لأكتب هذا المقال عن حلمي التوني، الذي غادر عالمنا يوم السبت السابع من أيلول، وجدت نفسي في قلب رحلة جميلة بين لوحات رسمها الراحل الكبير ابن مدينة بني سويف المصرية على مدار عقود، بدأت من سنوات عمله نهاية الخمسينيات في دار الهلال، وامتدت بالستينيات الثرية التي أشرف فيها التوني على قسم الإخراج الفني بالمؤسسة التي أسسها جرجي زيدان في قلب القاهرة، وتولى خلال عمله مع أحمد بهاء الدين رئيس المؤسسة آنذاك مهمة تصميم ورسم لوحات المجلة وأغلفة كتبها، لتنطبع في ذاكرة كل مصري لوحات أغلفة كتب دار الهلال التي نشرت إبداعات الروائيين المصريين الكبار ممهورة بتوقيع “التوني”.
حرت كما حار الكثيرون مما يودون أن يضعوا مقالاً عن التوني عقب رحيله، واستغرقتني أعماله والقراءة في مشاهد حياته، والاستماع إلى صوته متحدثاً عن أعماله، أو مُعطياً دروساً في فن التصميم، وتوقفت كثيراً عند فترة التغريبة التي عاشها لاجئاً سياسياً في بيروت، ناجياً من نظام السادات الذي رفته من عمله مديراً فنياً للتصميم وأغلفة الكتب بدار الهلال العام ١٩٧٣، فيلجأ إلى بيروت ويتخذها ملاذاً، وهناك يعايش الحرب الأهلية، وسنوات الحصار الإسرائيلي لها مكافحاً ومنخرطاً حتى رأسه في نصرة القضية الفلسطينية، يرسم لوحاته وأغلفة الكتب ببطن خاوية.
وصف حلمي التوني نفسه بـ”اللاجيء السياسي” لأن نظام السادات أقصاه عن عمله، وغلّق أبواب الغاليريهات والمجلات بالقاهرة في وجهه، ويوسف السباعي يتهكم عليه قائلا: الشيوعيون ضحكوا عليكم” فيجمع “حلمي التوني” باليتة ألوانه ويشد الرحال إلى بيروت، وبعدها بسنوات تندلع الحرب الأهلية، ثم يأتي العدو الإسرائيلي، فلا يتوقف اللاجيء السياسي عن الرسم والإبداع في ليالي الحصار والتجويع، ولا يكف عن المقاومة بريشته ولوحاته.
التوني وتاريخ الفن المملوكي والإسلامي العربي
يقول حلمي التوني في مقال له بمجلة العربي الكويتية نشره في العدد ٢٨٤ بتاريخ الأول من يولية “تموز” عام ١٩٨٢:
“إن الحكم على التقنيات الفنية العربية التي نتجت بناءً على تأثير الحضارة العربية الإسلامية في فني التصوير والنحت، ربما يكون متسرعا، إذا أنكر صاحب الحكم أي أثر للحضارة العربية الإسلامية في هذه الفنون، وإذا كان قد انطلق من إنكاره هذا من تجاهل المخطوطات الإسلامية وتصاويرها الفائقة ذات الشخصية الفريدة والأسلوب المتميز”.
وجدت نفسي أيضا أقرأ مقالات كتبها الراحل في دار الهلال أبان عمله فيها، ولحسن الحظ احتفظت أرشيفات الانترنت المختلفة بهذه المقالات، ومنها هذه السطور التي أنقلها هنا من مقال للتوني كتبه ردا على فنان لبناني يدعى فريد منصور، قال إن الفنانين العرب مارسوا فن النحت والنحت بعد احتكاكهما بالفن التشكيلي الغربي لأن الحضارة الإسلامية خلت مما يمكن تقديمه لفن النحت والرسم والتصوير على حد قوله.
في الحجج التي يوردها في معرض رده على منصور، نكتشف أي فنان تشكيلي ومصمم أغلفة كانه حلمي التوني، وبدلا من أن استفيض في شرح معارفه، سأضيف سطرا آخر من رده، إذ كتب يقول:
“أخلت حقا الحضارة الإسلامية مما يمكن تقديمه لفن النحت والرسم والتصوير، وماذا عن روائع المدرسة البغدادية الموصلية الواسطية العباسية، والمدرسة المملوكية المصرية، التي استلمت الريادة بعد انتقال مركز الحضارة الفنية الإسلامية العربية إلى القاهرة عقب تدمير بغداد عام ١٢٥٨، هل كُتب علينا تقليد الغرب في فنونه؟ وإذا نجونا من ذلك وقعنا، ولم نستطع أن ننجو من استعارة مقاييسه وتصنيفاته في الحكم على فنوننا وحضارتنا؟”
ويشير التوني إلى ما يسميه الغرب بفن “الآرابيك” وهو فن عربي خالص، يؤلفون عنه الكتب لتحليله وإدراك قيم ومواطن الجمال والسمو فيه، ولا يتوقف عن النظر إلى كنوز الحضارة الإسلامية العربية القريبة مستهجنا النظرة السهلة إلى آلاف السنين حيث الحضارة المصرية القديمة التي يسهل نقاد الفن نسبة تأثر كل الفنون المعاصرة.
مما سبق نتبين ببساطة أي فنان تشكيلي كان حلمي التوني، لم يكن فنانا عاديا يتعامل مع ألوان الزيت” و”الكانفس”، ويُجرب مزج تلك الألوان وغيرها دون سابق دراسة وتدقيق ومعرفة بما يفعل، بل كان فنانا ثقيل المعرفة، كوّن شخصيته الفنية بتثقيف ذاته عبر سنوات ودراسة إرثه الفني المصري والعربي، والنهل بصبر وأناة من كل الفنون الإسلامية والشعبية المصرية التي جعلته يعرف تاريخه كفنان وكيف يستمد من إرثه الحضاري ما يعينه على إنتاج فنا معاصرا له هوية متصلا بمن سبقوه من المدارس الفنية المملوكية المصرية، وغيرها من المدارس العربية.
“السمكة” و”الهدهد” و”الشمعة”… رموز لعوالم أسطورية
إذا أجلنا تتبع حياته المهنية إلى جزء لاحق من هذا المقال، وبدأنا بالتأمل في لوحة “التوني” التشكيلية، وتتبع سماتها، سنجد أن أبرز ما يميزها هو العيون الواسعة لوجوه النساء، واكتظاظ اللوحة بالرموز والأكواد التي تستمد غموضها من الأساطير والتراث الشعبي المصري الشفاهي والمنصوص، مثل أن تحمل امرأة سمكة فوق رأسها، وهو الرمز الذي تكرر أكثر من مرة، سواء مع طفلة تحمل سمكة فوق راسها وعلى كتفيها علم مصر، أو امرأتين تحمل إحداهما فوق رأسها طيرا وزميلتها تحمل سمكة، وليس هذا فقط، العديد من لوحاته ترتدي فيها النساء أقراطاً من الأسماك، وتحمل أسماكا أخرى، ولوحات أخرى بها أسماك متطايرة، حول وجوه، أو رؤوس النسوة، فالسمكة عند حلمي التوني رمز مسيحي قديم استعاره من الحضارة المصرية القبطية، وحينما سؤل حلمي التوني عن دلالة رمز السمكة في لوحات معرضه الذي حمل اسم “حبيبتي السمكة” وأقامه عام ٢٠٢١ في مدينة الإسكندرية شمال مصر في غاليري “شيلتر”، ثم أعاد تنظيمه مرة أخرى عام ٢٠٢٢ في القاهرة في غاليري “بيكاسو”، أجاب:
“ترمز الشمعة إلى النور والاستنارة، وإلى البحث عن الحقيقة وسط الظلام، كما أن السمكة هى رمز قديم جدا خاصة فى المسيحية، فتم استخدامها من قبل المسيحيين حيث يتعرفوا على بعضهم دون التعرض للمضايقات أيام الاضطهاد الروماني في مصر، فكانوا يرسمون سمكة على الأرض حتى يعرف الشخص أنه مسيحي مثله.
كتب أيضا حلمي التوني مقولة عُلقت في أحد جوانب معرضه “السمكة” بالإسكندرية: بالنسبة لنا أهل الداخل البعيدين عن البحر وعن عروس البحر الإسكندرية، الإسكندرية هي سمكة فضية، وأحيانا ذهبية، في رحلتي الفنية رافقني رمزان أساسيان، الهدهد والسمكة، الهدهد رمز البشارة والبشرى، والسمكة رمز الخير والخصوبة، أي رمز المرأة، هل يمكن أن نتصور السمكة ذكرا، أبدا، فالسمكة هي الأنثى بامتياز، وبالمناسبة، فإن كثيرا من أهل الريف يسمون بناتهم بـ”بُلطية”.
