ذات الروحين

عمل لفاتح مدرس

جولان حاجي

شاعر ومترجم سوري كردي

فأري يخاف ربّه الذي نجّاه. بمصيدةٍ من خشب، في ليلِ شتاءٍ ماطر، اصطادوا أهله كلّهم، استدرجهم خبزٌ يابس، عامَ الجوعِ الأكبر، أرملةٌ رَمتْهم جرحى للقطط الجوعى فأُكِلوا في العتمة وهم أحياء.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

05/09/2018

تصوير: اسماء الغول

جولان حاجي

شاعر ومترجم سوري كردي

جولان حاجي

مقيم في فرنسا

خبز القلب

كيف سيتلقّى غيرُ الكردي أغلظَ الأَيمان هذا: قسَمَ الغاضب بقبر الله أو قسَم العنيد بأير الذبابة؟

الكينينغ Kenning، في الأشعار الألمانية والإسكندنافية والإنكليزية القروسطية، تسمية مجازية لمخلوقٍ ما أو شيء ما، عوضاً عن مناداته باسمه المتداوَل. اللغات عموماً، والشعر خصوصاً، تزخر بهذه المجازات، وهي على الأرجح تعابير سحيقة القدم غامضة الأصول ومجهولة المؤلفين. إنها تحجب المسمّى بأسماء أخرى مخترعة قد تبدو للوهلة الأولى ألغازاً. ثمة متعة في الوقوف عند تقاطعات محتملة بين الأساطير الجرمانية والأنغلو-سكسونية والإسكندنافية وبين الملاحم الأولى للغات الهندو-أوربية، واللغة الكردية إحداها. مقارناتي هذه غير ممكنة بأية حال إلا في أرض الخيال، وهي مقارنات شعرية بصرية أولاً، تحاول أن تربط خيال الشمال الكردي بشمال هذا الكوكب.

في القرن الثالث عشر، جمع سنوري شتورلسن ملاحم الساغا الإيسلندية، الحافلة بالكثير من تلك التسميات شديدة التنوع، وهنا اثنان من أبسطها: “مُطعِم الغربان” أي المحارب، و”قطعة الخبز” أي القلب، وأضيف إن “أطعِمِ النسر” كانت تعني “اقتلْ عدوّك”. كان شتورلسن قد كتب إن غاية مثل هذا الأسلوب هو مِران الشاعر على فهم ما يُقال بطرق ملتوية أو مبهمة، فكتب عن نظم الشعر من دون توريات، حيث “تسمية كل شيء باسمه”، على غرار آدم في الديانات الإبراهيمية، ولكن العكس هو الجليّ، ففي هذا الشعر الملحميّ مداوَرةٌ لا تسمّي الأشياء بأسمائها عادة.

تحتوي اللغة الكرمانجية في سوريا تسميات عديدة مشابهة، قد تتراءى كأقنعة لغوية طوطمية: “أذن الشيطان” هي المحارة، “طيّارة الشيطان” هي اليعسوب، “سليمان ذو المنقارين” هو الهدهد، “يد الصباح” هي الفجر، “مُخصي الضفادع” هو المتبطّل الضجران، “بيت الطفل” هو الرحم، “ذات الروحين” هي الحُبلى… إلخ، غير أنني سأتوقف عند عالم المخلوقات الصغيرة والحشرات التي سترث الأرض والإنسان. كان الأهالي، في بعض قرى الأكراد، يوكِلون إلى النمل في الأيام المشمسة مهمةَ الافتراس لتنظيف صوفِ عباءاتهم من القمل والصئبان، وكانوا يلقّنون أطفالهم الصبرَ والدأب والتواضع بوضعهم عراةً فوق قرى النمل، فيحتمِل الطفل هيجانَ النمال وقرصاتها المؤلمة، وقد يبلّل سبّابته بلعابه ليلتقط نملة كبيرة ويلتهمها بنهم لأن حموضتها مستساغة. كان أكلة النمل مكرّمين وجزء من دورة الطبيعة، فيما كان العقاب ينزل بالصغار بعد عبث مبارياتهم حين كان المتبارون في رشق البول إلى أبعد مسافة ممكنة يُغرِقون ببولهم مخلوقاتِ الله المباركة هذه ويهدمون بيوتها في براري الصيف. لا يُنسى هنا إن أجدادهم قد نهبوا مراراً مخازن الحنطة التي يلملمها النمل فسدّت رمقهم أيام المَحْل والمجاعات.

مشط الأصلع

السحلية حيوان مبارك في الثقافة الكردية الشعبية، إذ يقال إنها هُرعت إلى إطفاء حريق شبّ في منزل الصحابيّ أبي بكر الصديق أثناء غيابه، فكانت برشاقتها وسرعتها تحمل الماء بفمها من الجرار وتلقيه على ألسنة النار حتى خمدت. إحدى تسميات السحلية هي “وسادة الثعبان”، أما تسمية أمّ أربع وأربعين فهي “مشط الثعبان”. تكاد هذه التسميات تتاخم أدب الأطفال، ولا أميل إلى تأويلها سياسياً بالقول إن الأضعف خادم للأقوى، أو بالقول إنها تحايلٌ على القمع الذي تفرضه اللغات المهيمنة. لعل هذه الكنايات البصرية ضرورةٌ نجهل أسبابها وضربٌ من المتعة في آن معاً، كأنها صُور فقدت صلاتها مع صور أخرى في حكاية شعرية لن نعرفها، وما الشعر أحياناً إلا الاهتداء إلى صلات مفقودة بين أشياء تباعدت بها الأزمنة والأمكنة. هذه لذات الخيال الصغيرة في العزلات الطويلة وسط الجبال والثلوج، حيث عاش الأسلاف، مُطوّقين بالصخور العظيمة، قريبين من السماء، مُخوّفين بالموت في قسوة الطبيعة وحنانها، حيث ماتت كلمات كثيرة قبل أن تولد على شفاه الرعاة، وحيث ولدت كلمات أخرى وشاخت سريعاً وتداركها الزمن مثلما طوى كلمة “السجنجل” الفارسية- “المرآة” المُذكّرة في معلّقة امرئ القيس.
 

عمل لفاتح مدرس

سرّ الهواء

لا تبدو تلك الصور مجترَحةً للزينة والإبهار، وإنما هي جزء جوهري من المعنى. كانت اختراعاً للمرادف والظلّ، بعضاً من توريات القدر، لا مجرد حُلية لفظية أو محض لعبة أو موعظة أو تحويلاً لعنف الأساطير إلى شكل من اللهو والتسلية. تلك المجازات الصغرى، البديعة والغريبة كالأمثال، يتناقلها الأكراد عبر القرون، شفوياً على الأقل، مُهرّبة كالجواهر، حاضرة كبقايا جمال مندثر. إنها أعمدة شفافة نحتها الزمن وتقوم عليها اللغة، تعبر من عصرٍ إلى عصر ببطء شديد فتُغلّف كأعمدة الكاتدرائيات بطبقاتٍ جديدة من الأحجارِ-الكلماتِ، وتنجو من الحرائق والقصف والزلازل. نجت الأمثال الكردية من حملات التعريب والتتريك القسريين، كما نجا العقرب من انفجار تشرنوبيل، والعناكب بعد تدمير هيروشيما وناغازاكي. الحضارة هنا تحيا شفاهاً، شعراً وموسيقى، لا تُرى ولا تُلمَس في الجماد أحجاراً ومعادن، ففي النهاية الأغنية أو القصيدة ليست إلا خيوطاً من كلمات، ينفخها فمُ الخالق أو عقله، في الهواء أو الحبر أو في آلة موسيقية، وهما ذاكرةٌ حية للغة في لحم الإنسان. الكلمات والموسيقى حركاتٌ في الهواء، أنفاسٌ لا تُرى ولا تُعرف إلا بأثَرها. الملاحم الشفوية ليست حجر رشيد ولا قصر فرساي. هنا حجّي وسياحتي، في هذا التراث المتواضع، الزائل أمام الأوابد والصروح، أقول لنفسي، متذكراً عواصف الأمم العظيمة ومعاركها، ثم مستدركاً إن النسمة، في اللغة الكرمانجية، هي “سرّ الهواء”.

ربما الشعر تأويل مجازيّ لمجهول اللغة. كان سركون بولص في “جزيرة الأدراج” اليونانية “حيث تنطلق السنونوات بين صواري السفن/ كمشة من النقاط والفوارز، حفنةً من الحروف والكلمات/ أطلقها من يده شاعر أعمى/ ليُجبّر عظامَ جملة/ ويكشف لنا فجأة معناها”. شاعر مجهول رأى الكلماتِ نمالاً قتلها بردُ الصفحات، والغربان كلمات الله تمشي على صفحة الثلج، وآخرُ رأى النقاط برازَ ذباب على أسلاك المصابيح، والفاصلة المنقوطة قفازَ ملاكم في ارتداد قبضته عن الصفحة تاركةً كدمة صغيرة على شكل نقطة.

تطريز الستارتين

ما انفكّ الشعراء يبحثون عن كلمات يعيدون بها، من جديد، على مرّ الأحقاب، قولَ ما قيل. وفي عصرنا هذا، يندر النحت اللغوي الحيّ لمقاربة ما يفوق الوصف، يندر العثور على قناعٍ لغوي يُقال به ما يعجزنا قولُه أو لا نريد. فمثلاً، يكاد يتعذّر العثور على كلمات تحيط بالألم أو الحبّ، فتصفهما حقاً من دون تزييفهما أو ابتذالهما. سيقال بالكردية “شفتان مخيطتان”، فنفهم إن ثمة صمتاً يرينُ إثر مصيبة، لأنّ الكلمة ستغادر الفم في ولادة عسيرة، وتشقّ الشفتين اللتين شُبّهتا بأشفار الفرْج، ثم تجتاز “الستارة” (أي “غشاء الطبل” بالكردية) لتنقبر من فورها في عتمة الأذن، إذ ما من أحدٍ يسمع أحداً.

تتيحُ تلك اللّقى المجازية المذكورة نوعاً من الترحّل اللغوي يبثّ في الصميم ألفة وحنيناً مبهماً إلى بداية مفقودة، فتتلوّن المعاني بالتجاور بين المتقابلات والنقائض والمتباعدات. الغريب هو المسموع كل يوم، الأليف المتجذّر في اللسان، المنسيّ لشدّ ما يعاش، هو ما سبق للعقل التيهُ فيه والجوَلان جوَلانَ لسانِ العاشق في فم معشوقه. الشعر يلتقط هذا الغريب، ويرفع حجاباً عن عاديات الأشياء ومبذولها وحتى دفينها. قد نصادف، حتى يومنا هذا، مَن يقول إن الشاعر “الفحل” يفتضّ بكارة الكلمات، أو يهيم في غابةٍ سوداء عذراء، وأمام “فحولة” هذه الاستعارات التي روّجتها أسبابٌ شتّى أضع كلمة “غشاء البكارة” التي تعني بالكردية “الستارة”- ستارةً بين دم الغريزة ودم الجريمة، بين ظلام الجسد ونور العالم، ولا نعلم من أيّ جانبيها سيأتي الموت، لأقول إن الشعر يزيح الستارة بين العقل والطفولة، ويفتح الظلام على النور.

الجَمال الصغير

في آذار 2014، وقبل ذكرى مجزرة حلبجة ببضعة أيام، أقدم انتحاريّان، محسوبان على داعش، وأحدهما من مدينة “حلبجة”، على تفجير نفسيهما في مبنى فندق هدايا في القامشلي، فخسرتْ حلبجة خليل حياتيها، لأنها كانت حاملاً، وهي المولودة سنة المجزرة التي أبيد فيها الأكراد كالحشرات، المستعدّة لعيد ميلادها، كانت تنادى تحبّباً “كِيزيِهْ”، أي “الحشرة”. سأختم بحكاية كردية فلكلورية شخصيتها الرئيسة هي الحشرة، رمز الجمال، وبعد موتها يستأنف الناس حياتهم على الفور، وكأن شيئاً لم يكن. الجمال عمره قصير، فأوكِل به إلى حشرةٍ تهابُ العصافير، إذ ما يسرّنا قد يفزع غيرنا، وأحياناً أسباب سعادتنا هي بالضبط أسبابُ شقاء آخرين. افترضتُ إن الخنفساء زوجة الفأر هي الراوية، وكلاهما، كأكرادٍ كثيرين، لا يجيدان السباحة. بأية حال، هذه هي صياغتي الشخصية للحكاية التي أعدتُ كتابتها بالكامل، استناداً إلى مرويات شتّى سمعتها في أمكنة وأوقات متباعدة، من عامودة إلى برشلونة.

