقفيه.