بالفعل منى زكي لم تخلع لباسها الداخلي، بل كانت ترتدي مشد في جميع مشاهدها تحت الفستان الأزرق الضيق، أمر سهل ملاحظته، ولقطة خلع اللباس الداخلي هي إيحائية أكثر منها واقعية. إلا أن الإيحاء يفعل بالعقل العربي أكثر مما تفعله المباشرة والإباحية. وما حدث من ردود فعل إنما تدل على براعة المشهد وخفته، ولا أقصد أن يكون دفاعي عن المشهد بنفي حدوثه، بل أذكّر المُشاهد العربي أن هذا تمثيل ومنى زكي ممثلة، فكيف يتحول دورها إلى فضيحة شخصية إلى هذا الحد، وكأن هناك كاميرا خفية، وأمسكنا الممثلة في وضع مخل! (وبالمناسبة لن يكون الغضب وقتها من حقنا أيضًا).
ووصل الغضب الآن من الفنانة منى زكي إلى رفع دعاوى قضائية ضدها وضد الفيلم، إضافة إلى شكاوى عاجلة إلى البرلمان والمصنفات الفنية والنقابة، ناهيك عن حملة شخصية شرسة ضد الفنانة المصرية باعتبارها العنصر المصري في الفيلم، و”يجب الدفاع عن الهوية المصرية من هذه المشخصاتية الفاشلة”، كما قرأت في أحد التعليقات.
إننا نعود هنا إلى الوصاية على ما يتلقاه المُشاهد العربي، وكأنه دون أهلية، وسيقلد ما يراه، لذلك يجب حماية هويته وعقله وعينيه وهي ذاتها مبررات أحزاب الإسلام السياسي حين تتحدث عن منع الرقص والسينما والفن والأغاني، لكننا اليوم أمام نوع جديد من الخطاب المحافظ في عهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خطاب يجب أن يبتعد عما يعيد الإخوان المسلمين إلى الأذهان، وفي نفس الوقت يقوم بدورهم باستخدام الدين والقيم الأسرية وأصالة الهوية المصرية.
ومن أحد قادة هذا الخطاب رجل السلطة مصطفى بكري الذي هاجم الفيلم في جميع المنابر المتاحة له، إضافة إلى من يشبهه من رجالات القضاء المصري والنقابات الفنية والغنائية وغيرها، إنها عقدة نظام السيسي فلا يريد أن يُقال عن نظامه علماني لأنه قتل الإسلاميين، ولا يريد أن يشبه من قتلهم فيكون متدين، لذلك فإن هذا النظام يفعل بالحياة الاجتماعية والفنية ما هو أخطر مما قد فعله الإخوان إنه يربط السياسة والقضاء والحياة العامة بشرف المرأة وشرف الأغنية وشرف السينما وشرف الشعر وشرف التعليم.
وقد أصبح استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في مصر شعبويًا في التعبير عن الأفكار المحافظة، ومهاجمة الأفكار العلمانية أو اليسارية في الأدب والسينما والأكاديميا والحياة العامة، بل طغت مئات مقاطع الفيديو “عملت مكرونة ومحشي لزوجي، وطبخت لحماتي، وسلفتي بتغيظني” على الأكثر مشاهدة، وآلاف المقاطع الأخرى بعناوين إباحية جميعها على منصة يوتيوب صُنعت في مصر من قبل ممثلين وممثلات مصريين غير معروفين تحصد ملايين المشاهدات “قاعدة لوحدها في البيت وجابت السباك”، “فتاة استغلت أخوها الكفيف ودخلت عشيقها البيت”، “فتاة تفعل شيء مش محترم مع اثنين صحاب” فهذه المقاطع بالنسبة لمصطفى بكري وغيره قد تكون إباحية حميدة (ما فيهاش كلوتات دانتيل)، وليست خطرًا على المجتمع، ومن أصالة التقاليد الأسرية.
ولا ننسى أنه منذ أيام قليلة طردت وزارة التربية والتعليم المصرية مُعلمة من المدرسة بعد حملة شعبية على “السوشيال ميديا” ضدها لأنها رقصت بين زملائها وزميلاتها في مركب وسط نهر النيل، على الرغم من أن الرقص على مراكب النيل هي عادة شعبية تقوم بها المحجبة وغير المحجبة وربة المنزل والعاملة، فلطالما كانت تعبير عن الفرح العفوي بالنيل و”الفسحة” أكثر من هدف الرقص نفسه، إلى درجة أننا كنا ننبهر نحن الزوار القادمين من البلاد المحافظة بهذه العادية في الرقص، (كنا يا دوب نعرف نضحك بصوت عالي في السينما).
