كثوريين نؤمن أن الفن فعالية محوّلة للحياة، وأنه ضرورة لأنسنة العالم، أي أنه أداة نضال ضد الإمبريالية، بكل أبعادها اللاإنسانية، ففي مقابل قوى الظلم والتدمير والقهر والاستغلال، يكون الفن -الشعر- الثورة قوى نضال متكاملة من أجل الحرية.
الممارسة الفنية في جوهرها ممارسة ثورية، إن خلق أشكال جديدة هو تفجير وإغناء للحياة الإنسانية، توسيع لدائرة الفعل والرؤيا والإمكانية، وهو تجسيد للوعي. إن القدرة الإنسانية على الإبداع في التعبير عن نفسها بشكل دائم، تشكل خرقًا للنظام القائم، تلغي المحرم والثابت والجامد والماضي والميت، متوجهة دائمًا نحو المستقبل والحلم والحي.
الخط يحول العالم إلى حي.
الدم يحول العالم إلى حي.
اللون يحول العالم إلى حي.
نحن نحول العالم إلى حي، فرح، قدرة، إذ نكتب ونقاتل ونرسم ونلوّن.
إن التقاء الفن بالثورة هو تقاطع في الجوهر أي في فعل الإبداع، فالفن ليس بديلًا للعمل النضالي وليس زينة له، وليس تعبيرًا عنه بشكل مباشر أيضًا، وهو أيضًا ليس تابعًا له أو واضعًا، إن الفنانين الذين تحولوا من رسم اللاجئ إلى رسم الفدائي، لم يفعلوا أكثر من التقوقع في شكل ماض ميت، وهم لم يفعلوا في الثورة بل استعملوها.
إن مهمة الفنان كطليعي هي البحث عن لغة فنية وأشكال تعبيرية جديدة، فكل فنان جيد هو فنان طليعي، إن توجه الفنان نحو الخلق، يضعه حتمًا في علاقة مع مادة العالم الحية المتغيرة، ومع القوى الصانعة للتاريخ، والهادمة للقيم الجامدة، وإن اتخاذ الفنان موقفًا ثوريًا لا يعني أنه مطالب بأن يكون فنانًا واقعيًا، بالمعنى الضيق المحدود الفني أيضًا، من الفنانين الروس مؤسسي الحركة التجريدية والبنائية الذين كانوا ثوار أكتوبر 1917 إلى جواد سليم وفناني أيار 1968، وبول غيراغوسيان وضياء العزاوي… فالإبداع الحقيقي نقيض الرجعية والموت.
إن المناخ الثوري هو مجال تفجير القوى المبدعة خاصة في فترة تكوين الثورة، أي قبل تحولها إلى سلطة، يلتقي فيه كل هؤلاء الذين يبحثون عن تغير شامل في الكتابة والفن والسياسة والاقتصاد والعلاقات البشرية، وأن عصرنا الذي هو عصر الثورات السياسية هو أيضًا عصر الثورات الفنية، فلقد طرح الفنانون الشيوعيون خلال فترة تكون ثورة أكتوبر وفي السنوات القليلة اللاحقة لانتصار الثورة، طرحوا مفاهيم ولغة جديدة للفن كانت ثورة جذرية على كل المفاهيم الأكاديمية والبرجوازية التي كانت سائدة في أوروبا والعالم في ذلك الوقت، فلقد قام فنانون مثل مالفيتش وتاتلين وكاندينسكي وكابو وبغزنر ما بين 1912 – 1920 بإبداع أسلوب جديد في الفن هو الفن التجريدي الذي يقوم على عناصر بلاستيكية تعتمد على التكوين الهندسي الديناميكي، فن يتوجه نحو المستقبل والحركة في مضمونه وشكله ووظيفته أيضًا، ففي الوقت الذي كان فيه فنانون آخرون مثل بيكاسو وبرانكوزي وماتيس يبحثون عن فن تعبيري أو رمزي أو وحشي أو تكعيبي، أي فن له علاقة تطورية بالفنون السابقة وفنون الحضارات القديمة، نجد الفنانين الروس يبدعون لغة فنية جديدة نوعيًا، ولم يسبق لها مثيل في التاريخ، وكانت أول ثورة ناضلت من أجل تغيير مفاهيم الفن في القرن العشرين، لقد حاول هؤلاء الفنانون خلق ثورة في الفن معادلة للثورة السياسية والاقتصادية والشيوعية، أي رفض جذري للأشكال والأساليب القديمة الماضية.
إننا حين نريد تحديد الالتزام الثوري الحقيقي في الفن اليوم لا بد أن نرجع إلى الأصل، فنربط الالتزام الثوري في الفن بالحركة التجريدية الطليعية، إذ أن هؤلاء الفنانين كانوا أول مناضلين من أجل التعبير عن روح الثورة وولادة العالم الجديد، يقول هربرت ريد “لقد قُمعت الحركة ونفي محركوها أو أنهم صمتوا، لكنهم كانوا قد خلقوا ليس فقط حركة فنية جديدة، وتطويرًا في الأسلوب، ولكن نوعًا جديدًا كليًا من الفن البنائي Constructivist Art وانتشرت ممارسته من موسكو إلى كل العالم”.