زفاف اليتيمين

بعد شهورٍ عشناها نتخفّى في التبن ونقتاتُ الروثَ اليابس، بُحْتُ بسرّي:

أمّي أغرقَها السيل، وأبي داستْهُ العربات، وإخوتي اختفوا في حريقِ الحقول.

حين انتهتْ حياتي، دلقتْ فتاةٌ على رأسها سطلاً من اللبن، وأسبلتْ عرانيسُ الذرة أوراقها كآذانِ الحمير في آب، وأسقط الشجرُ أوراقه على بكاء حبيبي الذي ركض كالمجنون إلى البرية. ظنّني قد هربتُ حين عاد من نزهته وناداني فلم أجِبْه. كنتُ أعدّ له العشاء، محنيّةً على قِدرنا الوحيد، قِدر طعامنا وغسيلنا، أحرّك بملعقةٍ من خشب حساءَ العدس، فهويتُ وانتهيتُ ولم تُسمَعْ استغاثتي. لم يسمعْ ولولتي هذه المرة مَن سمع صياحي على صهوة جواده، من دون أن يراني، فأذاع ندائي تلك المرّة وأنا أغرق وراء التلة، فاستعجلَ حبّي، فأتى وأنقذني.

مَن فضَح موتي؟

*

سئمتُ الوحدة فجُبتُ الطرقاتِ طويلاً أسعى، لكني لم ألقَ مَن أتزوّجه ولا أخشاه. فكّرتُ كثيراً: بمَ سيضربني زوجي إذا تشاجرنا؟ استوقفني راعٍ يسألني: “إلى أين أنتِ ذاهبة أيتها الخنفساء، إلى أين يا حسناء البراري؟” صارحتُه بالصدق، فخفتُ مما قلتُ: “لن أتزوّج راعياً سيضربني بعصاه”. ظللتُ أفتّش عن زوجٍ لا أتماوتُ معه ولا أخشى أن يقتلني.

الفأر، حبيبي، فاجأني: “سأضربكِ بخفقاتِ قلبي، وسيدوم عرسنا سبعة أيام بلياليها”.

فأري يخاف ربّه الذي نجّاه. بمصيدةٍ من خشب، في ليلِ شتاءٍ ماطر، اصطادوا أهله كلّهم، استدرجهم خبزٌ يابس، عامَ الجوعِ الأكبر، أرملةٌ رَمتْهم جرحى للقطط الجوعى فأُكِلوا في العتمة وهم أحياء.

ذيلُ حبيبي سَوطُ حناني، ضفيرةٌ تقسم ظهري حين أنام، حبلُ نجاتي الممدود إليّ إذا أهلكني الوحل. الآن نهايةُ خوفي. أنت قويٌ يا فأري، شجاعٌ وخجول، خفيضُ الصوت وأقنى الأنف، على ظهرك يتأرجح صندوقي كهودج على ظهر فيل. أنا يا حبّ بين ذراعيك آمنةٌ، حضنك حِصنُ حنان، وسوادي يتقزّح في مخدعنا قوسَ قزح في عزّ الليل.

*

بين الأشواكِ العالية علّقتِ العناكب إكليلاً حاكتْه لي على عجل ووسّخَهُ الرعدُ برذاذِ الوحل.

لن أغسلَهُ في نهرٍ نصفُه ماءٌ ونصفٌ دم، فأنا أخشى ضفافَ الأنهار، تزلّ قدمي فأنزلق إلى التيار، ولا مغيثَ لمَنْ زلّتْ بهِ القدمُ.

لن أغسلَ إكليلي في البئر ذات الأدراج، فأنا أخشى السقوط إذا زلّتْ بيَ القدمُ فيلدغني عقرب. ليس لي إلا البحر.

