لا يزال لإدوارد سعيد بعد مرور سبعة عشر عامًا على وفاته حضور فكري قوي في الخطاب الأكاديمي والعام، وهي حقيقة يشهد عليها ظهور كتابين جديدين مهمين عنه. “ما بعد سعيد” حرره بشير أبو منّه وهو تقييمات لمجموعة واسعة من رواد منحة سعيد الدراسية وهم عشرات من الكتاب والأكاديميين المرموقين. والأعمال المختارة لإدوارد سعيد 1966- 2006 حرره مصطفى بيومي وأندرو روبين وهما طالبان سابقان له، وهو نسخة موسعة من “قارئ إدوارد سعيد” والذي نشر قبل سنوات قليلة من وفاته عام 2003.
قدم لنا “قارئ إدوارد سعيد ” صورة كاملة لاتساع نطاق سعيد وتأثيره كمفكر عام. المجموعة الجديدة أطول بأكثر من 150 صفحة وتتضمن ثمانية مقالات لم تظهر في المجلد السابق، بالإضافة إلى تمهيد جديد ومقدمة موسعة. وتتراوح المقالات التي تم تضمينها حديثًا بين الهجمات السياسية العلنية إلى تأملات حول “الأسلوب المتأخر” في الموسيقى والأدب والذي نُشر بعد وفاته. يعكس بعضها مثل “فرويد وغير الأوروبي” اهتمامات شغلته في آخر حياته وهو من بين أكثر كتاباته تعقيدًا ودقة. وتذكرنا مقالات أخرى بمدى اتساع قاعدة قرائه ومدى اتساع اهتماماته وكم كانت أفكاره ثاقبة. إلى جانب تأملات حول أعماله الرئيسية في “ما بعد سعيد” فهي تمنح القارئ أيضًأ إحساسًا باتساق سياساته المشبعة بإنسانية عالمية وكوزموبوليتانية والتي كانت في مركز كتاباته الأدبية والسياسية.
ليس من المستغرب أن الكثير من الناس مازالوا يقرأون ويتصارعون مع أفكار سعيد. تضم أعماله الواسعة 25 كتابًا. العديد منها تعد نفيسة في مجالها مثل “الاستشراق” و”الثقافة والإمبريالية”. لقد كان الأب المؤسس لمجال أكاديمي كامل -دراسات ما بعد الاستعمار- والذي ازدهر على الرغم من وجود مسافة انتقادية معينة تجاهه لارتباطه بأبيه الفترَض. كان سعيد خلال الأربعين عامًا التي قضاها في جامعة كولومبيا معلمًا للعديد من الطلاب الذين يشغل العديد منهم اليوم مناصب بارزة في الأدب وأقسام أخرى في جميع أنحاء الأكاديميا الأنجلو أمريكية كما يمتد تأثير منحته الدراسية بعيدًا تاركًا بصماته على دراسة الشرق الأوسط والأنثروبولوجيا وتاريخ الفن. لا يزال الاستشراق بعد مرور 42 عامًا على نشره أكثر أعماله تأثيرًا ويُدرس على نطاق واسع لطلاب البكالريوس والدراسات العليا في جميع أنحاء العالم.
على مدى تلك العقود الأربعة أصبح سعيد على الأرجح أبرز مفكر عام في جيله وأنتج ثروة من المقالات والموضوعات والمقابلات الطويلة (حول كل شيء من سياسات الشرق الأوسط إلى الموسيقى الكلاسيكية والتحليل النفسي) وكتب لجمهور عريض من القراء العاديين بالإضافة للكتابة لأقرانه الأكاديميين. تراوحت مشاركاته العامة من الشؤون المعاصرة إلى النقاشات حول تاريخ الإمبراطورية لكنها كانت أكثر وضوحًا فيما يتعلق بفلسطين. قدم سعيد من خلال كتاباته وظهوره الإعلامي ونشاطه أكثر من أي شخص آخر لجعل قضية فلسطين مفهومة بشكل أفضل في أمريكا الشمالية. على الرغم من أن هذا التأييد أكسبه الكثير من المعجبين في الولايات المتحدة وبقية العالم بما في ذلك بين الفلسطينيين إلا أنه أكسبه أعداء أقوياء أيضًا في الأكاديميا ووسائل الإعلام وأماكن أخرى. ومع ذلك وبعد ما يقرب عقدين من الزمان على وفاته فمن الواضح أن عداوتهم لم تفعل سوى القليل للتقليل من إرثه أو مدى مُباشرة وأهمية أفكاره.
ولد إدوارد سعيد في فلسطين التي كانت تخضع للحكم البريطاني ونشأ في القاهرة في وقت كانت فيه مصر مستقلة اسميًا. تلقى تعليمه في البداية في نظام تعليمي تميز بعمق تأثره بالاستعمار البريطاني. واسم مؤسسة النخبة التي طُرد منها “كلية فيكتوريا” يخبرنا كل شيء فقد كان يعاني ليندمج بينهم، وأمضى أجزاء من شبابه في لبنان وفلسطين. فقدت عائلته الميسورة منازلهم وأعمالهم التجارية وممتلكاتهم في القدس نتيجة النكبة عام 1948 وعلى الرغم من أن الشاب سعيد قد تخفف إلى حد ما من العواقب المادية لهذا إلا أن هذه الأحداث كان لها تأثير كبير عليه – كما فعلت البيئات السياسية والاجتماعية والثقافية الاستعمارية الجديدة التي نشأ فيها-.
أُرسل سعيد إلى الولايات المتحدة لإكمال تعليمه الثانوي في مدرسة إعدادية في نيو إنجلاند والتي تخرج منها عام 1953 ثم التحق بجامعة برنستون حيث درس تحت إشراف الناقد والشاعر آر بي بلاكمور وأكمل درجة الدكتوراه في هارفارد. وكتب عن زميله في المنفى جوزيف كونراد. كان سعيد في جميع المقاصد والأغراض باحثًا تقليديًا إلى حد ما في تلك المرحلة، وفاز بمقعدٍ يعدّ مُبتغى لآخرين في قسم الأدب الإنجليزي والمقارن في كولومبيا في عام 1963 ونشر كتابًا عن كونراد وعنصر السيرة الذاتية في رواياته. لكن الأحداث العالمية -ولاسيما الحرب الإسرائيلية العربية عام 1967 – شكلت لحظة تحول بالنسبة له. بعد أن شاهد هذه التطورات من بعيد في نيويورك ولبنان خلال فصل الصيف مع عائلته، توصل إلى إدراك الانفصال بين ما كان يحدث في الشرق الأوسط وكيف تم تصويره في الغرب. هذا الإدراك كان مصدر إلهام لكل الأعمال التي تلت ذلك: أولًا مع الاستشراق والذي نُشر عام 1978 ثم مع سؤال فلسطين في العام الذي تلاه.
إن ما جعل كتابات سعيد مفهومة للغاية لغير المتخصصين هو كيف وسعت حججه آفاقنا وكيف تحدى افتراضاتنا باستمرار. لقد فعل ذلك شخصيًا أيضًا – في أحاديثه مع الأصدقاء وفي المحاضرات وفي الندوات المليئة بالطلاب المتنبهين. عرّفني شقيقي الذي كان طالبًا في جامعة كولومببيا على سعيد في السنوات التي تلت عام 1967 حين استوعبنا جميعًا الصدمة وعواقب حرب تلك السنة. سرعان ما اكتشفت أنه بقدر ما كان من الممتع القراءة لسعيد فقد كانت متعة الاستماع إليه أعظم. كان المرء ينجذب لأحاديثه واسعة النطاق حول الأدب والموسيقى والفلسفة وعلم اللغة والسياسة وكانت كلها مضاءة بإحساسه غير العادي بالإلحاح و الذي بدا أنه كان يدفعه منذ وقت مبكر جدًا. تأثر نطاقه الواسع وتطبيقه لتلك المعرفة في التاريخ والسياسة بالتزاماته الشخصية القوية مما جعل عمله أكثر ثراء وإثارة للاهتمام من عمل أي منظّر أو عالم أدبي آخر كتب في الأكاديميا الأنجلو أمريكية. جزء من جاذبيته الدائمة في الواقع هو أنه يواصل الحديث إلينا بذات الطريقة تقريبًا بمزجه معرفتة الإنسانية الواسعة ومتعددة التخصصات مع وعيه بالاهتمامات العالمية الملحة.
تُقدم مقالة سعيد التي كتبها عام 1977 “حول القضايا الخاسرة” المنشورة في الأعمال المختارة مثالًا رائعًا على ذلك. فهي تبدأ بتقديم تأمل ممتد في أربع روايات متأخرة لميغيل دي سيرفانتس وجوناثان سويفت وجوستاف فلوبير وتوماس هاردي ثم تتقدم وتقدم نقدًا لامعًا لاتفاقات أوسلو باعتبارها هزيمة للفلسطينيين وهو ما دفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأن فلسطين كانت قضية خاسرة. المقالة مليئة بشعور الكآبة، يعلم القارئ أنه بالكتابة عن روايات هؤلاء الكتاب كان سعيد يكتب مقالًا يعد من بين أعماله الأخيرة. عكس خيبة أمله من نتيجة النضال التحرري الفلسطيني في أواخر التسعينات من خلال التشاؤم المرير لسرفانتس وسويفت وفلوبير وهاردي وقدم سعيد تقييمًا أكثر إشراقًا لمشهد ما بعد أوسلو أكثر مما قد يقدمه أي مقال سياسي عادي. وقد فعل ذلك وهو يسلط الضوء على الروايات الأربعة أيضًا. عدد قليلٌ جدًا من نقاد الأدب وأساتذة الأدب كتبوا بهذه الطريقة في ذلك الوقت وعدد أقل منهم يفعل ذلك اليوم.
تعرض أفضل المقالات في كتاب “ما بعد سعيد” المتقن ذات المزيج من الطلاقة الأدبية والحدة السياسية. تؤكد مقدمة بشير أبو منّة بذكاء على مركزية السياسة في نقد سعيد وفي حياته المهنية بأكملها – وهو حكم تؤكده القراءة المتأنية للمقالات الثمانية الجديدة في الأعمال المختارة. يساعدنا أبو منّة على فهم التطور السياسي لسعيد بشكل أفضل، مُشيرًا إلى تأثير حرب 1967 عليه وعلى جيل عربي بأكمله وكيف دفعته إلى الكتابة السياسية العلنية حول فلسطين والشرق الأوسط. ويضيف أبو منّة أن هذا التأثير “أثر على كل ما فعله سعيد بعد ذلك” مما دفعه إلى أن يصبح من “أكثر منتقدي الإمبراطورية الثقافية تأثيرًا في جيله” و “مُدافعًا عن المُستعمَرين والمضطهدين” وكل ذلك استنادًا إلى مبادئه الصارمة المناهضة للإمبراطورية”.
شكلت هذه اليقظة التي تلت عام 1967 تحولًا ملحوظًا لناقد أدبي مدربٍ تقليديًا قدم كتاباه الأولان “جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية” وكتاب “بدايات: النية والطريقة” القليل من المؤشرات لما سيأتي”. أثار التوجه السياسي الجديد لسعيد غضب العديد من معاصريه ولاسيما أولئك الذين أساء إليهم من خلال دفاعه عن القضية الفلسطينية وانتقاده الإمبريالية الأمريكية وكذلك أولئك الذين كرهوا إصراره على أنه إذا كان للنقد الأدبي بل وللإنسانية قيمة فيجب أن يتم غرسها مع تقدير السياق والعالمية والمخاطر السياسية لجميع أشكال التعبير الثقافي. من خلال مطالبته بالسماح للفلسطينيين “بسرد” تاريخهم الخاص على حد تعبير آخر من مقالاته الشهيرة، تحدى سعيد رواية مهيمنة صيغت على مدى عقود عديدة استبدلت فلسطين بإسرائيل وتجاهلتها تمامًا أو شوهت سمعة الشعب الفلسطيني بشكل منهجي. وبذلك أعاد سعيد فتح قضية فلسطين التي كان يأمل معارضو حقوق الفلسطينيين أن تُغلق للأبد. لم يتمكنوا من مسامحته أبدًا على هذا وطاردته عداوتهم لبقية حياته – ولاتزال حتى وهو في قبره.
على الرغم من أن نقطة التحول في تفكير سعيد كانت مدفوعة بحرب 1967 إلا أنها ظهرت لأول مرة في سلسلة من المنشورات في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات مع ظهور كتاب “الاستشراق” و”مسألة فلسطين” و”تغطية الإسلام”. في أعمال سعيد السابقة يمكن للمرء أن يميز بعض السمات التي جعلت كتاباته اللاحقة قوية للغاية. على سبيل المثال كان تعاطفه المبكر مع كونراد والتماثل بينهما بمثابة اعترافٍ جزئي على الأقل من أحد المنفيين متعددي اللغات عبر كتاباته بلغة لم تكن لغة سعيد الأم بأوجه التشابه في مسار منفى آخر. شعر سعيد مثل كونراد أنه خارج المكان بطريقة ما وليس مصادفة أنه كان عنوان مذكراته لعام 1999 ، كان سعيد مثل كونراد أيضًا على دراية تامة بالعالم خارج عالمه المباشر. أثبت هذا الشعور بالاغتراب والعالمية أنهما مزيج قوي وسمحا له بتبنيّ مجموعة وجهات نظر أوسع بكثير وأكثر تنوعًا من نظرائه. كان بإمكانه رؤية ما لم يستطع الآخرون المتجذرون في “الغرب” رؤيته – لاسيما فيما يتعلق بالثقافة الغربية.
كان اغتراب سعيد وعالميته في مركز تعقيد وثراء عمله، فمنحاه وعيًا أكثر حدة وتعاطفًا مع الثقافات الأخرى وأثاروا في داخله ازدراء واضحًا للعصبية المحلية الوديعة وازدراء تجاه من يفتقرون التأمل من أحاديي اللغة من الشخصيات البارزة في الأكاديميا الأمريكية. على الرغم من أنه تشارك الصف والخلفية التعليمية مع العديد من أقرانه فقد أصر على أن نرى ما وراء الحدود الضيقة للبرج العاجي وثقافة المرجعية الذاتية للغرب. وبينما عبّر عن هذا الموقف النقدي بشكل بارز في الاستشراق فقد ميز هذا الكثير من أعمال سعيد الناضجة النقدية والسياسية. في أحد عروضه الأخيرة “العودة إلى فقه اللغة” (ما أسماه الفرع التعليمي “الأكثر حداثة” ) استند في تحليله الواسع إلى الإحساس بالمخاطر الأكبر للحظة سياسية محددة : الحرب على العراق ونبذ وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت العرضي في عام 1996 لآلاف القتلى العراقيين في ذلك العقد نتيجة العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة.
دمج سعيد بمهارة الفلسفة والأدب مع النقد السياسي. على الرغم من أن كتاباته السياسية يمكن أن تكون فظة ولاذعة فقد كان غالبًا ما يستخدم مشرطًا حادًا في نقده ويفعل ذلك بأناقة وحماسة. أفضل المقالات في “ما بعد سعيد” تفعل الشيء نفسه وغالبًا ما تستخدم التحليل الأدبي لإبراز نقاط سياسية دقيقة. في الوقت نفسه يتجنبون التقديس السائد للأسف في العديد من الأعمال حول سعيد. يتساءل كل من أبو منّة في مقدمته وروبرت سبنسر في “الاقتصاد السياسي وحرب العراق” حول عدم وجود أساس للاقتصاد السياسي في كتابات سعيد عن الإمبريالية بشكل عام والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بشكل خاص على الرغم من قيامهما أثناء ذلك بالتأكيد على القيمة الدائمة لتدخلاته.
ويقدم “الإرث المزدوج للاستشراق” للكاتب فيفيك تشيبر كذلك واحدًا من أكثر العروض حدة وإنصافًا لعيوبه و يعتبره مع ذلك “كتابًا عظيمًا”. على الرغم من أنه يشير إلى المسافة بين “التزام سعيد العميق بالإنسانية والحقوق العالمية والعلمانية والليبرالية” وبين التنصل أو على الأقل تشكك نظرية ما بعد الاستعمار تجاه هذه القيم، فقد كتب شيبر أن الاستشراق “تنبأ وبالتالي شجع بعض المعتقدات المركزية لدراسات ما بعد الاستعمار”. في حين وفر تحليل سعيد نقدًا معقدًا للإمبريالية للتيار السائد يلاحظ شيبر أنه غذى نهجًا أضعف هذا النقد بإزالته للأبعاد الاقتصادية – وهي النقطة التي تمثل أحد النصوص الفرعية الرئيسية في هذه المجموعة. على الرغم من أن سعيد هو أحد أشد منتقدي الإمبريالية في هذه الحقبة إلا أن تحليله يفتقد إلى وجود أساس في الاقتصاد السياسي وهو فشلٌ سلب نقده بعض قوته المحتملة وأعطى الإذن لأتباعه من مدرسة ما بعد الاستعمار بالابتعاد عن الماركسية.
كما أن التحليل الذي قدمه شيموس دين في مقالته عن الثقافة والإمبريالية يتسم بالذكاء. متعاطفًا مع التزام سعيد تجاه فلسطين وقراءته اللاذعة لنهب الإمبريالية ومعارضته للحرب الأمريكية على العراق إلا أن دين يتتبع بعض أوجه القصور في موقفه الغامض تجاه العنف ضد الاستعمار. بمقارنة وجهات نظر آراء سعيد مع آراء فرانز فانون يشير دين إلى “غموض إرادي حول مسألة العنف” في جميع كتابات سعيد.
في محاولته لفهم سبب عدم ارتياحه للكتابة بتعبيرات أكثر مباشرة عن السؤال المزعج المتمثل في العنف ضد الاستعمار، يلاحظ دين أنه من المحتمل أن سعيد كان “معرضًا لخطر شديد” لأنه عاش في بلد فيه تحيز شديد ضد المسلمين والعرب وخاصة الفلسطينيين قاد (ولازال يقود) الكثيرين إلى تصنيف أعمالهم العنيفة على أنها “إرهاب”.
يفكر دين بنفس القدر في تحليل اعتراض سعيد فيما يسمى بالحروب الثقافية نحو نهاية الثقافة والإمبريالية، محاججًا بأنه من خلال تركيزه على مثل هذه المسألة التافهة أفسد خاتمة كتابه الرائد. يلاحظ دين في النهاية ببعض من السخرية أن جهود سعيد “لجذب الأكاديميا الأمريكية بأدوات الثقافة” لمعارضة الإمبريالية كانت غير مثمرة مثل “تملق قطة لإقناعها بقيمة الإيثار”.
إذا كانت العديد من المقالات في “ما بعد سعيد” تنطوي على مشاركة متعاطفة ولكن نقدية في كثير من الأحيان لأعماله، فهناك العديد من المقالات التي توسع أيضًا قوة أفكاره ورؤيته السياسية. تشير لورين جودلاد في كتابها “سعيد وعالم روايات القرن التاسع عشر” بأن النقاد اللطفاء أيضًا أشاروا إلى أن كتاب الثقافة والإمبريالية غالبًا ما فصل أسئلة الإمبراطورية عن تلك المتعلقة بعولمة رأس المال، لكنها بعد ذلك تكتب حجة مقنعة بأن الكتاب لا يزال يؤدي خدمة كبيرة بمساعدته على “إبطال الخصائص الإقليمية ضيقة الأفق” للأدب والثقافة الأوروبية. مهما كانت العيوب الموجودة في فهم سعيد غير المادي للإمبراطورية- مثل تأكيده أن الإمبريالية مدفوعة بـ”التزام ميتافيزيقي تقريبًا للحكم” فهو لا يزال يسلط الضوء بقوة على موضوع كان غائبًا عن معظم الدراسات السابقة للروايات الأوروبية.
بالقيام بذلك لم يتحدى فقط المركزية الأوروبية المتعجرفة التي استمرت في الأكاديميا حتى يومنا هذا ولكنه أيضًا أعاد توجيه انتباه قرائه نحو سياسة يمكن أن تساعدنا على تجاوزها. كما لاحظت جين مويفيلد في مساهمتها في المجموعة سعى سعيد إلى تعزيز “نزعة إنسانية قادرة على الهروب من جشع المركزية الأوروبية” وهي ليبرالية يمكن أن تواجه ميلها إلى معاقبة “الدمار والموت للمدنيين البعيدين تحت راية إمبريالية حميدة”.
يقدم جو كليري مثل جودلاد وموريفيلد حجة مقنعة لما يفتقده بعض نقاد سعيد بمقالته “سعيد: دراسات ما بعد الاستعمار والأدب العالمي”” فينتقص هو أيضًا من قدرٍ كبير من تنظير مدرسة ما بعد الاستعمار متحيزًا لحجة سعيد القائلة بأن العديد من روادها قد أثبتوا أنهم “أكثر اهتمامًا بالنزاعات الداخلية حول تفاصيل الأنماط المفضلة للنظرية أكثر من تركيزهم على الاهتمامات الاجتماعية الفكرية العالمية التي أثارت النظريات في المقام الأول”. في حين استقر أقران سعيد “في مرحلة من التوحيد المؤسسي لإيجاد قانون يمكن التنبؤ به إلى حد ما بين الكتاب المعاصرين الناطقين بالإنجليزية ” يكتب كليري بأن سعيد استمر حتى في المراحل الأخيرة من مرضه في كتابة مقالات قوية تشهد على قدراته غير المنقوصة وبأنه مفكرٌ ملتزمٌ سياسيًا”.
كما كشف كتاب “ما بعد سعيد” والأعمال المختارة لم يكن سعيد ملتزمًا سياسيًا فحسب، فهو لم يتوقف أبدًا عن الجدل. ظلت رؤيته حتى النهاية عالمية ومغتربة. أصر على أن نرى ما وراء ثقافاتنا الوطنية أو الضيقة لفهمها بشكل أفضل. وطالبنا بتوسيع ضيق خيالنا الأخلاقي والسياسي وأن نرى العالم بأكمله كبيتنا المشترك. كمنفى مريح في نيويورك أو في بيروت أو القاهرة أو باريس أو لندن فقد غرس أسلوبه الأدبي وسلاسته العالمية وسياسته الملحة في كثير من الأحيان مع نزعته الإنسانية العالمية، وهي نزعة إنسانية لا تزال مضادًا قويًا ضد الانعزال والشوفينية القومية التي يبدو أنها تتصاعد حتى في عصر الأزمات العالمية.
ربما كانت أممية سعيد وإنسانيته العالمية أهم مافي إرثه. الحياة البشرية وتحدياتها -سواء كانت الأوبئة أو تغير المناخ أو الحرب الدائمة أو السياسات النيوليبرالية التي تسعى لإفقار الكثيرين لإثراء القلة- تجبرنا على تجاوز الحدود الوطنية أو الثقافية. لا يسع المرء إلا أن يتخيل كيف كان سعيد سيرد على القوى الخبيثة التي خربت المعالجة الفعالة لهذه الأزمات المستمرة. وكما يقترح ساري مقدسي في كتابه “الاستشراق اليوم” فإن “الأمر الأنسب ” في مواجهة مثل هذه الحماقة “هو قراءة إدوارد سعيد من جديد كما لو كنا نفعل ذلك للمرة الأولى”.
تذكرنا الأعمال المختارة ومقالات كتاب “ما بعد سعيد” بأن إنتاج أفكار جيدة وتوليد وجهات نظر نقدية ليس كافيًا اليوم ويجب أن نوسع أفق تفكيرنا جغرافيًا وأخلاقيًا. يجب أن نكافح في سبيل الأفكار والثقافة ليس فقط في الدوائر المنعزلة للأوساط الأكاديمية ولكن في العالم وفي المساحات العامة أيضًا. هذا ما فعله سعيد رغم أنه كان أكاديميًا ماهرًا دائمًا طوال حياته المهنية ولا يزال نموذجًا حيًا للآخرين من العلماء والكتاب والطلاب والناشطين والمواطنين العاديين. كتب سعيد عن تجربة إعادة قراءة مقالات فرويد:
“نحن كقراء مختلفون من فترات مختلفة من التاريخ بخلفيات ثقافية مختلفة، يجب أن نستمر في القيام بذلك… يبدو لي أنه إثبات لقوة عمله في إثارة فكر جديد وإلقاء الضوء كذلك على مواقف لم يحلم هو نفسه بها”.
يمكن قول الشيء نفسه عن سعيد بصفته ناقدًا أدبيًا ومعلمًا وناشطًا سياسيًا، خاطب العالم بشغف والتزام لا يزال يتحدث إلينا اليوم.