(1)
إذا لم تختر الأصدقاء المناسبين كي تتواصل معهم، سيصعب جداً الوصول إلى ذلك العالم (عالم الهايكو).
بوسون. شاعر ياباني.
لا يمكن كتابة الشعر، والتواصل مع العالم، بدون الأصدقاء. لم يكن بوسون وحده من جعل الصداقة مفتاحاً للفهم. أبيقور وأتباعه آمنوا أيضاً بالصداقة كفضيلة كبرى، بل وجعلوها أسمى من الحب -كما فعل مونتاني- لأن الحب، الحب الحقيقي الواقعي، يعتاش على الغيرة والغضب والملل، وعلى التهام المحبوب، حرفياً، كما يشرح لوكريتوس: في الممارسة الجنسية الناضجة، يعضّ الناس شركاءهم بشراهة وعنف، كأن الجوع الروحي يتجلّى في النهم الحسي.
في الشعر الصيني، ووريثه الأصغر سناً الياباني، تشكل الصداقات واحداً من المواضيع المتكررة الأساسية. كونفوشيوس آمن بأن الصداقة عمودٌ من أعمدة الحياة الاجتماعية الخمسة، الصداقة التي تقوم على الثقة والمساواة، ومن الأعمدة أيضاً سطوة الأب على المرأة وعلى الأسرة الكونفوشية. بالتدريج، غابت قصائد العشق عن الشعر الصيني، وبقيت الصداقة والتأملات في العالم الواقعي غير الميتافيزيقي.
الرسول محمد جعل من صداقاته جزءاً من عالم الإسلام: بشّر بعضهم بالجنة، واعتمد على آخرين كي يبنوا معه دولته الجديدة في يثرب. وكان يستشيرهم، ويراجع نفسه ويراجعهم عندما يتردد. لم يكونوا حوارين (يا لها من كلمة غريبة الوقع) كأتباع المسيح، بل سجّلهم المسلمون في مروياتهم “صحابة”: من الصحبة، واختصوا أبا بكر بلقب الصدّيق: “ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ”. الصدّيق، لأنه أول من صدّق الرسول عندما أخبرهم بالإسراء (وقد شكّ حتى المقربون في القصة)، أو ربما لأنه صديقه الأقرب.
والصداقات -كالحب- تأتي من الاختيار الحر، على العكس من الأب والأم والإخوة والأخوات، الذين يفرضهم القدر علينا. ولكن، في الحب، يشعر معظم الناس بأن الهوى الذي يتنفسون يخنقهم، ولا يستطيعون الفرار لأسباب كثيرة جداً. لذا، يبقى الأصدقاء والصديقات الملجأ الوحيد في العالم. غالباً تنتهي الصداقات -على العكس من العشق- بدون مشاهد درامية، بل تذوي كنباتات منزلية نسيها الناس في عطلهم القصيرة بدون ماء.
قبّلت مرات قليلة صديقات مقرّبات. لم يكن الأمر أننا تخلينا عن الصداقة، ولكننا كنا ندرس معنى العلاقة تلك. تتداخل أحياناً الصداقة مع الحب. الحب، الحب الحقيقي الواقعي طويل الأمد، يقتضي الصداقة بالضرورة. العكس ليس صحيحاً. أما علاقات الحب التي تتحول إلى صداقة، أو علاقات الصداقة التي يتخللها حب أو ممارسة جنسية، فتقع على حدود التصنيف العقلاني/العاطفي، لتتهادى التصنيفات في القلوب كمطر صيفي خفيف شاحب، لا يبلّل المشاةَ على ما يقول فؤاد سالم.
انتهت صداقة ناصر وعامر بكارثة مروعة، في حين كانت صداقة “أبو عمار” مع “أبو جهاد” و”أبو إياد” عاملاً أساسياً في ديمقراطية المنظمة وتركيبها. أمست صداقة سارتر وكامو عداوة بغيضة، أما صداقة أنجلز مع ماركس فتركت أثراً لا يُمحى على معنى العالم المادي. ربما، لو وجد الرسام السوري لؤي كيالي صديقاً واحداً لما مات مبكراً (هل انتحر فعلاً؟). تحوّلت صداقة وايتهيد وراسل إلى نفور متبادل، لأسباب فلسفية وربما سياسية. وأنهى ياسوجيرو أوزو آخر أفلامه بجملة قصيرة تختصر الحياة ولا تعكس مجمل أعماله ولا عمقها وغناها الاجتماعي الكثيف المليء بالصداقات: “أنا وحيدٌ تماماً”.
“فاتت جنبنا” قد تكون الأغنية العربية الوحيدة التي تتكلم عن الصداقة. أغنية نصف-فاشلة، ومملة، لم ينجح فيها لا حليم ولا عبد الوهاب في أن يقبضوا على معنى الفن، كما فعلا معاً في “أنا لك على طول”. والصداقة مهمّشة في تاريخ الفلسفة والأدب بوضوح: لا نسمع أغان تحتفي بالصداقة، ولا أفلاماً ورواياتٍ تحتفل بها، ولا أشعاراً تتغنى بما يصح أن يكون قرين العشق. ربما لأن العذابات تغيب عن الصداقة، أو لأن الأدب والفلسفة يفشلان في تصوير العادي القريب من القلب: لا صراعات مع الخارج أو مع الداخل. طبيب الروح، نجيب محفوظ، وحده كتب عنها ولها ما عجز عنه الآخرون. في الثلاثية تلعب دوراً محورياً، وتتحول إلى الموضوع الرئيس في أنصع رواياته، “قشتمر”. فيها يتجلى التاريخ والمعنى في الصداقات التي تتحدى الزمن والسياسة والعشق الغادر والمرض -بل وحتى الموت، لتمنح الأبطال أدواراً تطمئنهم إلى تشعب وجودهم الزائل. محفوظ نفسه اشتُهر بجلساته مع “الحرافيش”، بصداقاته التي دامت عقوداً. كأنه يستحضر جلجامش وإنكيدو: فاتحة الأدب المكتوب في تاريخ البشرية سجّلت الصداقة والموت كمنبع للتأمل في معنى الحياة. يفشل جلجامش ومحفوظ كلياً في فهم معنى الموت، ولكنهما يدركان معنى الصداقة غريزياً وبدون شروح.
وعلى الصداقة أن تكون متجرّدة من الفكر النظري ومن الواجبات المقدسة: الجماعات المنظّمة تشوّه الصداقة، سواءً أكانت دينية أم سياسية. الاهتمامات المشتركة، بدون شعور بالذنب اتجاه الآخرة أو الدنيا، تبني الصداقات الحقيقية. تعيش الصداقة في العالم المادي الواقعي، تُغنيه وتستثمر في أبعاده الألف: في كرة اليد أو الجمباز الإيقاعي، في لعب الورق أو طاولة الزهر، في الشره، في النميمة، في الكسل المدرسي، في المعاصي الصغرى، في الأغاني الشعبية، في الرقص، في المشي معاً آلاف الأميال، في محبة الجبال أو في عشق المدن، في الخوف المشترك من الآخرين، في الأفلام العظيمة الطويلة المملة أو الهوليودية السخيفة، في تعلم اللغات أو في دراسة الفيزياء، في التهرب من العائلة والأولاد والأبوين، في الرغبة بالصمت أو بالثرثرة، في الحس المشترك بالعدالة أو بتجنب السياسة كأنها إثم من عمل الشيطان.
لم يكن للمتنبي أصدقاء، ولأسباب مختلفة تماماً، لم يكن للمعري أصدقاء أيضاً. حتى الصداقة المفترضة بين الرومي والتبريزي، مجرد وهم يصّاعد للقاء الماورائيات. لا يمكن لأمثال هؤلاء بناء صداقات: الصداقة بحاجة إلى حس أرضي متواضع، يفتقده المغرور الأشهر، وقدرة على تفهم أخطاء وخطايا الناس، تغيب عن حكيم المعرة، ورغبة بعناق مفاتن الحياة الدنيا، تنقص المتصوفة وأشباههم ممن لا يؤمنون إلا بعالم آخر مواز يرونه الفعلي وحده. الصداقة بحاجة إلى قلب فسيح وروح لينة، والقليل من العبث- أو الكثير منه، كما عند أبي نواس والجاحظ، أو عند إمام المحدثين بشار بن برد، الذي يكتب عن صداقاته التي لم تدم طويلاً ولم تحمه في زمن الفتن والحروب:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صَديقَكَ لَمْ تَلْقَ الذي لاَ تُعَاتبُهْ
فعش واحداً أو صِل أخاك فإنه مقارفُ ذَنْبٍ مَرَّة ً وَمُجَانِبُهْ
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟ كفى المرء نبلاً أن تُعدّ معايبه
يغفر الناس للصديق ما لا يغفرونه للحبيب: السمنة، الفقر، التعب، الاكتئاب، الفشل المهني والعاطفي، الهفوات الأخلاقية، الجهل، رائحة الفم، الغياب المؤقت أو الطويل، قصات الشعر السيئة، التأخر عن المواعيد، تشتت الذهن، الشره، الضحك بصوت عال على ما نرتكب من سقطات.
تعيش الصداقة في المساواة، وتنمو في الديمقراطيات كما أكد أرسطو، أو في أجواء ديمقراطية داخل الطغيان. المنفيون من الطغيان يتعلمون أن الحب أسهل بكثير من الصداقة: تجد من تعشقه على السرير بسهولة، ويستحيل بناء صداقات في فيافي المنافي. وفيها، أيضاً، كما أكد ميلان كونديرا، تموت الصداقات القديمة الصادقة مع مرور الوقت والغياب المستمر، ليبقى المرء وحيداً كلياً، كأنه جلجامش في العالم السفلي…
(2)
كتب الشاعر الصيني دو فو إلى صديقه لي باي، بعد أن نُفي الأخير بعيداً في حروب طالت ولم تجلب العدل في آخر الأمر:
يغمر ضوء القمر الغائر غرفتي.
مازلتُ آمل رؤية وجهك، وأنا أحدق في الضوء.
المياه عميقة، والأمواج عالية.
احذر التنانين البحرية هناك.