في العالم العربي اليوم بدايات حركة فنية، بعد ركود طويل وانقطاع تام عن الممارسة الإبداعية تبدأ في استعمال اللون والخط والشكل كلغة للتعبير، وتبدأ مرحلة الوعي للذات كقوة فاعلة لها خصوصيتها الحضارية والإبداعية، ولقد كان جواد سليم (العراق) وأدهم إسماعيل (سوريا) وبول غيراغوسيان (لبنان) من أوائل الفنانين الذين حاولوا رسم ملامح تعبيرية فنية ناضجة ذاتيًا ومرتبطة بالحركة الفنية العالمية المعاصرة، وجسد هؤلاء الفنانون الوعي العربي الجديد في الخروج من السلب إلى الإيجاب، من الغياب إلى الحضور، وكانوا طليعة من عبر عن هذا الوعي التاريخي.
لا نستطيع أن ننظر إلى الفنانين الفلسطينيين إلا كجزء من الحركة الفنية العربية عامة، لقد ألح بعض الفنانين الفلسطينيين في البداية على تصوير المأساة والتشرد، وكانت هذه مرحلة طبيعية للتعبير عن الهزة المباشرة التي تعرض لها الإنسان الفلسطيني في صميم وجوده وحياته، وفي حين جمد بعض الفنانين الفلسطينيين عند هذه المرحلة الأولى، أخذ آخرون طريق المغامرة باحثين عن الخروج من المباشرة الانفعالية البسيطة للوصول إلى لغة فنية ذات خصائص بلاستيكية مستقلة، كانت جزءًا من الحركة الفنية الإبداعية العربية.
من الخطأ الادعاء أن هنالك فنًا فلسطينيًا، هنالك فنانون فلسطينيون، كما هنالك فنانون من دمشق أو بغداد، وأن الارتباط الفني العربي الفلسطيني هو ارتباط لا مثيل له إلا الارتباط بالدم، لقد شارك الفنانون الطليعيون العرب جميعًا في إغناء المعركة الفلسطينية بأعمالهم الفنية، كما استشهد مناضلون عرب على أرض فلسطين، إن شمولية القضية الفلسطينية سياسًا وإنسانيًا تجعلها غير قابلة لأن تحدد فقط بحدود فلسطين ومن هو فلسطيني المولد فقط، بل تأخذ طريقها إلى دم كل تقدمي، إذ أنها قضية الحرية الإنسانية عامة، ففي الزمن الذي تصير فيه قضية الثورة قضية عالمية، وفي الزمن الذي صار فيه الفن أيضًا حركة ذات صبغة وسمات عالمية، نرفض العودة إلى تكريس مفاهيم ضيقة ومحدودة.
إن زمن المقاومة الفلسطينية الذي هو زمن إبداعي، زمن الحلم والفعل، ساهم في خلق علاقات جديدة بين الفن العربي والحياة، أخذت هذه العلاقات أبعادها ضمن العمل الفني ذاته في شكله ومضمونه وفي وظيفته أيضًا، فبعد حزيران 67 وبتصاعد المقاومة الفلسطينية ومدها الشعبي على الأرض العربية حدث التقاء فعال بين الفنان والمجتمع، وخرج الرسامون من دفاترهم ولوحاتهم ومراسمهم للمشاركة في صنع التاريخ، يقول كمال بلاطة “بأن الفن الذي أنتجه الفلسطينيون بعد حرب حزيران 1967 بنوع خاص هو خطوة أولى نحو اتحاد الفرد بالكل”. إن مثل هذا الاتحاد لم يقتصر على الفنان الفلسطيني بل شمل طليعة الفنانين العرب فكان “شهادة الأطفال في زمن الحرب” تعبيرًا عن هذه الروح الثورية الجديدة في البحث عن الالتحام، وتفجير القاعدة الشعبية نحو المشاركة الإبداعية، كان نذير نبعة في ذلك الوقت يرسم لمجلة الثورة في دمشق ويزين كتبًا لشعراء المقاومة في الأرض المحتلة، وعبد القادر أرناؤوط يبدع ملصقات ضد الصهيونية بلغة بلاستيكية هندسية توحد بين الشعار النازي والنجمة السداسية، وفي بغداد رسم ضياء العزاوي “شاهد من هذا العصر” عن يوميات مقاتل فلسطيني في عمان – أيلول 1970.
في أمريكا كان كمال بلاطة من القدس القديمة يرسم بالحبر الملون أحلام فلسطين. حصان جامح من أرابيسك عربي، امرأة فلسطينية ترتدي أشعارًا فلسطينية، وكان فلاديمير تماري من يافا يبحث في بيروت عن حرف عربي جديد بسيط وعملي، ثوري، سماه مؤخرًا حرف القدس، وعرض فنانون آخرون مجموعة لوحات عن الثورة والحب، وفي بغداد أقيم معرض للملصقات في ساحة عامة، وأخذت الأعمال الفنية طريقها نحو الشارع عن طريق الملصقات والكتب والبطاقات وترك فنانون آخرون ريشهم وألوانهم وحملوا البنادق.
“إن الإنسان الذي يبحث عن وحدة الأنا المحدودة بوجود جماعي عن طريق الفن” يعرف في مثل هذه الفترات الديناميكية اتصالًا حيًا وعموديًا بالجماعة، بحيث يصير هو والعالم نارًا واحدة، برقًا واحدًا…
إن حاجتنا للفن – التعبير هي حاجتنا للقتال، فقضية الثورة واحدة لا تتجزأ، وإن مدننا تحتاج إلى أعمال فنية حاجتها إلى الديناميت، إن الفن هو أيضًا نوع من العنف، وهو أيضًا طريق نحو التحرر.