منذ ما يقارب الثلاث السنوات. كنت أتصفح عدداً من أعداد مجلة “عالم الكتاب” المصرية، حين كان يرأسها، الكاتب والصحفي المصري محمد شعير، كان القسم المخصص لـ”مراجعات الكتب” داخل المجلة، عنوانه “كتابة على الكتابة”. أعجبني هذا العنوان حينها، وشعرت أن هذا هو التوصيف الدقيق، لما أفعله في شغلي في الصحافة. إذ أن مصطلح “مراجعة كتاب” غير مثير، وغير دقيق، وأشعر في أحيان كثيرة، أن المقالات التي أكتبها، عن الكتب التي تعجبني، ليست بالمراجعة، وفي ذات الوقت، ليست بالتقرير، ولا بالتحقيق، ولا هي دراسة نقدية، أنها بالفعل “كتابة على الكتابة”.
ورغم أننا -كصحفيين- نرضخ أحياناً كثيرة، لقوالب صحفية كلاسيكية، لكن هذا لا يعني أننا معجبين بها. إذ أنني، والكثير من أصدقائي الصحفيين، نمارس عشرات الحيل أثناء عملنا في الصحافة، كي ننجو من أفخاخ التنميط، التي من الممكن أن تصبغ أسلوبنا في الكتابة، ولولا أننا لسنا في عصر انتشار المواقع العربية المستقلة، التي فتحت لنا المجال للعب بحرية مع النص الذي نكتبه كما نحب، وكما نرغب أن يكون، من دون يخضع لعملية ” تحرير”، تدجنه، لكان أغلبنا اليوم إما تخلى عن المهنة، أو رضخ للواقع المرير.
بالنسبة لي، أعتبر ” الكتابة على الكتابة” أو “مراجعات الكتب”، أشبه بالتقاط الأنفاس. بوصفي صحفياً، جزء أساسي من عمله، هو ملاحقة الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية، والكتابة عنها سواءً كانت تقارير، أو تحقيقات، أو مقالات رأي. فوقت القراءة، بالتزامن مع العمل الصحافي اليومي، يتضاءل. ومن جانب آخر، استمرار القراءة، والتراكم المعرفي، مهم جداً، للكاتب، سواء كان أديباً، أم صحافياً.
مع اقتراح أسماء لكتب، للكتابة عنها، للمواقع التي أكتب بها، تصبح القراءة جزء من عملي كصحفي.
وهناك دوافع إضافية، للاستمرار في الكتابة عن الكتب، الشغف في قراءة الأدب، وهو أحد الدوافع الرئيسية. كما أن البحث عن لغة، وأسلوب مختلفين عن السائد والنمطي في الكتابة، واكتشاف تقنيات جديدة في الكتابة الأدبية، هو شيء تتمحور حوله فكرة الكتابة بالنسبة لدي.
ومن جانب آخر، عند قراءة الأعمال الأدبية، وتأمل المواضيع والقضايا التي يتناولها الأدب العربي على سبيل المثال، في فترة زمنية معينة، بإمكان المرء أن يفهم عن قرب، ما القضايا التي يبتعد عنها المؤلفون في أعمالهم، لكي لا تمنع مخطوطات أعمالهم من النشر، أو يرفض نشرها من قبل الناشرين، قبل أن تمر على ” هيئة الرقابة والنشر”.
لغة الأديب، وطريقة عرضه لمواضيع معينة، مثل الجنس والمثليّة والسياسة، تكشف أيضاً، إن كان الكاتب محافظاً، ومتعصباً دينياً، وإن كان لديه نظرة عنصرية تجاه المثليين، أم هو كاتباً ناضجاً، لا يطلق أحكاماً جاهزة على شخصيات داخل عمله.
ظواهر سلبية
في الكواليس، هنالك جوانب سلبية مرتبطة بـ “مراجعات الكتب”. إذ أن بعض الصحفيين لا يرون في “مراجعات الكتب” إلا باعتبارها مصلحة متبادلة، ما بين الناشر والمؤلف والصحفي الثقافي. فالناشر يهمه أن تكتب الصحافة عن الكتب التي ينشرها، ويعتبر ذلك جزءاً مهماً في عملية الدعاية والتسويق لكتبه. وكذلك المؤلف، الذي تلعب الصحافة دوراً في تكريس اسمه، والتعريف في إنتاجه الأدبي، وما يتناوله عمله الأدبي من قضايا مواضيع اجتماعية وسياسية وثقافية. وهذا ليس انتقاداً لهذه العملية، إنما المشكلة هي في اقتصار ذلك على البعد التجاري/الدعائي للكتاب، ونفي جوانب أهم تتعلق بجودة محتوى الكتاب، ووضعه تحت عين ناقدة، وموضوعية.
أحياناً كثيرة تكون دوافع الكاتب الصحفي -ومن خلفه الصحيفة التي يعمل بها- هي إبراز كتّاب معينين دون غيرهم، أو أن الموضوع أبسط من ذلك، إذ أن هنااك اعتقاداً عند بعض الصحفيين أنه من خلال الكتابة عن مؤلفات أدبية، كتّابها يتمتعون بشهرة واسعة، ضمن الأوساط الأدبية والثقافية، هو نوع من الوجاهة، وبناء علاقات وطيدة، تجعل من اسمهم كصحفيين، مكرساً داخل دوائر الكتّاب المشاهير الاجتماعية.
لكن هذا الأمر تحول إلى ظاهرة في عالم الصحافة، وباتت مبتذلة، لدرجة أنْ “تكاثَر” صحافيون يكتبون عن كتب، أكثرهم يميلون لكتابة مقالات مليئة بالمديح والثناء على أعمال أدبية رديئة، أو متوسطة المستوى، ولا تستحق كل هذا الاهتمام. وهذه الظاهرة تطورت، لتكتشف أن هنالك صحفيين لم يكملوا قراءة العمل الأدبي الذي كتبوا عنه مقالاً من ” ١٠٠٠ كلمة”.
في إحدى المرات سألني أحد الزملاء الصحفيين، ما المقال الذي تعمل عليه في الوقت الحالي؟ قلت له أني أقرأ رواية ضخمة (عدد صفحاتها يتجاوز الـ ٥٠٠)، وسـتأخذ وقتاً، لا يقل عن ٥ أيام قراءة. فقال لي بمنتهى البساطة، أنه ليس من الضروري قراءة العمل كله وأردف مازحاً “نحنا رح نحضّر رسالة دكتوراه بكل مقال نكتبه؟!”
وحين تسأل صحفياً مدح في رواية أدبية، لكاتب مشهور، لماذا مدحت في روايته في مقالك، رغم أنها لا تستحق هذا المديح، ورغم أنها مليئة بالمشاكل؟ يجيبك بأنه ليس ناقداً، إنما هو صحافي. لكن هذا التبرير مرفوض، إذ ليس على الصحفي الثقافي أن يكون ناقداً أدبياً، لتكون كتابته موضوعية، ومهنية، إلى حد ما.
يبرر بعض الصحفيين ركاكة لغتهم، وسطحيتها، و”ثقل دمها”، بأن الصحافة باتت “أكل عيش”، أي أن دافعه للكتابة، هو العائد المادي، فقط لا غير. والحقيقية أن التعامل مع الكتابة الصحافية بهذا الشكل، مرهق نفسياً، ويستنزف الطاقة الذهنية والجسدية، وينفرّ المرء من فعل الكتابة بالمطلق. الكتابة في الصحافة قد يكون مصدر الرزق الوحيد للصحافي، لكن هذا لا يبرر له الابتذال والاستسهال. وهذا المنطق بالتعامل مع الصحافة، هو سبب أساسي في انتشار عدوى ركاكة اللغة الصحفية، واستمرار إنتاج محتوى رديء.
الكتابة عن الكتب، عندما يؤخذ على محمل الجد، يتحول إلى عملية بحث دائمة عن أعمال أدبية، يراها الصحفي -من وجهة نظره- تستحق الكتابة عنها. وخصيصاً عندما يكون البحث خارج دوائر الأدباء المكرسين، والمشهورين. إذ أن إحدى الظواهر السلبية أيضاً، هو الاحتفاء بأعمال أدبية، وكتابة مقالات تمتدحها، بعد أن تنال جائزة أدبية، في حين أنها لو لم تنل الجائزة، لتجاهلها الكاتب الصحفي “مُراجع الكتب”، لأن كاتبها غير مشهور كفاية.