وانطلقنا نبحث عن ماءٍ لا أخشاه أغسلُ به إكليلي.

على كتفيه حملني حبيبي ومشى. مشى ومشى، حتى توقّف لأن سماء صافية رشقته ببضعِ قطرات. “أيّة معجزة أن تمطرَ من دون غيوم! ماذا جرى؟” سألني، فأجبتُ: “لا شيء. قليلٌ من ماء الشيطان”، غضب لأني بُلتُ على وبره ففاح العفن، لكنّه سامحني، وقال: “يمّميني وتيمّمي بغبارِ الطريق. بعد قليل سنصل إلى البحر. أمامه، ينكشفُ سرّ العالم. طريقنا ضيق، صنوبرةً عالية فلنتفيأ، ريحاً خفيفة نسمع وبالقيلولة نهنأ”.

ولما رأيتُ بحراً لم يرَه أجدادي قطّ، قلتُ: ضعني على هذه الحصاة، حبيبي، أفتحْ لك جناحيّ المقصوصين تحت الشمس ككتابٍ تقرأ فيه سرّ العالم وتغفو. وا أسفي، هذا البحرُ لا يكفيني لأغسلَ إكليلي. كلانا لا نعرف سرّ العوم ونخشى الماء، فانسَ واقرأني ودَعنا نعد فجرَ غدٍ. سننامُ هنا الليلةَ يهدهدنا البحر، وسأحلم بك يا فأري، خفاشاً يترنّحُ فوق الموج كبحّارٍ سكران ولا يأكلني.

*

اخرجْ احملني تحت الشمس. نهارنا أشرق، وتوارى عدوّاك: نامَ البومُ وغفَتِ الحيّة.

لا بناتِ عُرس على الطريق لتخطفني، قال حبيبي.

لا سحلية قرب الفانوس لتبلعني، رددتُ.

وثّرَ لي ظهرَهُ الناعم ليحملني، فالعريسُ سريرُ عروسته، وعروستهُ بقوائمها الستّ سريرٌ آخر يحلمُ فيه هواءُ الصبح بنجمة. سريران يسيران على الطريق ويحلمان، وفي موكبنا غبارٌ ذهبيّ هدايا من أقدامِ النحل.

صارحني: عرسنا يدنو. أنتِ في الشمس زرٌ من ذهب، وأنا رماديّ كظلّي: ذا اللونُ بعضٌ مما أهالَهُ أجدادي من رمادٍ على رؤوسهم في فُلك نوح. هل تسمعين مثلي عرساً لا نعرفُ أصحابه؟ أم تراه الجائعُ يهذي؟ لعلّهم أولموا أرزاً ولحماً. سأذهبُ وحدي ولن أتأخّر. سأشبع، وسآتيكِ يا حبّي بما يُشبِعكِ من الأرزّ أخفيهِ لكِ تحت لساني.

مطرٌ كبيرُ الحبات داهمني. لامعةً كعيونِ الفئران كانت حصباءُ الطريق، وعينُ حبيبي ألمعُ من أحداقِ عصافير أتحاشاها وأتوارى إذا كنتُ وحدي. استتَرْتُ بورقةِ تين، واستحمَمْتُ بما انعقدَ من ماءِ السماء في نهاياتِ الغصون.

ولما علتِ الشمس وسكنتْ سرّةَ السماء، عاد حبيبي. أطعمني بفمهِ كالعصفور، واستراحَ من عناءِ الطريق. كانت أظلافُ جواميس قد شقّتْ في الوحل حفراً، جلستُ على شفا حفرةٍ امتلأتْ مطراً، وشهقتُ: هذه نهايةُ رحلتي المشتهاة. ما أصفى هذي المرآة لا تُغرِقُ أحداً. سنبقى هنا، سنوقِد ناراً. بخوري قبقابي أحرِقهُ لأعطّرَ بخشبِ التين هواءَ الحبّ. الآن، أخيراً، سأسرّحُ شعري وأغسلُ إكليلي.
 

عمل لفاتح مدرس
الكاتب: جولان حاجي

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع