لا يمكن أن نصف المشهد السياسي المصري الحالي إلا بأنه مشهد من الفيلم الألماني المعروف «حياة الآخرين» (the lives of others).
في الفيلم الألماني، يقرر الوزير الفاشي، القابع على رأس السلطة الديكتاتورية في ألمانيا الشرقية، أن يتجسس على أحد الكتاب المسرحيين، ليس لغرض إلا ليتأكد من ولائه للدولة الديكتاتورية، والسلطة القامعة، فيتحرك مساعد الوزير في البوليس السري “الاشتازي” مكلفاً أحد ضباطه بالتجسس على الكاتب المسرحي، بغرز أجهزة تنصت في كافة أرجاء منزل الكاتب، ليحصوا أنفاسه، وأنفاس حبيبته، وليتجسسوا على تحركات كل زملائه الكتّاب المناهضين للسلطة الغاشمة، القامعة، التي حولت ألمانيا الشرقية إلى سجن.
في مصر، شارك المخرج المصري المعروف، داوود عبد السيد، في مؤتمر صحفي عقدته قيادات الحركة الوطنية الديموقراطية نهاية الشهر الماضي كانون الثاني، دعا فيه إلى مقاطعة الانتخابات، مؤيداً دعوة المشاركين في مؤتمر الحركة الوطنية، وعلى رأسهم حمدين صباحي، القطب الناصري المصري، والمرشح الرئاسي السابق أمام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بانتخابات 2014، ولم تمر بضعة أيام على عقد المؤتمر، الذي أغضب رأس النظام، حتى انهالت البلاغات ضد المشاركين فيه، تطالب بمنعهم من السفر، أو التحقيق معهم والاتهامات جاهزة وممتدة: التحريض على قلب نظام الحكم، أو تهديد الدولة.
لم يكن هذا التطور الوحيد في المشهد السياسي المصري، إنما تزامن معه تطور آخر، على المشهد الإبداعي والفني جعلهما يرتبطان على نحو ما، إذ عقدت لجنة الدراما، المنبثقة من المجلس الأعلى للإعلام -هيئة مصرية يترأسها نقيب الصحفيين الأسبق مكرم محمد أحمد- عقدت اجتماعها برئاسة المخرج محمد فاضل، وقررت فرض عدة موضوعات على كُتاب الدراما ليختاروا من بينها الأنسب لتقديمه للمشاهد المصري، وتطايرت تصريحات نقلها كتاب الدراما الغاضبين من فاضل، أنه ينوي أن يحدد لهم ما يكتبونه، وما لا يتطرقون إليه في أعمالهم المرتقبة، بما يشبه الوصاية على أعمالهم.
أضاف الأمران -البلاغ ضد داوود ووصاية لجنة الدراما- قتامة على المشهد الإبداعي المصري، والسياسي أيضاً، وجعلتاه مناسباً لفيلم “داوود” المعروف، بأن البلاد تحولت إلى “أرض الخوف”، فالرد على حق قامة إبداعية شاهقة مثل داوود في مقاطعة الانتخابات وهو فعل سياسي له كامل الحق فيه، بتوجيه اتهامات ضده بل وفتح التحقيق فيها، يشي بالتحول الخطير الذي تنتهجه السلطة في مصر، في مواجهة كل من يعلن أنه ليس في صفها، متناسية منجزه الفني الشاهق، وعلى الرغم أن البعض قد يظن أننا أصحاب الوصف بأن مصر تحولت أشبه بقطعة من فيلم «حياة الآخرين»، فأنه سيجد بقليل من البحث، أن جبهة الإبداع المصري، هي التي وصفت ممارسات النظام المصري ممثلا في “لجنة الدراما المنبثقة من المجلس الأعلى للإعلام” بأنها تشبه ممارسات وزير الدعاية النازي “جوبلز” إذ قالت جبهة الإبداع في بيان لها رداً على رغبة فاضل بتأميم الدراما: “لا نستطيع أن نجد مثالاً واحداً في التاريخ لقيام مؤسسة من مؤسسات الدولة بدور مماثل إلا في ألمانيا النازية في عهد هتلر ووزير دعايته جوبلز الشهير واستديوهات أوفا التي كانت تنتج المواضيع والرسائل التي يوافق عليها ويشجعها جوبلز .. هل تلك هي الصورة التي نرغب في أن يكون عليها المشهد الفني في مصر؟ فن تحت الوصاية؟ فن مدجن؟!.. أستاذنا الفاضل محمد فاضل.. فن تحت الوصاية لم يكن لينتج أعمالك الرائدة ولهذا فإن الواقفون على رصيف فيلا أبو الغار يدعونك للعودة لصفوفهم و الوقوف معهم.. حتى لا تضطر الدراما المصرية إلى رفع الراية البيضاء أمام الدراما العربية وحتى لا تصبح الريادة التي نتشدق بها هي وهم لا يصدقه غيرنا”.
وداوود عبد السيد بدأ حياته مساعداً للمخرج يوسف شاهين في فيلمه «الأرض»، و«الرجل الذي فقد ظله» لكمال الشيخ، قبل أن ينطلق ليصنع أفلاماً تسجيلية في شوارع القاهرة، أهمها «وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم» ثم اشتهر داوود عبد السيد بفيلمه «الكيت كات» المأخوذ عن رواية الروائي الكبير الراحل إبراهيم أصلان «مالك الحزين»، وفي عام 2000 كتب وأخرج فيلمه «أرض الخوف».
تحول فيلم «أرض الخوف» إلى أيقونة وسط أعمال داوود عبد السيد، إذ تدور قصة الفيلم حول ضابط شرطة يدعى يحي منقباوي، يكلفه رؤساؤه بوزارة الداخلية بمهمة أبدية، وهي أن يكون عينهم وسط تجار المخدرات، وأن يتحول شيئاً فشيئاً إلى تاجر كبير، عدو للشرطة مثل التجار الخطيرين، ويتماهى معهم تماماً، على أن يحمي نفسه بنفسه، من ملاحقات الشرطة المتوقعة، يتحول ضابط شرطة إلى مجرم بقرار من رؤسائه، وهي كانت الفرضية الذكية التي بنى عليها داوود فيلمه، فيعيش بطله عذاب الازدواجية التي يحياها، ممزقا بين حياتين، حياة الفساد، وحياة الشرطي السري القابع داخله، يتحول يحيى إلى مجرم عتيد، ذي هيبة، خاصة حينما يقتل أحد عتاه تجار الصنف، وعلى الرغم أنه يستمر في إرسال التقارير إلى رؤسائه، الذين يحضر جنازة بعضهم، ،هم الشهود على مهمته السرية، فكأنهم يصطحبون سره معهم إلى قبورهم، يرقب يحيى حياته الحقيقية وهي تدفن، أسفل ركام شخصيته الوليدة، المجرم العتيد، وتكتمل عبثية الفيلم، بما يليق بعبثية ما يحدث في مصر، حينما يتكشّف للمجرم/الضابط سابقاً، أن تقاريره لم تكن تصل عبر عقود إلا إلى ساعي بريد.
إنها العبثية المصرية في أبهى صورها، تجسدها رغبة النظام اليوم في حصار مبدعيه، وفرض إملاءاته على إبداعهم، بل ومطاردتهم بالبلاغات، لكف ألسنتهم عن انتقاده، إنها أرض الخوف.