في مُقدِّمة مجموعته القصصيّة الأولى، يقول القاصُّ الصينيُّ لو شون إنَّه وجدَ نفسه مدفوعاً إلى الكتابة، لأنّه شعر بوحدةٍ عارمة. لم يكن قادراً على النسيان، أو، بالأحرى، لم يكن قادراً على النسيان الكليّ؛ لذا، كتب قصصاً عن الماضي.
هذا بالضبط ما دفعني إلى الكتابة: وحدةٌ عارمة. أنا أيضاً فشلتُ في النسيان، فكتبتُ ما بقي في الذاكرة عن سوريا قبل الحرب. فقدانُ الذاكرة الجزئيّ يكبر ويتضاعف يوميّاً: لا أتذكّر أسماء معظم الشوارع والمطاعم والمحلَّات، وأصدقاء الطفولة والمدرسة، وأرقام هواتف البيت وعناوين المقرّبين والأهل، والدروب إلى الحدائق والمقابر، وأوّل قُبلة، وتفاصيل نزاعات العائلة التي لا تنتهي ولا تُحَلُّ ولا تؤثِّر على المحبّة، والروائح التي تعبقُ بها البيوت والشوارع والفيافي. بقي لي نصف -ذاكرة: أشخاصٌ وأحداثٌ وأحزانٌ وضحكاتٌ ومخاوفُ وصدقاتٌ وصداقاتٌ وفشلٌ مُتكرِّرٌ ولمساتٌ تَبقى على الجلد كبصماتِ القتلة. هذا ما كتبتُ عنه، بواقعيّةٍ شبه تجريديّة.
أحياناً، يكتب المنفيُّون عن حنينٍ إلى بلدٍ يشتاقونه ويتمنَّون العودة إليه. لا يشبه هذا حنينَ السوريّين: البلد تغيّرَت بالكامل، بل اختفت. نحِنُّ إلى مكانٍ لا وجود له، إلَّا في الذاكرة. والذاكرة، كما تعرفون، تتلوَّى وتتلوَّن وتتلجلج. لستُ استثناءً، وذاكرتي لا تدّعي أنّها مخلصةٌ للواقع تماماً، ولكنّني حاولتُ جاهداً أن أكتب ما أمْلته عليّ بدقّة.
الآمال والأحلام والخسارات تتلاشى كلّها بسرعة، والبلد كذلك، وما بقي منها فينا: كأنَّها نصف -ابتسامة، أو غيمةٌ صيفيّةٌ، أو مُذنّبٌ لامعٌ يمرق سريعاً، ليختفي كليّاً بُعيدَ لحظات، أمام أعين مشاهدين فضوليّين مَلولين، غير مكترثين بمصيره…