يبدأ عبد الفتّاح كيليطو فصل ’العرب والكتاب‘ من كتابه “ترحيل ابن رشد” بسؤالٍ ملفتٍ عن علاقة الحضارة العربية بهويتها الأدبية وهو: “يُقال أحيانًا، على سبيل المداعبة، إنَّ الإغريق يتعرّفون على أنفسهم في ’الإلياذة‘، والإيطاليين في ’الكوميديا الإلهية‘، والإسبان في ’دون كيخونيه‘، والإنكليز في ’هاملت‘، والفرنسيين في ’المقالات (المونطيني)‘، والألمان في ’فاوست‘، والعرب في… في أي كتابٍ بالضبط؟”
كيليطو أكمل فصله بتحليل الإمكانيات التي كانت لدى الأدب العربي، ومرَّ على القرآن والمعلّقات والمتنبي وألف ليلة وليلة ومقامات الحريري مفندًا جميع الأسباب التي لم تجعل أيًّا من هذه الكتب الكتاب النموذج للأدب في نهاية أمرها. فمنها ما هو مرفوضٌ تصنيفه ككتابٍ أدبيّ كالقرآن ومنها ما لم يكن عابرًا للثقافات كالمعلّقات ومنها ما هو ليس عربيًّا أصلًا كألف ليلة وليلة. أمّا مقامات الحريري فرغم لمعانها في عصرها إلا أنّ نجمها بهت فيما بعد. وينهي كيليطو الفصل بعبارة: “وفي نهاية المطاف، فإنّ غياب كتاب نموذجي يتطابق مع غياب نموذج. بالنسبة لعرب اليوم، الكتاب هو ما لم يعد موجودًا وما لم يوجد بعد.”
يعالج كيليطو في كتبه الكثير من المشاكل التي يمر بها الأدب العربي والثقافة العربية، منها محاولة العرب مزاوجة كتبهم بكتب أوروبيّة لرفع شأنها، ومن أشهر الأمثلة على ذلك محاولة مزاوجة “رسائل الغفران” للمعرّي “بالكوميديا الإلهية”. وفي أماكن أُخرى ينشئ نقدًا لاذعًا للرواية العربية التي برأيه لا تزال غير قادرة على الاستقلال أو تبني الأسلوب الأوروبي وبالتالي هي معلّقة بالهواء بينهما. إنّ تعليقاته الأخيرة هذه ليست في نفس الكتاب الذي سأل سؤاله المذكور أعلاه، ولكن من الواضح أنّ كيليطو يرغب برؤية الأدب العربي يزاحم في ساحة الأدب العالمي، وسؤاله ذاك هو واحد من أسئلة كثيرة تتخبط برأسه أثناء تأليفه لكتبه.
لا شكَّ أنَّ أولئك المداعبين لكيليطو بسؤالهم هم أوروبيون بالضرورة، فهذه الشعوب الستة صاحبة الأعمال المبدعة لا تختصر العالم. في الواقع هي لا تختصر أوروبا حتى. لكنَّ السؤال رغم محدوديته يبقى مشروعًا، إنّما يمكن تحويره قليلًا؛ فعوضًا عن البحث عن سبب فقدان العرب لكتابٍ سفيرٍ يمثّل أدبهم على غرار الحضارات الستّة المذكورة يمكننا السؤال: ما الذي دفع بتلك الحضارات الستّة إلى تمثيل أدبهم بكتاب في حين لم يقم العرب بذلك؟
بداية الجواب تكمن في الظروف التاريخية والاجتماعية لما عُرِف بالعصر الذهبي للحضارة العربية. وأول ما يحضر في هذا التفسير هو قصة خورخي لويس بورخيس عن ابن رشد الذي أولى أدنى اهتمام للترجمة العربية لكتاب ’فن الشعر‘ لأرسطو حيث توحي القصة، وبشكلٍ مباشر، الخطأ الذي نحا نحوه ابن رشد بترجمة الكوميديا والتراجيديا إلى ملهاة ومأساة، قافزًا وبشكلٍ اقصائي عن أي أدب أجنبي، مُعتبرًا (أيضًا حسب رأي كيليطو) الأدب العربي خير آداب الشعوب الموجودة. ولكن من أين أتى هذا التوجّه العربي (أو الرشدي في هذه الحالة) في عصر حضارتهم الذهبي؟
يقترح محمّد عابد الجابري فرضية الفراغ الحضاري حيث يقترح أنّ الحضارة العربية الإسلامية قد برزت في ظلّ غيابِ منافسٍ حضاري لها. فالمنافسان المفترضان هما الفرس والبيزنطيين كانا قد انهارا سياسيًّا وعسكريًّا في وجه المد العربيّ الإسلامي القادم من الجزيرة العربية. لكنَّ الجابري لم يولي اعتبارًا للحضارات الأُخرى في المنطقة.
لكنَّ زهير توفيق في كتابه ’النهضة المهدورة‘ يعتبر أنَّ الجابري طرح نظريته بتجريدٍ متناسيًا البنى الثقافية والحضارية المتقدمة التي كانت موجودة في كلّ من بلاد الشام وبلاد الرافدين ومصر بالنسبة للعربي الخارج من الجزيرة العربية، وأنَّ الفراغ السياسي لا يدلُّ بالضرورة على فراغٍ حضاريّ. فما الذي حصل إذن؟
الواقع أنّ الفراغ السياسي جعل من ذاك الوجود الحضاري يظهر بصفة غير المنافس. إنّ نشوء الحضارة الإسلامية أو الحضارة العربية حدثت باحتواء جميع تلك العوامل الشامية -الرافدية- المصرية وصولًا إلى الفارسية. الفراغ السياسي جعل العربي القادم من الجزيرة العربية قابلًا لامتصاص الحضارات الأُخرى غير المنافسة لرسالته دون ضغينة فتشكّلت تلك الحضارة المركّبة التي أنتجت الفكر باللّغة العربية الجامع لابن سينا البخاري (أوزباكستان حاليًّا) وعمر الخيام النسابوري (إيران) وأبو العلاء المعرّي (سوريا) وابن النفيس (مصر) وابن خلدون (تونس) وابن رشد (إسبانيا).
إنّ غياب المنافسة في وجه الحضارة العربية جعل من العربيّ في العصر الذهبي ليس بحاجة إلى تعريف نفسه عن طريق المقابلة بالآخر. غياب الآخر الذي قد يولي له اهتمامًا جعله غير عابئ بإبراز نفسه باستخدام كلّ الأدوات الأوروبية التي ظهرت في العصر المتوسط ومن بينها: الكتاب النموذج أو الكتاب السفير الذي سيدفع بالأدب العربي إلى العالمية. لأنّ الأدب العربي بالنسبة لعرب العصر الذهبي هو الأدب كلّه، هو الأدب العالمي وفقط. فحتى ابن رشد عاشق أرسطو الأكبر لم يهتم لكتابه الذي يتحدّث عن الشعر الإغريقي.
الأمر يزداد غرابة حتى على المستوى السياسي والعسكري. فالمؤرّخ خالد زيادة في كتابه “المسلمون والحداثة الأوروبية” يؤكّد أنّ العرب أثناء الحروب الصليبية التي امتدّت لمئتي عام لم يوجهوا أي اهتمامٍ لأولئك الإفرنج القادمين من البحر لاحتلال الأراضي المقدسة. حسب زيادة لم تكن هناك سفارات أو دراسات تحاول فهمهم. حتى بعد التحرّر منهم لم يعبأ العرب بتاريخ الحروب الصليبية حتى احتلال الجزائر في القرن التاسع عشر حيث قام جمال الدين الأفغاني، مستعينًا بالتأريخ الأوروبي لتاريخ الحروب الصليبية، بنبش ذلك التاريخ لنعت الاستعمار الحديث بمصطلح “الحروب الصليبية الثانية” ولولا كان الاستعمار غربيًّا لبقيت الحروب الصليبية على هامش التأريخ العربي.
ولكن ماذا يعني أن يكون التأريخ للحروب الصليبية مهمًّا بالنسبة للأوروبيين على عكس العرب. نظرة واحدة إلى خرائط ذلك الزمان، كخريطة الإدريسي على سبيل المثال، تري الأهمية لديهم. إنّ الطريق البحرية للهند عبر رأس الرّجاء الصالح لم تكن مكتشفة إلى ذلك الوقت ولا حتى الأمريكيتين. أي أنّ الأوروبي في العصر المتوسّط، قبل وبعد الحملات الصليبية وأثناء حروب الاسترداد الإسبانية، كان يشعر بأنّه محاصر بين البحر من جهة والمنافس الأقوى له من جهة أُخرى؛ الحضارة العربية الإسلامية. قد لا يكون الأوروبي على علم بخلافات العثمانيين والمماليك وممالك المغرب آنذاك إلا أنّه يُدرك أنّ منافسًا حضاريًّا ما موجود على الشاطئ المقابل من البحر المتوسط قد يكون جاهزًا في أي وقت للانقضاض عليه كما فعل في الأندلس.
الحضارة الأوروبية أيضًا ليست حضارة موحّدة فيما يظهر، فإلى حين ظهور الاتحاد الأوروبي في القرن العشرين لم تتغيّر حدود أوروبا بلا دماء تسيل في الشوارع. الاتحاد الأوروبي كان أوّل تبدّل في حدود أوروبا يحدث في تاريخها بلا دماء مهدورة فيها، وقبل ذلك كانت المنافسة على أشدّها، منافسة خلقت ما نعرفه الآن بالدولة القومية. الدولة التي لم تكن حاضرة في حضارة العرب سياسيًّا حتى في ظلّ وجود ثلاث خلافات متازمنة (العباسية في بغداد، الفاطمية في القاهرة، الأموية في قرطبة).
إنّ الشعور الدائم بالمنافسة وبروز الهوية القومية لا بد له من تمظهراتٍ معيّنة منها ما قد يبرز في الأدب، كتابٌ يمثّل أمّة، كتابٌ هو سفيرٌ للأدب واللّغة. كتابٌ يجعل من الأجانب يرغبون بتعلّم الإيطالية لقراءة كوميديا دانتي أو الإسبانية لقراءة “دون كيخوتيه” ثيربانتيس. لا إنكار لعبقرية هذه الأعمال. لكنّ العرب لم يعينوا لأدبهم سفيرًا لأنّهم عندما أنتجوه لم يكن سياسيوهم ينافسون الآخرين في العالم. بل كانوا ينافسون بعضهم. بالإضافة إلى عدم تحقيق أيّ هوية قومية تم الدعوة لها في العالم العربي ومن أبرزها القومية العربية نفسها.
لكن ما الذي استفزّ كيليطو ليطرح هذا السؤال الذي يُطرح عليه “في سبيل المداعبة” ويحاول إجابته؟ الذي يمرّ به كيليطو هو شبيه بما مرَّ على الأفغاني من قبل، إنّ العرب ولأوّل مرّة بتاريخهم، وربما بتاريخ البشرية، معجبون بالمحتل، بالآخر.
ما دفع الأفغاني لإطلاق اسم “الحروب الصليبية الثانية” على الاستعمار الحديث لم يكن إلّا محاولة لإيقاظ حس الانتفاضة للعربي المعجب بالتقدّم والعلوم الغربية ضد المحتلّ. تلك هي الظاهرة التي يهاجمها كيليطو في نقده للأدب العربي الحديث، بل وحتى نقده للنقد الأدبي العربي برمّته. إنّ استناد الأدباء والناقدين العرب إلى المراجع الأوروبية بل وحتى التزلّف لها بربط المعرّي بدانتي عنوة ما هو إلا دليل خنوعٍ حضاري. حضارة كاملة تتزلف لحضارة كاملة. العرب، ليس بحاضرهم فقط بل وبماضيهم أيضًا يبحثون عن اعترافٍ أوروبي- أميريكي بهم. لن يأبه هؤلاء النقاد إن كان الصينيون يعطون عبرة ما للأدب العربي أو إن كان هناك مفكّر عربي يسعى لاستقلالٍ فكري فلسفيّ أو نقدي. لا أهمية للحضارة والأدب ما لم تزاحم الحضارة والأدب الغربييّن.
ولكن إن كان واقع العصر الذهبي العربي هو ذاك غير الآبه بالآخر، فهل هناك أهميةٌ لأن يكون للأدب العربي كتابٌ سفير؟ إنّ الواقع الذي لن نحاول الهرب منه الآن هو التأثير الغربيّ على ثقافتنا. لا ضير بالمعرفة والعلوم اللذين أنتجهما الغرب، لكنّ التزلّف بالتمثّل بها عبر محاولة اعتبار الأدب العربي ناقصًا بغياب الكتاب النموذج لا فائدة منه. الأدب العربي نتج بغياب حاجةٍ له لسفير يمثّله وسيبقى مستمرًّا بلا ذلك السفير. والأمل يبقى بالنُّقاد أن يسعوا لاستقلال فكري يساهم برفع مستوى الأدب، فالانحطاط الذي يعاني منه لا علاقة له بغياب النموذج، إنّما هو مرتبط بكل حيثياته أهمها تفاصيل سوق النشر والمشهد الثقافي العام في العالم العربيّ.