وهناك حوادث مشابهة قبل حادثة المعلمة، أشهرها التشهير بالمرأة الروسية التي خرجت بالمايوه في شرفة منزلها وتصويرها سرًا ونشر المقطع ثم احتجازها في الشرطة والتحقيق معها قبل إخلاء سبيلها، وقبل هذا كله، الحكم الشهير على ست فتيات من نشيطات موقع “تيك توك” بالسجن لسنوات بسبب التعدي على المبادئ والقيم المجتمعية، أي دين جديد هذا يا مصر؟ الذي يصب غضبه على أجساد النساء.
وليس بالضرورة الشعبي أن يكون حكمًا طبقيًا، فعلى الرغم من أنه قد تتجه الأفكار مباشرة إلى الهوة بين الطبقات في المجتمع المصري، فنصبح كأننا نتحدث عن فقراء لهم أغاني ومشاهد جنسية وسينما تختلف عن أغاني ومشاهد جنسية وسينما للطبقة الغنية، إلا أن هذا غير صحيح، بل هذا بالضبط ما يريده دعاة الدين الجديد والذوق الجديد من أمثال الفنان هاني شاكر والفنان شريف منير الذي هاجم من أشهر قليلة فيلم ريش مع أشرف عبد الباقي ويسرا وإلهام شاهين “لنخبوية الفيلم ومشاهد الفقر الوسخ، آه والله للسببين معًا”.
ولا يجب أن ننسى كيف أن هذه الشعبوية وقعت في حب منى زكي في رمضان الفائت في دورها بمسلسل “لعبة نيوتن” والذي لعبت في أغلبه دور سيدة مصرية متدينة، ودخلت البيوت البسيطة والقلوب وكانت تشبه كثيرات من الحياة اليومية، الأمر الذي جعل دورها في فيلم “أصحاب ولا أعز” الذي أنتجته شبكة نتفليكس عن الفيلم الإيطالي Perfetti Sconosciuti للمخرج باولو جينوفيز، صدمة مضاعفة بل جعل الهجوم عليها أقوى.
وعلى الرغم من ثيمة الملوخية بالأرانب أو الأنارب، التي حملتها إلى المائدة الفاخرة لكن ذلك لم يشفع لها ولم يؤكد أصالة هويتها المصرية حتى الحلة المعدنية الفلاحي لم تساعدها أيضًا، “فالكلوت والويسكي علقا في مخ المتفرج”، ومنذ البداية حين قدمتها الحكاية من أسرة حرة غنية تعيش في بيروت، أفقدتها التعاطف معها وشحذت الأسباب لكرهها، وفوق ذلك مدمنة كحول بالخفاء، وهذا ما لن يتسامح معه المُشاهد العربي الذي قد يقبل بيأس رب أسرة دفعته الهموم للإدمان، لكن ليست الأم أو الزوجة.
ومن هنا يبدأ الفيلم ودور منى يكسر تابوهات السينما المصرية في العقدين الأخيرين قبل أن يكسر تابوهات المجتمع، ورغم الهجوم الشديد عليه إلا أن مشاهداته مرتفعة جدًا في مصر، وهذه الازدواجية هي بالضبط التي يتحدث عنها الفيلم في قيم حياتنا اليومية إزاء الجنس والمثلية والخيانة.
وسؤالي التالي سيكون، لماذا لم يفعل الجدل نفسه في لبنان؟ أعتقد ببساطة لأن السينما اللبنانية في السنوات الأخيرة قدمت أفلامًا جريئة في التحدث عن عيوب المجتمع، وعلاقاته في مختلف الطبقات، وما يتوقعه المُشاهد اللبناني يختلف عما يتوقعه المشاهد المصري، كذلك الأمر مع السينما المغاربية، على الرغم من تزايد محافظ جمهورها في السنوات الأخيرة، فلا ننسى حادثة ضرب الممثلة لبنى أبيضار عام 2015 بسبب دورها في فيلم “الزين اللي فيك” الذي يحكي قصة سياحة الدعارة الخليجية في المغرب بواقعية وجرأة كبيرتين، وقد وفرته منصة نتفليكس مؤخرًا أيضًا تحت عنوان Much Loved.
والمثير للسخرية أن وسم “طلقها يا أحمد” في إِشارة إلى زوج الفنانة منى، الممثل أحمد حلمي انتشر أيضًا كنوع من الهجوم على الفنانة، فقد وصل للناس بشكل أو بآخر أنه ممثل محافظ أو من جيل السينما النظيفة، لذلك لن يقبل بهذا المشهد، (ألم أقل لكم منذ البداية أن هناك خلط عجيب بين منى زكي وشخصيتها في الفيلم)، وقد عاشت الفنانة أزمة مشابهة في فيلم “احكي يا شهرزاد” حين احتضنها زوجها في الفيلم “الممثل حسن الرداد” من الخلف وهي على جهاز الركض الرياضي، لكنها أزمة أخف وطأة مما يحدث الآن من زخات الشتم والرجم والتخوين.
لقد ركزت الجماهير العربية في مشهد اللباس الداخلي، حتى أنني رأيت سيدة كتبت أن الزوجات لا يبقين يرتدين سراويل الدانتيل بعد سنوات من الزواج بل يتجهن إلى القطني المشجر، وربما يكون هذا النقد الأفضل للمشهد، وبالضبط ملابسنا الداخلية تدل على الكثير من حياتنا، وهذا ما أرادت قوله منى زكي التي في الفيلم تعاني برودًا جنسيًا في علاقتها مع زوجها، فهي ترتدي على عكس حياتها الجافة.
وقد أوحى مشهد خلع اللباس الداخلي كونها زوجة خائنة لكن العكس ما يحدث، فنكتشف في المَشاهد اللاحقة أن زوجها الخائن، وأن ما فعلته هو رهان مع غريب تحادثه على فيسبوك دون أن تقابله أو تحادثه صوتًا، وذلك كي تشعر بأنوثتها، فبحسب زوجها “لا يستطيع النوم مع من تكون نده في البيت وأشبه شخصيتها بالرجال”، ألا يشبه هذا مشاكلنا اليومية التي من الصعب أن نتحدث عنها بصراحة. فأخذت منى زكي هذا الدور عنا، كما جدير بالفنان أن يفعل، لتتحمل الآن صيت الفضيحة وحدها، وهذا يذكرني بكثير من الاتهامات التي تنال مبدعات كما حدث مع الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي حين كتبت “فوضى الحواس” و”ذاكرة الجسد”، وبعد أن قرأ الجمهور واستمتع ولامست الروايات حياته، لم يتردد أن يقول إنها ذاتها البطلة واتهموها بالخيانة الزوجية، على عكس الرجل الذي يكتب ما يشاء ويلعب ما يريد من الأدوار ويرتدي ويخلع كما يحب، دون أن يمسسه لسان.
ولا تستطيع ممثلة باحتراف منى زكي والتي هي بالمناسبة أفضل كممثلة بمراحل من الممثل أحمد حلمي، مع محبتي لروحه الكوميدية العالية، أن تقدم ما يريده المشاهد المصري كي ترضيه، أو تحافظ على شكل واحد من الأدوار فهي ذاتها فقدت الكثير من نجوميتها لسنوات بسبب توقفها عن التجريب والمغامرة في التمثيل، وخوض مشاريع مختلفة، بعد ما تفوقت على نفسها في عدد من الأعمال المميزة كفيلم “احكي يا شهرزاد” 2009، مسلسل “آسيا” 2013، “أفراح القبة” 2016، ثم عادت أخيرًا مع مسلسل “لعبة نيوتن” 2021، وفيلم “أصحاب ولا أعز” 2022.
الجلل في كل ما يحدث، أنه من الصعب الغضب على الغاضبين من منى زكي وفتيات التيك توك والمعلمة التي رقصت والروسية بالمايوه في شرفتها، فلا يمكننا أن نتهمهم بالتدين، أو كونهم إسلاميين، أو يخدمون أيدلوجية ما، لأن أغلب هؤلاء هم بالأساس أوسعوا الإسلاميين قتلًا وطردًا وشتمًا، ويكرهون العلمانيين، ويسخرون من اليسار، ويقدمون أنفسهم حاميين القيم البدلاء، والقريبين من النظام الحاكم، والأهم كونهم من عامة الشعب وبعبارة أخرى “مواطنون شرفاء”، لكن من المهم الاستمرار بالإبداع والرقص والتمثيل والسينما والكتابة بما يليق بعفوية الحكايات التي تتكرر كل يوم، ودون أن نكذب بل بصدق يشبه إخلاص منى زكي لأدوارها.