الروائيون التونسيون الشباب… أحفاد المسعدي يكملون المشوار

أحمد مجدي همام

روائي وصحافي من مصر

لكن على الرغم من امتداد هذا النسب السردي العريق، إلا أن جيل الكتّاب الشباب في تونس يحتفظ ببصمته الخاصة، لكل واحد منهم خلطته المختلفة، في تونس المعاصرة، تونس ما بعد 2011 وما بعد زين العابدين بن علي. لذلك يسهل رصد حضور "الثورة" في روايات الكتّاب الشباب في تونس، ويسهل أيضًا رصد حضورها في شهاداتهم عن الكتابة.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

03/11/2020

تصوير: اسماء الغول

أحمد مجدي همام

روائي وصحافي من مصر

أحمد مجدي همام

يافعون وثائرون وحالمون. جيل جديد من الروائيين ينبت في أرض تونس، يستقي إرثه السردي من الأسلاف، الجد المؤسس للرواية التونسية الحديثة محمود المسعدي، ثم الأجيال التالية: حسونة المصباحي والحبيب السالمي وحسين الواد، محمد عيسى المؤدب، كمال الرياحي، وشفيق الطارقي…

لكن على الرغم من امتداد هذا النسب السردي العريق، إلا أن جيل الكتّاب الشباب في تونس يحتفظ ببصمته الخاصة، لكل واحد منهم خلطته المختلفة، في تونس المعاصرة، تونس ما بعد 2011 وما بعد زين العابدين بن علي. لذلك يسهل رصد حضور “الثورة” في روايات الكتّاب الشباب في تونس، ويسهل أيضًا رصد حضورها في شهاداتهم عن الكتابة.

يتواكب بزوغ هؤلاء الكتّاب الشباب في تونس مع ازدهار ثقافي وأدبي قائم على عدة أنشطة وفعاليات، فمن جهة، جاءت دار “مسكيلياني”، لتقتحم سوق النشر العربي وتحظى لنفسها بمكانة رفيعة في المشهد وتقدم أسماء تونسية وعربية قيمة، ومن جانب آخر يلعب “بيت الرواية” التونسي بإدارة كمال الرياحي دورًا حيويًا في تنشيط المشهد الأدبي ورفده بالعديد من الفعاليات والندوات وضخ خبرات لأسماء أدبية عربية كبرى في أوردة السرد التونسي. يتزامن حضور هؤلاء أيضًا مع الصراع السياسي الواضح الذي تعيشه تونس بين فريقين، أحدهما إسلامي ينتمي لحركة النهضة، وعلى الجانب الآخر يحضر ممثلو الدولة العميقة وورثة نظام بن علي. مع هامش صغير للمستقلين.

وسط هذا الحراك، تألّق مجموعة من الأدباء التوانسة الشباب بروايات مميزة حظيت بدعم نقدي محلي، و «رمّان» اختارت أن تخصص هذه المساحة، لطرح رؤى وآراء خمسة كتّاب تونسيين شباب حول الكتابة والرواية. 

 

“الانحياز لمن هم تحت”… عبير قاسمي

روائية تونسية من أعمالها «جوليا» صادرة عن Pop Libris Editions

5 سبتمبر 2020، كنت في شارع الثورة بتونس قُبالة وزارة الداخلية أوّقع كتابا يتحدّث عن إسقاط الدولة والنظام البوليسي، وذلك ما تعنيه لي الكتابة- الفعل الثوري الذي يحملُ السخرية والمفارقات والشجاعة. في الواقع، أظن أنني لا أكون شجاعة إلا حين أكتب، ولا أفكّر إلا عبر الرقن على لوحة المفاتيح أو جرّ القلم. حين حدّثني أستاذ أخلاقيات الصحافة في الكلية عن التفكير عبر الكتابة ظننته يُسقط مفاهيم غريبة على درس بسيط لطلبة يحلمون بالشهرة، لكنني الآن بعد التجربة الأولى فهمت ما يعنيه أن أتوقف عن التفكير بشكل دائري فوضويّ وأن يكون ذهني مسارا وخطا مستقيما بدلا عن دوّامة. مرحبا، قرّاء هذا الفصيل الثقافي، أنا عبير قاسمي من تونس وهذه تجربتي. أترون الجملة السابقة، وما تحمله من مباشرتية، هكذا أريد أن تكون كلّ كتبي القادمة.

أن تخاطب مباشرة ودون مجاز وتخييل. بدأت في كتابة روايتي الأولى “مانيفستو” في 2019. جلستُ إلى مكتبي بهدوء وانتقمت من الصحافة الاستهلاكية السريعة التي لا تمثلني. كتبتُ رواية عن الثورة والبلد يلعن ثورتهُ الأولى وثورييه واستطلاعات الرأي تشير إلى صعود ممثلي النظام السابق في نوايا التصويت، النظام الذي شوّه طفولتي وحولني إلى مسخ وكائن لا اجتماعيّ لا يثق بأحد. وجدتُ دار نشر بفريق شاب تقدميّ وكتب لا تحملُ رائحة التفوق الذكوري والهيمنة العُمرية لمن يكتبون بعد سنّ التقاعد، قرؤوا مخطوطي بنفس الشغف الذي كُتب به وأرسلوا لي الموافقة بعد أقل من شهر، وفي 5 سبتمبر 2020 كانت الرواية في المكتبات بعنوان جديد.. “جوليا”، لأنّ عنواني القديم كان موجودا سالفا على غلاف مُؤلّف سياسي نافذ ولم أرد أن يعرفني العالم كسارقة عناوين. 

أحب أن أفكر بالكتابة كصوت، لا كصدى. إنها الهواجسُ الصادقة التي أنطق بها عن وعي بأنها ستجعلني منبوذة لكنني أقولها على أية حال، وأعتقد أن المشروع الحقيقي هو أن نجعل من أنفسنا أمرا مثيرا للنفور والاستغراب ونشاهد القارئ وهو يعيد التفكير بمُسلماته عن الخير والجمال والأخلاق. لا يمكن للكاتب أو الصحفي أن يكون مجرد صدى عن أفكار قديمة ولا يمكنه أن يجتّـر البديهيات أو يقف مع أصحاب الغلبة كالسلطة مثلا، أيّا كانت. عليه أن يكون منحازا لمن هُم تحت، وأن يمنحهم ألسنة وأذرع وأجنحة. لم أحب يوما حصص العربية في المعهد وتحليل النص الروائي وتصنيفه ودراسة البنية والشخوص، وتأكدت وأنا أكتب “جوليا” أنني متحررة من ذلك كلّه، وآمل أن لا أضطر يوما لتحليل كلاسيكي لنوفيلا أردتها أن تلعن كلّ ما هو تقليدي.

لم الرواية إذن ستقولون- لأنني وجدت نفسي أسرد قصة عن المُمكن، وجاءت الأحداث مترابطة وتشكلت الشخصيات وبان السجل الأدبي دون نية مني أن ألج عالم الرواية العظيم الذي شكّل ملكتي الإبداعية. مازلت أظن أنني لا أنتمي إلى ذلك العالم وأنه أشسعُ من “جوليا” وأن له أهله الذين لا يشبهون هذه الشابة الخرقاء. 

أنا لا أعلم أين سأكون بعد 5 سنوات، هل سأواصل الكتابة أم هل سأمر إلى فعل بنّاء آخر، لا أحد يعلم. أكره التوقعات وينتابني القلق من المجاملات التي تتمنى لي أن أصبح كاتبة كبيرة، لا أريد من نصوصي أن تكون مدينة لي بالشهرة لأنني كتبتها، وأظن، أن كل من رمى بوجهي بذلك التعليق لم يفهم ما أردت أن أعترف به في كتابي، أنا ألعن المتسلقين والانتهازيين ولا أسعى لأن أكون منهم، ومن يريد من الكتابة الشهرة والمال هو مجرد متسلق آخر.

لا أرى الكتابة كموهبة، فهي ليست ابنة الصُدف، لا أحد يقول صدف أن كتبت أمرا يستحق القراءة. ليست موهبة أن تقرأ كل ما تطاله يداك لتشكل خزانا من المعاني والألفاظ يكون سندك أيام الظلمة، ليست موهبة أن تكتب وتمحو إلى ما لا نهاية، حتى تجد التعبير المناسب والتركيب الصحيح. الكتابة التزام، مبني على جودة ما شُكّل به زادك اللغوي والفكري وإلا فأنت مجرد قوقعة شاغرة ترتكب فداحة في حق اللغة لتنتج “شيئا” سريعا للاستهلاك (وهم لعمري كثيرون جدا) لا يمكننا وصفه بالأدب. يوجد من اختار أن يكتب للمراهقات وأن يبيعهن حلم الفارس القادم من الشرق، يوجد من اختارت أن تكتب باللهجة الدارجة عن الرومانسية المبتذلة، يوجد من اختاروا أن يكتبوا عن الجنس، عن التنمية البشرية، عن الطعام، عن الدين – عن أيّ هراء يزيد من المبيعات، وهم أحرار، أغبياء، لكن أحرار. أنا أؤمن أن الكاتب يجب أن يكون ملتزما بقضية وممتلئا بالعالم، وواعيا بمسؤوليته الاجتماعية، وأيّ تيار آخر فهو تيار هدّام.

 

“إعادة تشكيل تونس”… محمد الحباشة 

روائي تونسي من أعماله «رجل شارع روما» الصادرة عن هاشيت أنطوان – نوفل

الكتابة الروائية هي فعل في الزمان وفي المكان وما تنتجه فيهما الحياة الإنسانية من أشكال عيش متعددة. من هذا المنطلق، لا يمكننا أن نكتب بانفصال عما يحدث حولنا، وكذلك.عما يحدث فينا، وفي دواخلنا ككتّاب نحمل هواجس فردية وأحاسيس متناقضة أحيانا وسوداوية. من هنا، ومنذ روايتي الأولى “خلدون ميشال” المنشورة سنة 2015 وصولا إلى روايتي الثانية “رجل شارع روما” المنشورة سنة 2018، أؤمن بأن الحياة الخاصة للأفراد تتقاطع بشكل أو بآخر مع الحياة العامة، وهذه تؤثر في الأخرى دون شك.

تكون الشخصيات دوما هي المحرك الأساسي بالنسبة لي، إذ تبدأ بالتشكّل فجأة ودون سابق إنذار، وقد تتسبب في إصابتي بالأرق ليال طويلة. وهي شخصيات قد تحمل الكثير من مواصفات أشخاص أعرفهم في الواقع، وقد تكون شخصيات مبتكرة تماما ولا توجد في الواقع بتاتا، وفي معظم الأحيان تأخذ من الخاصّيتين. أذكر أنّي في رواية “رجل شارع روما”، كنت أمرّ يوميّا تقريبا بنهج الدبّاغين بتونس العاصمة، لأزور محلاّت بيع الكتب القديمة، دون أن يسمح لي جيبي المفلس في تلك الفترة وأنا طالب بأن أقتني الكثير منها. أثار انتباهي في الأثناء وجود رجلٍ غريب، يجلس أمام محلّ لبيع الموادّ الحديديّة، هندامه رثّ، شعره أشعث، قصير وسمين، تتوسّط رأسه الكبير صلعة، وما أثار انتباهي هو وجود قطط كثيرة داخل المحلّ، الخالي تقريبا من أيّ موادّ حديديّة، وانبعاث الرائحة الكريهة منه.

من هناك، جاءت شخصية عيسى النجار تحمل تقريبا كلّ هذه المواصفات الجسدية، مع ولعها بالقطط، ولكني جعلته صانع توابيتٍ في الرواية. كانت مثالا على شخصية تجمع بين الواقعية والابتكار. وبحكم تفكيري المتواصل في هذه الشخصيات فإنها على نحو مّا، تبدأ بالتشكل روائيا في ذهني. وتأخذ مسارها الذي تريده، وتربط علاقات غامضة – واضحة، بعضها ببعض، تماما كالعلاقات التي أراها تحدث في الحياة. وفي مسار تشكلها فإن هذه الشّخصيات تحمل بذور نموّها وبذور تلاشيها وتفكّكها. إنها تتشكل بهشاشتها وتناقضاتها، بخيرها وشرها، بسذاجتها ومكرها، بلطافتها وبذاءتها، بعمقها وسطحيتها. وبتشكّل هذه العلاقات فيما بينها، تتشكل الحكاية والحبكة ومآلاتها.

من هنا يصبح هاجسي كروائي هو إعادة تشكيل تونس وفق النمط الذي أريده. إعادة تركيب البلاد وهي تعبر مرحلتين، من الدكتاتورية مرورا بالثورة وما بعدها. وفي عبورها، وجد المجتمع التونسي نفسه أمام المرآة، ورأى وجها قبيحا جدا وسوداوياً، بنخبته وعامة شعبه. وفي هذا التحول هناك أحلام تضيع وآمال تتحطم وهاوية تتشكل للفرد كل يوم بشكل جديد.

 

“يوجد الكثير كي نرويه”… سوسن عوري

روائية تونسية من أعمالها «فندق نورماندي» صادرة عن دار ׂ«نقوش عربية»

لا أتذكر بوضوح من أين بدأ شغفي بالكتابة إلا أنني منذ الطفولة كنت أميل إلى تدوين يومياتي، تدوين الأحداث الصغيرة الساذجة التي تحدث في حياتي كل يوم، كنت أدون كل شيء بدءا من ملامح معلمتي الأربعينية بالمدرسة وصولا إلى روائح الطعام المتسللة من بيوت الجيران كل مساء، كنت أحب أن أدون الأشياء فأكسبها خلودا لا ينضب.

لم تكن الكتابة حلم طفولة بالنسبة لي إلا أن الانفراد بالورق صار فيما بعد لذة ماكرة تجذبني إليها بجموح وحكمة، لقد وجدت متعة حقيقة في الهروب إلى بياض الورق، إلى امتداده، وصمته.

عالم صامت وشاسع لا يشوب بياضه شيء، عالم أملأه بما أريد، فقط أنا!! لعل الكثير منا يفضل بوح القلم للورق على بوح الإنسان لأخيه لأن الورق مرعب في صمته، لأنه لا يرد الفعل لا يصرخ ولا يلاكم ولا يهاجم ولا يلعن أخطاءنا البديهية بل يواصل مزهدا في صمته. كانت هذه أولى الدروس التي تعلمتها من دفاتري الورقية، الصمت كإجابة.

 طبعا ليست هذه الحقيقة الكاملة وراء اعتناقي لدين الكتابة، غالبا ما أجزم أن كل الرغبة التي تثيرني كي أكتب سببها “الشغف بالتيار” أو “الميل إلى الحركة”، فكل تيار يؤدي إلى ثورة وكل حركة تولد فعل تمرد وفي الحالتين النتيجة المنشودة واحدة.. إنما هي الحرية!! أكتب لكي أحرر الحروف، التي ملت تعسف الإنسان عليها بفلسفته المتعالية. لم لا نخرس معانينا الكثيرة مرة واحدة ونصغي لما تريد أن تبوح لنا الحروف؟؟ للحروف أيضا رسائل وقضايا ورهانات إلا أن أنانية الإنسان لا يمكن أن تحتويها.

القلم هو سلاحي الوحيد أمام المجتمعات الذكورية المحافظة على التخلف والجهل والتعصب بوفاء جيل بعد جيل لذلك أكتب وأدعو كل النساء في كل المجتمعات العربية أن يكتبن، أن يحلمن، أن يشككن، أن يسخرن من مخاوفهن، أن يرقصن على وقع طابور المستقبل!! 

الكتابة مجهر ومشرط في آن واحد، عندما أكتب أتعرى من الأشياء التي تلتصق بجلدي طواعية في حين أني لا أريدها، أجرد المجتمع من الزيف المحيط به فيضحي شفافا لامعا تحت ضوء الشمس. لعل كل شعوب الربيع العربي تخلت وتعرت من أشياء كثيرة عندما خرجت بصوت واحد إلى الشوارع منددة بالحرية، نحن أيضا شباب الربيع العربي حلمنا بالتغيير كل منا على طريقته، بعضنا حلم بكتابة تدوينة دون أن ينام ليلتها خلف القضبان وآخر حلم بطعم رغيف واحد خارج القضبان، كلنا اشتركنا في المطالبة بعالم أفضل تكون فيه حرية التعبير واقعا لا تصريحا تلفزيونيا مراوغا. 

فكرة أن لا أملك شيء أكتبه، أن لا أملك شيئا أخبر به الآخرين هي فكرة مرعبة بالنسبة لي، ففي كل يوم يوجد الكثير كي نرويه، توجد الكثير من الغرابة في هذا العالم التي تستحق النبش والاحتفاء. توجد العديد من القصص التي لم تُحكَ بعد والتي أستمتع بأن أساهم في جزء منها. أخيرا أظن أن الكاتب لا يولد كاتبا فهو نتاج كل ما مر به وما سمعه من حكايا ومعجزات وحقائق وأكاذيب في محطات مختلفة من حياته، طبعا الممارسة تساعده فهي أم المهارات، القراءة أيضا عنصر ضروري فكل كاتب جيد هو بداية قارئ جيد. الكتابة مغامرة وقودها الألم ولا مخرج من دوامتها.

 

“أقطّع روحي على الشخصيات”… أماني مسعودي

روائية تونسية من أعمالها «بيلادونا» صادرة عن دار «الأمينة للنشر»

من الجيد أن تختار عالمك بنفسك… 

كل ما عليك فعله هو الهروب إلى عالم آخر، تبنيه على مهل، تختار سكانه، تحدد زمانه ومكانه وكانت الكتابة العالم الأنسب لهذا الهروب، لم يكن بوسعي تحمل كل هذا الجنون فقررت أن أهذي به على ورق، أو على آلة أترك على مفاتيحها بصماتي دون الخوف من ترك جريمة في كل ركن أهرب إليه، لم أحلم يوما بأن أكون كاتبة لكني في المقابل أكتب كل ما أحلم به وأكتب لغاية الاستمرار في الحلم، لا أسعى إلى تحقيق شيء، لا شهرة ولا مال ولا لقب يضاف إلى مسيرتي، كل ما أردته، أن أكتب فقط، أن يتركني العالم بسلام، لأكتب، لا أعرف إلى أين ستقودني الكتابة ولكنها حب والحب لا يقود إلا للجنون وسأكون سعيدة لو أصبحت يوما مجرد شخص يهذي فنحن نكذب في كل الأوقات إلا وقت الهذيان لا نقول غير الحقيقة، فطوبى لمن تقوده الكتابة إلى الحقيقة 

في الواقع، أنا لا أشعر أني أكتب فقط وإنما أبني عالمي الخاص، الشخوص في كتاباتي كائنات حية أهب كل منها جزء من روحي، وأستمتع، أستمتع كثيرا بتقطيع روحي حتى تظل ساكنة في كل شخصية روائية من شخصياتي، هذه الروح التي ثقلت علي، كان علي أن أجد من يستحق أن يشاركني إياها.

بعد نشر روايتي الأولى أصابتني الكآبة، شعرت أني اعترفت بذنب أمام الجميع، كنت أحضن نسخا من الرواية وأمضي في طريقي كما تمضي أم عزباء بطفل غير شرعي، نعم، من يصدق أن أحدهم جعلني أشعر بأن روايتي عار، لكن ذلك الشعور الغريب سرعان ما اختفى حين أدركت أنه لم يكن عاري، بل كان عارهم، وأغضبهم أنني واجهتهم به في لحظة هذيان على آلة تحمل بصماتي، دون الخوف من اكتشاف الجريمة..

مررت بلحظات ظننت أنها الأخيرة، وحدها الكتابة حولتها إلى بداية جديدة، في كل مرة أمسك فيها القلم، كنت أنقذ نفسي من موت ما، أنا ممتنة كثيرا للكلمات فهي تأخذ بيدي في كل مرة يفلتني فيها العالم. العالم الذي كان يتخلى عني دائما، قررت أنا التخلي عنه في كل مرة أكتب فيها.. 

 

“أشرّح نفسي”… ياسين بوزلفة

روائي تونسي من أعماله «حلمنا الأول» صادرة عن دار ׂ«نقوش عربية»

الكتابة، خطّ الحروف، تكثيف المقاصد وإبراز المعاني، ترجمة الأفكار وإيصال الرسائل. ذاك وأعظم. في الحقيقة لا يعني لي الكثير بقدر ما للكتابة نفسها من التباس في المفهوم وغموض عند الحضور.

نعقلها ولا نفهمها، كما لا نقدّرها حقّ قدرها، ليست لها معي بداية كما لن تكون هناك نهاية، هي معي فقط، هكذا ببساطة تواجدنا اتّحادا في نفس المكان والزمان ولا فكاك. لا أدري، أدوامُها من قبيل جميل التنفّس أو تعايش مع مرض عُضال؟ 

أنا وهي في علاقة عقوق متبادلة، كريمة معطاءة في زواياي بحسن الحكايا وغزير النوايا، خبيثة قميئة حين تخذلك وتأبى الخروج والظهور، فلا ترى في الولادة شموخ بل قتل مقصود. أبتغي التمعّن من دقائق أسرارها كما تمكنت هي من طُرُق الأيّام  المتشبعة  في مسيرتي البائسة. هل هي مسار داخل الثنايا المتداخلة بإشكالياتها؟ أم انبرت في عالم مستقل خاص بنا معا تتفيها للباقين أجمعين، تقودني وآمرها، أرغب بها، تُمتّعني فننتشي معا وربّما ننتهي لنبحث من جديد.

الكتابة مُغيّرة متغيّرة، متمرّدة متعجرفة، متجاسرة متحاملة، لا ترضى التصنيف ولا تقبل التحديد. ليست بلسم للجروح المفتوحة ولا حل للعاهات المنثورة، لا تحضر بسبب ولا تغيب بندب، تتوالد الأفكار بها ومنها وتغرق في ظلال البحر الميت، ربّما تستطيع معالجة أسقام الحياة ومعضلات المجتمع، ربما بإمكانها تعرية المدفون وتنقية الممسوس، ربّما تدرك زوايا ومداخل لم تكن لتصلها دونها، ربّما ..

لكن ليست لهذا وُجدت، ليس لإرضاء الغرور أو هروب من كابوس قابع، ليست ملء فراغ أو سدّ رغبة، ليست صنّارة  جوائز و لا لجذب النفوس، ليست طيران في الخيال ولا غوص في الآلام، ليست يد سلام أو ملجأ أمان، و لا سلاح حرب ولا أداة قمع، ليست لتليين العقول المتكلّسة ولا لتغليظ الذوات المائعة، ليست سلّم للطموح ولا لطمية للجنوح. ليست هدما للأفراح ولا بناء للأتراح، ليست خالدة ولا تريد الفناء، هي كلّه ولاشيء، لا تحبّ أي دخيل. هل في العقل موضعها أو في الفؤاد متقلّبها؟ هل هي ربّان دون بوصلة؟ أو تخلّص من الأدران وحوصلة؟

لا جديد فيها أو قديم، لا ذكاء ولا غباء، الكتابة هي تشريح لنفسك التي تجهلها وستبقى تُنكرها، إنّها الطبيعة كالأكل والنوم، في جزئها البديهي الرائع، حيث الأمور تكون بخير حين لا تكون كذلك فعلا.

لا أريد فهمها، إذ أني متيقن أنّ لحظة فهمي لها هي لحظة فراقنا. هي هي، هي لها، هي لي.

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع