نور مصالحة: “السكان الأصليون لفلسطين” ظاهرة قديمة، و”الهوية الفلسطينية” كانت منفتحة وشاملة

Photo by: Dani Duch

أوس يعقوب

كاتب من فلسطين

كما لا يعرف الكثير من القراء العرب ذلك "التاريخ الطويل" وحقيقة أنه قبل فترة طويلة من الفتح الإسلامي لفلسطين كان لدينا سكان عرب في فلسطين وأساقفة عرب مسيحيون في القدس. يُظهر الكتاب كذلك، أنّ التاريخ العربي لفلسطين لم يبدأ بالإسلام منذ 1400 عام لكن المؤرخ هيرودوت، على سبيل المثال، يوضح أنه كان هناك عرب (ومتحدثون بالعربية) في فلسطين منذ 2500 قبل.

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

20/11/2020

تصوير: اسماء الغول

أوس يعقوب

كاتب من فلسطين

أوس يعقوب

يعمل كاتباً ومراسلاً صحفياً لعدد من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية منذ العام 1993. صدر له عدة كتب ودراسات في الشؤون الثقافية الفلسطينية والعربية. وله مجموعة دراسات منشورة ضمن موسوعة "أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين"، الصادرة عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) في تونس.

في كتابه الصادر عام 2018 باللغة الإنكليزية «فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ»، والذي نقله إلى العربية مؤخراً، د. فيكتور سحّاب، يوثق البروفيسور نور مصالحة فيه لحقٍ وطني ولهوية فلسطينية تطورت عبر تاريخ متواصل مع الأرض، بالاستناد إلى نصوص فرعونية وأشورية حتى التاريخ الحديث، ما يجعل منه نقطة انطلاق هامة للدارسين من المؤرخين والباحثين الغربيين والعرب والفلسطينيين للقضية الفلسطينية.

في هذا الحوار مع بروفيسور مصالحة، الباحث في جامعات بريطانية وعالمية، نتعرف على المزيد من أطروحاته العلمية التي وردت بين دفتي الكتاب، والتي تؤكد هذا الحق الفلسطيني بموضوعية الباحث الرصين.

كيف يقدم البروفيسور نور مصالحة نفسه إلى قرائنا؟

أكاديمي ومؤرخ فلسطيني، أقيم في لندن منذ سنوات عديدة، وكنت وصلتها في منتصف الثمانينيات لبدء دراستي للدكتوراه في جامعة لندن، وقمت بالتدريس في العديد من الجامعات البريطانية، كما درست في منتصف التسعينيات في جامعة بيرزيت في فلسطين. ولدت وترعرعت في الجليل، هناك قول مأثور في اللغة الإنجليزية: a house is not a home، ويمكنني ترجمته بحرية (ليس حرفياً) “المنزل ليس وطناً حقيقياً”. دائماً كان شعوري أنّ فلسطين (ليست بريطانيا)، هي بيتي الحقيقي (وطبعاً وطني).

كتابك الصادر باللغة الإنكليزية «فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ»، والمترجم مؤخراً إلى اللغة العربية، عملت فيه على توثيق الحق وطني وتطوّر الهوية الفلسطينية عبر تاريخ متواصل مع الأرض، حبذا لو تحدثنا عنه باستفاضة. هذا الكتاب هو أحد الكتب العديدة التي نشرتها في الأعوام الثلاثين الماضية. لكنه يختلف عن كتبي السابقة. هناك العديد من الأسباب التي تجعل هذا الكتاب ضرورياً لكل من يهتم بفلسطين والشرق الأوسط، خاصة في عام 2020.

يسعدني أيضاً أنّ الكتاب (خاصة النسخة الإنجليزية لعام 2018) قد اجتذب بالفعل الكثير من الاهتمام وكان “الأكثر مبيعاً” على موقع أمازون في عام 2018. أحد التفسيرات المحتملة لهذا النجاح هو أنه كل عام لدينا عشرات الكتب المنشورة باللغة الإنجليزية عن فلسطين، غير أنه لا يوجد مثل هذا الكتاب في مضامينه. يغطي كتاب «فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ» تاريخ فلسطين الطويل، بينما تركز معظم الكتب على فترات قصيرة أو على “التاريخ الحديث” لفلسطين، بخاصة منذ أواخر العهد العثماني وأحداث العصر الحديث. 

إنّ تاريخ فلسطين أطول بكثير من 4000 عام لكنني اخترت أن أبدأ من العصر البرونزي بداية المدن الرئيسية في فلسطين، مدن مثل غزة التي لا تزال تزدهر حتى اليوم. كما تم استخدام اسم فلسطين من أواخر العصر البرونزي. في التاريخ القديم، كانت غزة واحدة من أكثر المدن تطوراً في فلسطين والشرق الأدنى، ومنذ 2500 عام صكت غزة عملتها الخاصة، وطوّرت المدينة نظامها النقدي الخاص، وهي عملة كانت تستخدمها في تجارتها الدولية التي ربطت تجارة شبه الجزيرة العربية الجنوبية مع الهند والصين ودول البحر المتوسط​​، وهي تجارة دولية تم نقلها أيضاً عبر ميناء غزة في ذلك الوقت.

اليوم تُعدّ غزة -التي يبلغ عدد سكانها نصف مليون نسمة- أكبر مدينة في فلسطين. شرحت في هذا الكتاب أنّ فكرة فلسطين القديمة كوحدة جيوسياسية في العصر البرونزي والعصر الحديدي تطورت من الجنوب إلى الشمال وليس من “الشمال إلى الجنوب”. قبل 2500 عام، وصف المؤرخ اليوناني هيرودوت (أبو الكتابة التاريخية) فلسطين بأنها بلد بين مصر القديمة وفينيقيا (لبنان الحديث).

الكتاب الذي بدأ باسم فلسطين في أواخر العصر البرونزي يشرح أيضاً كيف ظهرت فلسطين القديمة ومفهوم فلسطين من خلال ظهور كيان جيو سياسي متطور للغاية في فلسطين، أولاً في جنوب فلسطين: كيان وبلد وهو الذي امتد فيما بعد إلى بقية فلسطين الذي نعرفه اليوم بين مصر الحديثة ولبنان. يعتمد الكتاب أيضاً على جبال من الحقائق والأدلة والاكتشافات الأثرية المهمة، بينما العديد من الكتب المنشورة في الغرب عن فلسطين القديمة تستند إلى الأساطير الدينية أو الأسطورة الموجودة في العهد القديم، وليست على الحقائق التاريخية التي تدعمها الأدلة الأثرية العلمية. أيضاً يجلب الكتاب منظوراً جديداً لتاريخ فلسطين الطويل، حيث أنه ليس فقط عن فلسطين بالمعنى الضيق فهو يعلمنا كيف نتعلم التاريخ الطويل لفلسطين ضمن سياقها القديم الأوسع في الشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط وهي منطقة كانت مهد الحضارات.

يُظهر الكتاب أنّ فلسطين كانت دائماً مكتظة بالثقافة والتاريخ، ويصف الأدوار المهمة التي لعبتها اللغات في فلسطين القديمة، بما في ذلك اليونانية والآرامية والسريانية والعربية. كما يعرض أدلة على الكتابة العربية في فلسطين قبل الإسلام بمئات السنين.

يسمح الكتاب لفلسطين بالتحدث إلى نفسها. وهو يهيمن بمحتواه على التاريخ السائد لفلسطين القديمة والوسطى والحديثة (النموذج الإمبراطوري) “imperial conquest paradigm” بدءاً من الاحتلال المصري القديم، ثم الاحتلال الآشوري ثم الاحتلال الفارسي، وغزو الإسكندر، والغزو الروماني، ثم الاحتلال البيزنطي، ثم وصول المسلمين، ثم الاحتلال الصليبي، ثم المماليك، ثم الإمبراطورية العثمانية (400  سنة)، ثم الإمبراطورية البريطانية عام 1918، ثم الغزو الصهيوني عام 1948. يتحدى هذا الكتاب المفهوم “الإمبريالي الاستعماري”imperial conquest paradigm لفلسطين، ويكشف عن “الوكالة الأصلية” ودور فلسطين والفلسطينيين و”السكان الأصليين” لفلسطين في تأثير وتشكيل تاريخ البلاد.

بالإضافة إلى ذلك، وعلى عكس معظم الكتب التي تركز على “التواريخ القصيرة” فلسطين، وعلى عكس العديد من الكتب السطحية التي تهيمن عليها “السياسة الحديثة” ولا تستكشف القضايا العميقة. يمنحنا “النهج طويل المدى” لهذا الكتاب ميزة النظر في الهياكل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الدائمة، والهياكل الثقافية الجغرافية “المستمرة” في فلسطين، على سبيل المثال، بعض هذه الهياكل والأنماط الاجتماعية “طويلة الأمد” في فلسطين يمكننا رؤيتها في ظل البيزنطيين وفي جميع أنحاء فلسطين الإسلامية المبكرة. أيضاً، يُظهر النهج طويل المدى أنّ العديد من البلدات والمدن الفلسطينية قد نجحت في البقاء والازدهار منذ ما يقرب من 4 و 5 آلاف عام. وفي حين أنّ “السياسة قصيرة المدى” تنتج الكثير من التشاؤم، فإنّ “التاريخ الطويل” للكتاب وبقاء العديد من مدننا لآلاف السنين يمنحنا الكثير من الأمل حول مستقبل فلسطين.

كما لا يعرف الكثير من القراء العرب ذلك “التاريخ الطويل” وحقيقة أنه قبل فترة طويلة من الفتح الإسلامي لفلسطين كان لدينا سكان عرب في فلسطين وأساقفة عرب مسيحيون في القدس.  يُظهر الكتاب كذلك، أنّ التاريخ العربي لفلسطين لم يبدأ بالإسلام منذ 1400 عام لكن المؤرخ هيرودوت، على سبيل المثال، يوضح أنه كان هناك عرب (ومتحدثون بالعربية) في فلسطين منذ 2500 قبل. أيضاً نهج “التاريخ الطويل” في الكتاب له مزايا عديدة، منها أنه يُظهر أن فلسطين ثقافياً ودينياً كانت واحدة من أكثر البلدان تشبعاً في الثقافة على وجه الأرض، حيث كانت مكتظة بالتاريخ والمدارس والتعليم.

في عهد البيزنطيين، وُصِفت غزة بـ “أثينا الآسيوية” لأنها كانت أكثر تطوراً ثقافياً وفكرياً من معظم مدن المنطقة في ذلك الوقت. كما أنّ معظم الكتب الأكاديمية العربية عن فلسطين والفلسطينيين و”الهوية الفلسطينية” تبدأ من أواخر العهد العثماني. ويوضح هذا الكتاب أنّ “هوية” فلسطين متجذرة بعمق في التاريخ القديم وليست اختراعاً حديثاً.

صدر كتابك باللغة الإنجليزية، ونقله إلى العربية بعد عامين من صدوره د. فيكتور سحّاب (مركز دراسات الوحدة العربية). سؤالي: ماذا يعني لك التوجه للقارئ الغربي؟ وكيف تقبّل الوسط الأكاديمي والنخب الكتاب وما ورد فيه من أطروحات ورؤى؟  

أنا مسرور وممتن لترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية من قبل (مركز دراسات الوحدة العربية) في بيروت. أعتقد أنّ الباحثين والمترجمين والموظفين بشكلٍ عام في هذا المركز كانوا فعالين وقاموا بعمل جيد. بصفتي شخصاً يعرف الكثير عن “حركات الترجمة العربية” في العصور الوسطى والعصر الحديث، وأيضاً عن ترجمة التراث الكلاسيكي والعلمي للعرب والإسلام إلى أوائل أوروبا الحديثة بشكلٍ عام أعتقد أنّ “حركات الترجمة” يمكنها إنتاج ثورات فكرية. كما أنني لاحظت بعض المراجعات الإيجابية للطبعة العربية في وسائل الإعلام العربية، ولكن من السابق لأوانه الحكم على تأثير النسخة العربية على المفكرين والمؤرخين العرب وكيف سيتم استقبال الكتاب في العالم العربي. لكنني شخصياً أعتقد أنه يتعين علينا نحن الفلسطينيين والعرب أن نكتب تاريخنا وأن لا ننتظر الأكاديميين المقيمين في الغرب لكتابة تاريخنا الطويل والحافل في المنطقة. كما أنه من المهم ليس فقط التركيز على “الاضطرابات الحالية” في العالم العربي بل علينا كعرب التعلم من تجاربنا التاريخية الطويلة، ومن تاريخنا الطويل في أوطاننا العربية خاصة في “العصور الذهبية” في العصور الوسطى، والتعلم من الإنجازات الحديثة التي يتمتع بها الآخرون.

ما أهم الرسائل التي أردت توصيلها من خلال هذه الدراسة المعمقة للقارئ الغربي؟

يجب أن أقول: إنّ كتبي عموماً لا تُكتب مع مراعاة “قارئ معين”، سواء كان قارئاً غربياً أو قارئاً عربياً. حتى لو كنت تكتب باللغة الإنجليزية كقاعدة عامة أيضاً، وإذا كنت ترغب في الحفاظ على النزاهة الفكرية، فمن الأفضل أن تكتب وتقول الشيء نفسه لجميع القراء. تعتبر ترجمة الأعمال من الإنجليزية إلى العربية وبالعكس أكثر تعقيداً بعض الشيء، وهي تحتاج إلى أن تضع في اعتبارك تنوع معاني المصطلحات في كل لغة وهذا يعني عدم ترجمة كل شيء حرفياً. عند قراءة كتاب كبير مثل هذا نحتاج إلى قراءته على مراحل، ومحاولة استيعاب العديد من الحقائق والأدلة في كل فصل قبل الانتقال إلى الفصل التالي. ثانياً: الشيء الأساسي هو أن يبقى القارئ في ذهن متفتح إذا أراد أن يتعلم شيئاً جديداً.

بشكلٍ عام الأشخاص الذين يقرؤون كتب التاريخ لديهم رأي قوي حول هذا الموضوع؛ تطوير آراء قوية ومواقف قوية ليس بالأمر السيئ، لكني أميز بين “الآراء” و”الحقائق” المدعومة بالأدلة. لكن إذا كانت لدينا “آراء صارمة” وأصبحت هذه الآراء عقائدية فنحن لا نرغب في معرفة أو تعلم شيئاً جديداً. بالنسبة لي، تعتبر الكتب والمكتبات والقراءة من أعظم مكاسب الإنسان. الكتب والمكتبات هي جنة حقيقية للعلوم الإنسانية. أيضاً الكتب التاريخية الجيدة والمعارف التاريخية الجيدة هي عموماً ملكة المعرفة. 

من تجربتي الخاصة، فإن أولئك الذين يقرؤون كتب التاريخ الجيدة هم من بين الأشخاص المثقفين على وجه الأرض. وأولئك الذين يقرؤون كتب التاريخ الجيدة عن فلسطين بعقل متفتح ومنظور نقدي ومنظور إنساني بين أبطالي الحقيقيين في الإنسانية. وقبل كل شيء، يبدأ التحرر البشري بتحرير العقل، ويمكن أن تلعب كتب التاريخ الجيدة عن فلسطين دوراً رئيسياً في تحرير عقولنا وتحرير وطننا وتحرير البشرية بشكلٍ عام من الأفكار المسبقة والتفكير غير النقدي.
 

يقول درويش: “كانت تسمى فلسطين. صارتْ تسمى فلسطين”، فما الذي يعنيه بالنسبة للمؤرخين والباحثين، من الناحية العلمية الأكاديمية، أنّ تسمية فلسطين -المكان- ثابتة لم تتغير على مر العصور التاريخية الممتدة لآلاف السنين؟ 

أعرف أنّ محمود درويش استخدم في قصيدته هذا التعبير مع دلالات خاصة لـ “التاريخ الحديث” لفلسطين. أحب شعره كما أحب الإشارة إلى أعماله، لكنني استخدمت هذا التعبير “كانت تسمى فلسطين. صارتْ تسمى فلسطين” مع الأخذ في الاعتبار “التاريخ الطويل” لفلسطين، ومع مراعاة أفكار أرسطو والأفكار التي طورها مارتن هايدجر في العشرينيات من القرن الماضي. بالنسبة لي، التعبير “كانت تسمى فلسطين. صارتْ تسمى فلسطين” يعني أن فلسطين قد تطورت وتستمر في التطور. لن تتوقف فلسطين عن التطور والتغيير. وهذا “التطور” اعتمد، إلى حد ما، على “الفاعلية البشرية” و”الوكالة الذاتية” لفلسطين والفلسطينيين.