ويتابع: ظهرت السمكة كرمز في الكثير من لوحاتي، وتجلت في أشكال عدة، فهي أحيانا تحتضنها امرأة، وأحيانا تحملها فوق راسها، وأحيانا سمكة ذهبية تزين عنق حسناء، السمكة كما المرأة تشغل بالي ولوحاتي، وفي هذا المعرض نشاهد السمكة مع المراة دائما، فهي شقيقة وحبيبة المرأة ، فكأن لابد أن اسمي معرضي السكندري هذا بـ” حبيبتي السمكة”
لوحاته نوافذ مفتوحة على الحكايات الشعبية وأساطير الصعيد المصري والتراث الديني
حلمي التوني هو فنان الرموز، فلا يمكن حينما تطالع لوحة من لوحاته، ألا أن تتأمل أسباب اختياره هذه الرموز، وهو يؤول اختياراته بنفسه، ولا يتركك تحتار كثيرا، إذ يقول: لغة الفنون هي الرموز، فحينما يرسم الفنان زهرة، فهو لا يتعامل مع علوم النبات، وعندما يرسم القمر لا يقصد علم الفلك، وكذلك حينما يرسم شمعة، فهو لا يقصد الضوء، إنما البحث عن الحقيقة، والاستنارة والتبصير، وإذا تأملنا لوحات معرضه “الشمعة والسمكة” نلحظ شيئا مهما، أن المرأة بطلة لوحته الرئيسية وليس كائنا آخر، هي من تحمل دائما الشمعة، أو شمعتين، وتتطاير حولها الأسماك، أو ترتديها كما سبق وقلت، فالمرأة والشمعة والسمكة هم سويا ثالوث مقدس في أعمال التوني، أو تحديدا في لوحات هذا المعرض، وتستدعي أفكارك أمام لوحته “النداهة” التي كانت تجوب قرى مصر تدعو الرجال إلى مصيرهم المحتوم، أو منشد يحمل ربابة، يروي الحكايات، وينقل الإرث الشفاهي من موضع لآخر.
ألوان لوحات التوني مستمدة أغلبها إن لم يكن سائرها من البيئة المصرية الصعيدية، أو البيئة العربية، الأحمر الزاهي لون القلب والدم والورود وتفاحة آدم التي نجدها أيضا ممثلة في الكثير من المواضع في لوحاته، إما في كفوف النساء، أو فوق رؤوسهن.
يستخدم التوني اللون الأصفر وهو لون سنابل القمح والصحراء المحيطة بالنيل، ويستخدم أيضا بغزارة الأخضر الطازج المبهر لون الحقول والزرع وجلباب الفلاحات اللاتي يرتدين هذا اللون دائما في لوحاته.
هناك أيضا تمائم سرية في لوحات حلمي التوني، هي مفاتيح لأسرار جلبها من أعمق أعماق تصاوير قرية تونا الجبل الفرعونية، أو من الإرث الفرعوني المصري عموما، ومزجه بالإرث الصعيدي المصري، ستجد في لوحة من لوحاته امرأة مصرية تقف مُصورة من بروفايلها الجانبي، وعلى رأسها جرة ماء تصب نهرا يتدفق خارج اللوحة، وستجد لوحة أخرى لامرأة مصرية أخرى ترتدي ملاءة لف، هي بهية تماما، بهية الفلاحة المصرية، كما رسمها التوني معبرا فيها عن تصوره لأمه التي ترملت وهي في الأربعينيات من عمرها، فآثرت أن تكرس نفسها لتربيته وشقيقيه، وهذه المرأة التي ترتدي ملاءة لف تشبه إلى حد كبير سكندريات محمود سعيد اللاتي يرتدين ملاءات لف، بل رسم حلمي التوني لوحة بها ثلاث نسوة يرتدين الملاءات اللف ويقفن كنسوة محمود سعيد في لوحته الأشهر “بنات بحري” وهو في هذه اللوحة يمارس نموذج المعارضة الفنية، أي عمل فني يتحاور مع عمل فني سبقه، ونرى في لوحة أخرى امرأة ترتدي ملاءة لف أخرى وترفع كف يدها الأيمن، فنرى قلبا أحمر يستقر في راحتها، ممتزجة بعبارة “مصر يمه يا بهية” التي كان التوني يحرص أحينا على كتابتها في بعض اللوحات، كغيرها من العبارات التي كان يُزين بها لوحاته.
تشكل النساء نسبة ٩٩٪ من شخوص لوحاته، حلمي التوني يصف نفسه دائما بأنه نصير المرأة، ونصير كل الأقليات وكل المستضعفين، لهذا يُعتبر الفنان التشكيلي الوحيد الذي كان لفنه صوتا، إما مُجسدا في عبارات يكتبها في اللوحة، أو يقدم لقاءاته تفسيرات عن أسباب رسمه وما وراءه.
محطة بيروت… اللجوء السياسي والعداوة مع السادات والرسم تحت الاجتياح الإسرائيلي وتجربة تأسيس “السفير”
التغريبة البيروتية، هي أثرى جزء في حياة حلمي التوني، فهي التجربة التي أضاف بها حلمي التوني للآخرين، وجعل فنه عابرا لحدوده المصرية، مؤثرا في الفن التشكيلي العربي، واضعا بصمته وإبداعه في فن تصميم الأغلفة للكتب والمجلات العربية والبيروتية، وكل هذا بدأ مع اللحظة التي قرر فيها السادات معاداة الفنانين والمثقفين المصريين، ورفتهم، حينما وصل حلمي التوني مكتبه في دار الهلال ذلك الصباح من أيام عام ١٩٧٣، وجد في انتظاره وريقة من يوسف السباعي تمنعه من ممارسة عمله في الدار التي عمل فيها أكثر قرابة العقدين، بتهمة أنه شيوعي.
تفتح بيروت أبوابها مُرحبة بالتوني، سيستقبله في مطارها عند وصوله الفنان كميل حوا، وإلياس سحاب من النادي الثقافي العربي، وسيدعوه “سهيل إدريس” للعيش في لبنان، سيعمل في المؤسسة العربية للدراسات والنشر، مع عبد الوهاب الكيالي، وهناك سيؤسس تصاميم الموسوعة السياسية له وأغلفة كتب أخرى، وشعار معرض بيروت “النادي الثقافي العربي”، سيكون التوني هو من سيطور فن تصميم أغلفة الكتب البيروتية، ويسهم في تطوير فن البوسترات “الملصقات”، سيقيم التوني عقدا كاملا في لبنان، حتى خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وسيصمد خلال الحصار مستعينا بالرسم والإبداع، على مقاومة الجوع.
صحافيا سينضم إلى فريق جريدة السفير، ويصبح من مؤسسيها، ويبتكر شعارها الأشهر “الحمامة”، عن ذلك يقول طلال سلمان، مؤسس جريدة السفير في مقال له نشره العام ٢٠١٢: جاء حلمي التوني لينقذ السفير، وينعش فلسطين.
بينما أقرأ مقال طلال سلمان عن حلمي التوني، كنت أشعر بالفخر وبقلبي يخفق، لأن حلمي التوني مصري النشأة، صعيدي المولد، كان واحدا من مؤسسي صحيفة بيروتية عريقة كالسفير، يقول سلمان:
مع أول يوم من ربيع العام ١٩٧٤، وصلتنا النجدة التي أنقذتنا من حيرتنا وترددنا حول رمز “السفير”، دخل علينا في مكتب رئاسة التحرير حلمي التوني، أردنا الاحتفال به، فقال: لننجز أولا ثم نحتفل، أخرج من حقيبته الجلدية الرقيقة صفحات مطوية فعلقها على جدار المكتب، مقدما لنا تصوره لما يفترض أن تكون عليه الصفحة الأولى من السفير، ثم وبهدوء شديد، تقدم ليلصق الشعار الذي ابتدعه، قائلا: لم أجد أفضل من الحمامة رمزا يتناسب مع الاسم.
حسب طلال سلمان، حلمي التوني هو من وصفه نفسه اللاجيء السياسي، إذ قال في اجتماعهم هذا: يمكنكم اعتباري لاجئا سياسيا، فقلد باشر السادات اضطهاد الوطنيين بعد الضربة التي وجهها إلى الجيش عبر تجميده إثر انتصاره في العبور، مما مهد لثغرة الدفرسوار.
التوني يرسم من أجل غزة وفلسطين يوميا خلال الحرب على القطاع ويتألم للشهداء
حمل التوني القضية الفلسطينية في قلبه، ورسم لها الكثير من اللوحات، حينما اجتاح الصهاينة بيروت العام ١٩٨٢، حوصر في بيروت الغربية دون ماء، ودون طعام، وظل مدة الحصار يرسم لوحات بالقلم الجاف، وحتى بعد عودته مصر ستظل القضية في قلبه، وفي الخامس من يولية تموز ٢٠٢٣ وضع التوني على صفحته في الفيسبوك بوستر كان قد صممه عن فلسطين، لامرأة فلسطينية ترتدي مفتاح منزلها الذي هُجرت منه، وكتب:
في هذه الأيام نعود ونقول لضمير العالم والإنسانية: إن كنت ناسي أفكرك.
وفي أكتوبر منذ اندلاع الحرب على غزة، تابع التوني ما يجري من فظائع وأهوال ويرسم للفلسطينيين اسكتشات نشرها على صفحته، وكان يذيلها بتعليقات، مثل:
إسرائيل تسعى لتعطيش شعب فلسطين والشعب يتفرج.
سوف تعود حاملة الماء و تعود أزهار فلسطين لتتفتح.