تنطوي رواية الكاتبة اللبنانية رلى الجردي «في علبة الضوء» الصادرة عن دار الآداب على موضوعات تاريخية وسياسية واجتماعية، ضمن حكاية إنسانية عن ثلاث سيدات لبنانيات، قصصهن العاطفية، وعلاقتهن مع الإيمان والتغيير.
تصنع الكاتبة رواية غنية، تريد أن تقول فيها الكثير، وربما كلّ ما تعرف، عن الطائفة الدرزية في لبنان. تستخدم خطًا سرديًا رئيسيًا واحدًا، وهو حكاية نور التي تعني ضمنًا حكاية الكاميرا. وما هي الكاميرا في النهاية سوى عينها التي ترصد حيوات الآخرين وتغير أحوالهم؟ يلتئم السرد حول شخصية نور، تظهر شخصيات وتختفي أخرى بما يخدم إيضاح رؤيتها أو تطور بنائها. إلى جانب نور، تبرز شخصيتان نسائيتان تتنحيان عن الحياة المادية وتلجآن إلى عالم روحي. فيما يتصدّع عالم مهيبة الروحي، تبقى سارة واحدة من الشخصيات الراسخة، والتي استطاعت الجردي أن تجعل منها شخصية مرجعية، راحت تلجأ إليها الكاتبة لتجنّب عثرات بناء نص بخط سردي واحد. مع ما تمثله سارة من حضور مختلف لصورة رجل الدين. إذ تبني الكاتبة حبكات عديدة على ثنائيات متقابلة، مثل قرية دير القمر المسيحية مقابل دار شمس الدرزية في الحرب الأهلية، والشيخ فوزي المتعصب الطائفي مقابل سارة المتسامحة التنويرية. كذلك نور تكون في مواجهة دائمة مع أخيها، قبل أن يلمح القارئ نور شخصيةً فاعلة تغزل جلّ الأضداد في مسار من التغريب. إذ إنّها تغادر إلى أمريكا، وتطلّ على ماضيها وماضي فئتها الدينية، إطلالة الباحث الشغوف المنتمي. تدفع الكاتبة عبر تساؤلات شتى بالقارئ إلى المساحة التي تريدها، ليكون النص برمتهِ، سؤالًا عن الانتماءات الضيقة والخيار الفردي مقابل التوجه الجمعي، نصًا عن الرغبات وعبث تحطيمها أو هوس التسليم بها، إنّ الراوي في علبة الضوء هو صوت الشك المُغرّد خارج الصمت واليقين.
تؤسس الكاتبة لحكاية بطلتها نور عبر حكايا تنتمي للمكان الذي نبتت عنهُ، منها سيرة عمتها سارة التي اعتكفت الناس حتى تغلّبت على طبيعتها كأنثى، واعتنقت المسلك العرفاني. وسيرة مهيبة التي باعدت الحرب الأهلية اللبنانية المتمثلة بقريتي دير القمر ودار شمس، بينها وبين يسوع. إثر غرق خطيبها، راحت تصبو بأن تنتمي إلى أهل العرفان لتبقى إلى جانب سارة لكن ما أن ينقطع الحيض عنها حتى تنهار قناعاتها لانعدام فرص الإنجاب، ولتتوفى وهي تهجس باسم المسيح. تمثل كلّ من سارة ومهيبة صراعًا مريرًا مع الرغبات والطبيعة، إذ تنجح سارة في عبور محنتها، ومنح مصيرها الخالص للإيمان. فإنّ خيبة انتظار إشارة إيمانية ما، تهدر عمر مهيبة بامتناعها عن الزواج والإنجاب.
نرى في «في علبة الضوء» كيف تهدر القناعات حيوات الناس، كيف تستعبد الرغبة بعضهم، وكيف يتحرر آخرون بالرغبة نفسها. وبين هذين المثالين تحضر نور، لتمثل الصراعات التي تخوضها، منذ اكتشافها سر الجسد والغريزة برفقة أكرم، إلى زواجها من الشاب العراقي في أمريكا، مثالًا لتيار حر. تشيده الكاتبة في وجه الجميع، إما مواجهةً أو انسحابًا أو احتواءً. فيما نسجت علاقةَ الأبناء العنيفة، استكانةُ الأب وخوفه، وتنكره لماضٍ كان يلمح التغيير فيهِ قريبًا. ومتى ما جاءت ابنته بذلك التغيير، راح يستنكرهُ خشية من مجتمعه. في واحدة من أكثر لحظات الرواية حرجًا تجترح سارة حلولًا، تتركها الكاتبة معلقةً، لتخلص إلى نهاية بارعة وعبثية، تضفي على مشهد التعصب القاتم والموحش سمة ساخرة. إذ فيما يتوقع القارئ بين لحظة وأخرى رصاصة تذهب بنور وزوجها بعد مغامرتهما بزيارة بيروت، يجيء طفل يلتقط صورة لهما، ومن ثمّ يهرب بالكاميرا من أمامهما، لينسل سيل التوتر من المشهد ويتوارى خلف الضحكات الغائمة.
تلقي الجردي على عاتق السرد، من غير أن ترهقه، تحليلًا تاريخيًا وسياسيًا لحال الدروز بين فلسطين ولبنان، عن طريق استقصاء مخطوط مستشرق أمريكي في نيويورك، والبحث عن حقيقة دورهِ في آونة نشوء إسرائيل، الكيان العنصري. تقارب الطائفية في لبنان أيضًا في مسلك العنصرية نفسهِ. تتيح الكاتبة للرواية أن تكون ضمير الجماعة، من غير إضفاء أيدولوجيا محدودة. وفي هذا الحيز بالضبط، يكمن تميزها. تأخذ علاقة نور مع الكاميرا حيزًا من الرواية، إلى جانب اهتمام الكاتبة باستعراض فلسفتها حيال الكاميرا، علبة الضوء، لتبدو قصة نجاحها، بدءًا من استخفاف الآخرين بحلمها، وبالصنعة التي تريد احترافها، مخرجة سينمائية، انتهاءً بالفيلمين اللذين صنعتهما، وبموضوعهما المرتبط بالمكان وأهلهِ، مرورًا بالوقت العصيب الذي صنعت به الفيلمين.
تبدو قصة نور مع الكاميرا قصة قادمة من عالمٍ يشبه الحلم، حدًا يجعل من عالم الواقع أشبه بشريط سينما شفيف؛ عن فتاة خرجت عن المألوف في قرية محافظة من لبنان، قرية تشهد صراعات داخلية كثيرة، ناسها عنيفون ومتعددو التوجهات. تخرج البنت من القرية المحافظة، تمضي حاملة معها التذكار والآمال، لتبحث في مكان آخر من العالم في ماضي جماعتها، تتزوج لتعود وتواجه عدسة كاميرتها، التي ما تلبث أن تُسرق. كما لو أنّ كلّ خروج للصوت المُغرّد عن السرب، كان ابتعادًا من أجل عودة نهائية إليهِ.