يشرح الكتاب كيف تطور “مفهوم فلسطين” عبر التاريخ، وفي سياق التاريخ الطويل لفلسطين والمنطقة كلها. بالطبع، يتمثل دورنا كمؤرخين في استكشاف وتقييم طبيعة هذه التغيرات (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية) و”الاضطرابات” الرئيسية في المنطقة وكذلك استكشاف “الاستمرارية” الهيكلية طويلة المدى في فلسطين. ولكن، كما قلت، يركز العديد من المؤرخين على “الأحداث” قصيرة المدى، ويتصرفون مثل الصحفيين من خلال مطاردة “الأحداث” قصيرة المدى، ومطاردة السياسيين الذين يعانون من قصر النظر. أنا على النقيض من ذلك، ومهتم أيضاً بالتطورات طويلة المدى، وبالتغييرات الهيكلية طويلة المدى.

عملت في الكتاب على تأكيد أنّ كيان فلسطين كوطن تواجد منذ أكثر من 3000 سنة، والشعب الفلسطيني عاش في ذلك الوطن الواقع جغرافياً على الضفة الشرقية من البحر الأبيض المتوسط من العصور الغابرة وفي ظل ممالك وأنظمة ودول مختلفة وبقي متمسكاً بهويته الوطنية وبتراثه وأرضه وما زال كذلك حتى الساعة وإلى الأبد. ما الذي أردته من ذلك؟

هنا اسمح لي أن أشرح مسألة مهمة: أولاً: أنا 100٪ ضد المفاهيم العنصرية لـ “الهوية الفلسطينية الجماعية” أو “الهوية العربية”. الهوية الفلسطينية ليست حول “العرق”، يتعلق الأمر بالثقافة واللغات (واللغات التاريخية) وقبل كل شيء بـ “الوعي الجماعي”. أعتقد أيضاً أنّ “الهوية الوطنية الفلسطينية” والهوية العربية في العصر الحديث كانت مكملة.

ثانياً: “الهوية الفلسطينية” كانت منفتحة وشاملة وحتى أوائل القرن العشرين كانت تضم مسلمين ومسيحيين وأرمن ومسلمي شمال إفريقيا ومسلمين سود والعرب اليهود وغيرهم. أيضاً أوضح في كتابي عدداً من المصطلحات التي عادة ما يتم الخلط فيها بين صفوف من الناس. كمؤرخ أفهم تطور “الهويات الجماعية” منطقياً “من الماضي إلى الحاضر”، يستخدم الآخرون التاريخ أسطورياً وسياسياً “من الحاضر إلى الماضي”. كما أنّ معاني المصطلحات تطورت وتغيرت عبر الأزمنة.

أميز في هذا الكتاب بين “الهوية العربية الفلسطينية الحديثة” والتاريخ القديم والوراثة التاريخية لفلسطين التي تعود إلى آلاف السنين. “السكان الأصليون لفلسطين” ظاهرة قديمة. أيضاً مصطلح “شعب فلسطين” -على عكس مصطلح “الشعب الفلسطيني” و”أهل فلسطين”-، في اللغة العربية وفي تاريخ فلسطين هي مصطلحات قديمة. على عكس “الهويات القومية الحديثة” توجد “الهويات الاجتماعية” منذ العصور القديمة، وكذلك القرآن الكريم يتحدث عن “الهويات” مثل “الشعوب” و” القبائل”.

منذ 1000 عام كتب المؤرخ الفلسطيني شمس الدين المقدسي عن “أهل فلسطين”. ووصف المقدسي “ولاية فلسطين” الإدارية بمدنها وبلداتها في ظل الإسلام وهي ولاية استمرت لمئات السنين. كما وصف “ولاية فلسطين” الإدارية بمدنها وبلداتها في ظل الإسلام تحت حكم الأمويين والعباسيين وقبلهم وبعدهم. كذلك في القرن التاسع عشر -قبل ظهور الحركة الصهيونية- تحدث مؤلفون فلسطينيون عن “أبناء فلسطين” و “أهل فلسطين”. وفي القرن التاسع عشر، كان مصطلح “أبناء فلسطين” (كـ “أبناء وبنات فلسطين”) يعني الشعب الأصلي في فلسطين.

وماذا عن اليهود ودورهم في فلسطين التاريخية؟

نحن هنا بحاجة للتمييز بين “الصهيونية” الحديثة كحركة استعمارية استيطانية أوروبية “واليهودية” كدين مهم في فلسطين القديمة. بالطبع، لا أحد ينكر وجود يهود في فلسطين أو حتى اليهود تاريخياً كونهم جزءاً لا يتجزأ من بلدنا. وأنا أوثق في هذا الكتاب كتابات بعض المفكرين اليهود المهمين مثل جوزيفوس -لكن اليهود كانوا “عقيدة دينية “- وليست “مجموعة عرقية”، كما كانوا مجموعة واحدة من بين العديد من “الجماعات الدينية” في فلسطين. شملت فلسطين مجموعات دينية مهمة مثل السامريين الذين كانوا لقرون عديدة مجموعة دينية كبيرة في وسط فلسطين ونجدهم اليوم في مدينة نابلس. في الواقع، اعتنق العديد من السامريين وبعض اليهود في فلسطين الإسلام فيما بعد.

لعب اليهود (كمجموعة دينية) دوراً مهماً في بعض من تاريخ فلسطين القديم -لمدة 300 عام تقريباً- خاصة الفترة الرومانية، لكن -على عكس الدعاية الصهيونية الإسرائيلية- لم يكونوا موجودين في فلسطين في العصر البرونزي. ومع ذلك، بعد العصر الروماني وفي معظم تاريخ فلسطين، كان اليهود “أقلية” في البلاد، وعندما وصلنا إلى القرن التاسع عشر كان اليهود يشكلون حوالي 5٪ من السكان. كما لم يكن هناك نزاع بين اليهود -الذين تحدث معظمهم العربية ويمكن وصفهم “باليهود العرب”- وبين المسلمين في فلسطين. لكن الصهاينة الإسرائيليين والكتّاب المؤيدين للصهيونية في الغرب يدّعون أنّ تاريخ فلسطين كان متمركزاً حول اليهودية وهذا خيالي تماماً ولا يستند إلى حقائق التاريخ الحقيقية.

في متن الكتاب لك موقف ناقد بل رافض لبعض النظريات الصادرة عن مراجع عربية وشرق أوسطية وآسيوية ترى أنّ فلسطين لم تكن أكثر من الجزء الجنوبي لبلاد الشام (سوريا). وأنّ الحركة القومية الاستقلالية الفلسطينية نشأت في المرحلة الأخيرة من سيطرة الدولة العثمانية على الشرق الأوسط العربي. ما الذي قصدته؟

هناك الكثير من الناس في العالم العربي يحكمون على الكتب أو الناس قبل قراءة أعمالهم، كما يفكر بعض الكتاب العرب “بشكلٍ غير تاريخي” من “الحاضر إلى الماضي” -أنا (على النقيض) أفكر بشكلٍ منطقي وتاريخي من “الماضي إلى الحاضر”. وأشرح في إجابتي للسؤال الثاني أنّ “المفهوم القديم” لفلسطين تطور من الجنوب إلى الشمال وليس من الشمال إلى الجنوب.

بلاد الشام هي مفهوم عربي -جغرافي من العصور الوسطى-، لكن تاريخ فلسطين لم يبدأ في العصور الوسطى لذا فمن المنطقي والتاريخي ظهور المفهوم القديم لفلسطين -الذي ظهر في “العصر البرونزي”-، قبل فترة طويلة من المفهوم الجغرافي العربي “الوسيط” لما كان يسمى بلاد الشام. قد يعتقد بعض الأشخاص الذين لم يقرؤوا هذا الكتاب أو قرأوه بشكلٍ سطحي أنّ هناك تناقضاً بين مفهوم فلسطين والمنطقة الجغرافية الشاسعة المعروفة باسم “بلاد الشام”. كما لا يمكننا إقناع الأشخاص الذين لديهم أفكار مسبقة قوية والأشخاص غير المستعدين لتعلم شيء جديد.

على عكس هذه الأحكام المسبقة؛ يجادل الكتاب بأنّ فلسطين (على الرغم من استقلالها الذاتي لمعظم تاريخها الطويل ومع “مقاطعة إدارية” منفصلة تحت حكم الرومان والبيزنطيين والأمويين والعباسيين). وأيضاً “ولاية جند فلسطين” في ظل الإسلام، كانت فلسطين جزءاً من “المنطقة الجغرافية” الأوسع -التي امتدت من جنوب تركيا وشملت لبنان الحديث، فلسطين، سوريا، وشرق الأردن-، وكانت تسمى “بلاد الشام”. لكن الكتب تقول أيضاً إنّ بلاد الشام في ظل الإسلام لم تكن أبداً وحدة إدارية واحدة أو ولاية واحدة إنما كانت عدة ولايات. في الواقع، ما يقرب من 400 عام في ظل الإسلام (بما في ذلك الأمويون والعباسيون) كانت “ولاية جند فلسطين” واحدة من العديد من مناطق بلاد الشام.

ما رأيك في ما أُنتَج فلسطينياً من دراسات في هذا السياق في العقود الأخيرة سعياً لتأكيد السردية الفلسطينية في مواجهة السردية الإسرائيلية؟ 

في رأيي، أنتجنا نحن الفلسطينيين في المائة عام الماضية قدراً كبيراً من أدب المقاومة، خاصة في الشعر والروايات والقصص القصيرة، وكذلك الفنون المرئية والأفلام؛ لا بل حققنا صناعة سينمائية متطورة جداً. وقد تُرجمت بعض أدبيات المقاومة والرواية الفلسطينية إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية -خاصة في سنوات العشرين أو الثلاثين الماضية- كما أن بعض الروائيين الفلسطينيين المقيمين في الولايات المتحدة وبريطانيا أنتجوا روايات مهمة في السنوات الأخيرة.

لكن لم ننتج ما يكفي من الأعمال التاريخية والعلمية عن فلسطين عبر تاريخها الطويل؛ في الواقع، لدينا “المئات من المحامين” وعدد قليل من المؤرخين الجيدين، وقبل كل شيء ركز مؤرخونا بشكلٍ كبير على الصراع مع الصهيونية على مدى المائة عام الماضية؛ لكن ماذا عن آلاف السنين من التاريخ الفلسطيني؟

لا يزال الكتاب وعلماء الآثار الصهاينة يسيطرون على إنتاج المعرفة والمنشورات (خاصة باللغة الإنجليزية) حول “تاريخ فلسطين القديم”، حيث يقوم الكتاب الصهاينة والأقسام الأكاديمية الإسرائيلية باستعمار وتهويد تاريخ فلسطين القديم.

لكن هناك أيضاً مشكلة أخرى، وهي أننا نحتاج أيضاً إلى التمييز بين تأثير الرواية الفلسطينية على المجال الأكاديمي وعلى الأكاديميين والمؤرخين في الغرب، ونقارن ذلك بالهيمنة شبه الكاملة للسرد الصهيوني على “وسائل الإعلام الرئيسية” في الغرب.

أنا شخصياً كمؤرخ وأكاديمي قمت بنشر عدد كبير من الكتب باللغة الإنجليزية عن فلسطين الحديثة، وعن النكبة الفلسطينية والتاريخ الشفوي لنكبة الفلسطينيين، وقد تمت ترجمة العديد من هذه الكتب إلى الإسبانية والعربية ولغات أخرى.

لقد رأيت في العقود الثلاثة الماضية تغيرات هائلة في الطريقة التي بدأ بها العديد من الأكاديميين والمؤرخين الغربيين في تبني الرواية الفلسطينية للتاريخ الحديث لفلسطين (وإسرائيل) ومع ذلك، في نفس الوقت، جماعات الضغط الصهيونية القوية وأنصارها لا يزالون يهيمنون على السرد المقدم في وسائل الإعلام الرئيسية في الغرب.

في الواقع، يمتلك العديد من الصهيونيين المسيحيين واليهود الأغنياء ويسيطرون على أجزاء رئيسية من وسائل الإعلام في الغرب. يشرح بعض الأكاديميين الفلسطينيين الساذجين هذا خطأً بسبب “المحرقة اليهودية”/ الكارثة اليهودية في الحرب العالمية الثانية. في الواقع، لا تهتم الأجيال الشابة في “الإعلام” في الولايات المتحدة وأوروبا كثيراً بـ “الهولوكوست”. لكن “صناعة الهولوكوست” أصبحت الآن أكبر بكثير مما كانت عليه في الخمسينيات والستينيات والفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية. وهي تستخدم بشكلٍ فعال وسياسي من قبل مؤيدي إسرائيل لإسكات النقاش حول إسرائيل والاستعمار المستمر لفلسطين. لكن من ناحية أخرى، أكبر فشل لنا هو عدم وجود كتب التاريخ “كتب التاريخ المدرسية”، خاصة عن فلسطين القديمة، لأطفال مدارسنا، سواء في فلسطين أو في الشتات والمنفى.

يتحدث بعض النقاد في الغرب عما يسمونه بـ”أصالة الفكرة”. هل استطاع الكاتب العربي عامة، والفلسطيني على وجه الخصوص، أن ينتج أفكاراً أصيلة به أم أنه لم ينتج إلا مكررا؟ قبل ذلك، كيف تقرأ “أصالة الفكرة”؟

أعتقد بشكلٍ عام أننا (أي الفلسطينيين والعرب) يجب أن نتعلم من تاريخنا وتجاربنا التاريخية الطويلة، وكذلك من تجارب الثقافات والشعوب الأخرى. لا يمكن للأعمال الحديثة باللغة العربية والمؤلفين العرب أن تتنافس مع نجاحات المؤلفين والعلماء الناطقين باللغة العربية في ظل الإسلام الكلاسيكي، خاصة بين القرن الثامن والقرن الرابع عشر.

كما أن مشكلتنا الرئيسية تكمن في أنّ بعض أفضل المؤلفين والأكاديميين العرب -خاصة في الأعوام الثمانين الماضية-، كانوا يعيشون في الغرب وأنتجوا “أعمالاً أصيلة” عالية المستوى باللغة الإنجليزية، وهي أعمال غالباً ما تكون غير متاحة للقراء العرب. لا تكمن المشكلة في نقص المفكرين العرب الموهوبين، وإنما المشكلة هي البيئة السياسية العربية الأوسع وغياب الديمقراطية في عالمنا العربي مما يمنع “التفكير الحر” وإنتاج الأعمال الأصيلة، وتفضيل التقليد والسطحية والطاعة السياسية.

بتقديركم، ما واجب المثقف الفلسطيني الذي يعيش في الولايات المتحدة أو في الدول الغربية تجاه قضية فلسطين؟ ما الفارق الذي يمكن أن يصنعه مقارنة بسواه؟ 

غالباً ما يتعرض الأكاديميون الفلسطينيون في الغرب لهجمات وحتى تهديدات شخصية من جماعات الضغط الصهيونية، خاصة في الآونة الأخيرة. ولكن هناك بعض المزايا للنشطاء الأكاديميين الفلسطينيين الذين يعيشون في الغرب، منها: سهولة الوصول إلى المقالات والمنشورات (باللغات المتعددة وفي العديد من المجموعات الأرشيفية) حول فلسطين، وهذه المنشورات عادة ما تكون غير متاحة للقراء في فلسطين. وكذلك قدرة الفلسطينيين على التنظيم بحرية نسبية للحملات السياسية في الحرم الجامعي على وجه الخصوص؛ القدرة على التقييم الدقيق لتأثير اللوبيات الصهيونية القوية في الغرب. وبشكلٍ عام القدرة على رؤية “وجهات نظر متعددة” وكسب الخبرة في مجموعة من المجالات التي يمكن أن تساعد المجتمع الفلسطيني.

أخيراً، ما الذي يشغلك اليوم على صعيد الكتابة والتأليف؟

عادة ما أكون مشغولاً جداً بالعديد من المشاريع بما في ذلك تحرير مجلة علمية باللغة الإنجليزية: هي “مجلة الأرض المقدسة والدراسات الفلسطينية”، الصادرة عن دار نشر جامعة إدنبرة. Journal of Holy Land and Palestine Studies” وهذا موقعها الإلكتروني. في الوقت الحالي أيضاً، أنا بصدد إكمال كتاب كبير عن التاريخ أو التعليم في فلسطين -من العصر البرونزي إلى العصر الحديث-، وسيتم نشره في العام المقبل.

الكاتب: أوس يعقوب

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع