قد تدق بابك في قطاع غزة، ولكن ليس لسؤالِك عن قصف منزلك أو الجرحى أو برنامج البطالة، هذه المرة زائرة من نوع مختلف، إنها تسألك عن الأغاني التي تحفظها جدتك، فوسط كل ما يمرُّ به قطاع غزة من حصار ودمار متروك من أربع حروب، مَنْ قد يُفكر في الأغاني التراثية، والأناشيد، وحفظ ما تترنّم به الجدات والأمهات، سوى ريم أبو جبر..
أتذكر ريم قبل عدة سنوات تحدثت معي حول الفكرة، وأن نكتب عن هذه الأغاني وأهميتها، ونسيت مع الصحافة اليومية التي تأخذني من كل ما أحب فعله، إلا أن لا شيء يأخذ ريم عن فكرة تخلص لها، وبقيت في رأسها حتى أصبح هناك ألبومان لهذه الأغاني.. ثمرة تعاون ما بين جمعية نوى للثقافة والفنون التي تديرها ريم، وجفرا للإنتاج والذي يأتي ضمن أنشطة مشروع “أصوات مسموعة: تعزيز ممارسات حرية التعبير بين الأطفال، اليافعين والشباب” الممول من وزارة الخارجية النرويجية.
وفي محاولة للتكفير عن تقصيري في دعم التراث وأحلام ريم التي حين تصبح حقيقة، سرعان ما يملكها الجميع، استمعتُ للأغاني التي تفيض إحساسًا وتأخذنا إلى الطفولة والدفء وأيام الهنا مع الجدات، وتحدثت مع ريم عنها قليلًا:
سألتُها أولًا عن سبب هذا المشروع تحديدًا هل هو حلم شخصي أم أنه هدف جماعي؟ وأجابت أن توثيق هذه الأغاني لا شك أنه حلم شخصي ووطني بالدرجة الأولى، مضيفة ” أما لماذا هذا الحلم بالذات، لأنني في طفولتي حضرت كل الأعراس التي تتغنى بها هؤلاء النسوة، وعندما كانت تبدأ النساء بالغناء كنتُ ومازلت أرى فلسطين القوية والجميلة بدون الاحتلال، وكل ما نعانيه كفلسطينيين في الوقت الحاضر، وما تعانيه غزة بشكلٍ خاص واعتقد مدن فلسطينية أخرى تعاني كل يوم من محاولات طمس لهويتها الفلسطينية بدون انتباه، لذلك تأتي أهمية هذا التوثيق للتراث الشفوي، استرداد الطفولة وحفظ التراث، خاصة مع قلة إدراك أهمية توثيق التراث الشفهي وقلة جهودنا في هذا المجال”.
وتؤكد ريم أن الخسارة كبيرة بموت كبار السن الذين كان بالإمكان تسجيل الأحداث اليومية بفلسطين منهم مباشرة أي الذاكرة المحكية، ومعها الأغاني، لافتة بقولها “فقد ركّزنا على ما حدث من تهجير ونسينا ما قبله، وتاريخيًا من المهم تسجيل تلك الحقبة لتأكيد حق الفلسطينيين في وجودهم بهذه البلاد، وإن أكثر ما يخيفني أننا لن نجد يومًا ما نقوله وكأننا كنا نعيش قبل الهجرة في فراغ”.
أما عن الاختلاف بين الألبومين، قالت إن كليهما جُمعا من أفواه نساء كبيرات في السن في منطقة دير البلح، وعبارة عن أغاني متنوعة تتم ممارستها (غنائها) من نساء هذه المنطقة منذ على الأقل وحسب شهادات النساء أكثر من 100 سنة، متابعة “بمعنى كنا نسأل السيدة حاملة التراث متى سمعتي هذه الأغنية؟ تقول من وأنا صغيرة كانت النساء تُغنيها وتذكر أسماء النساء اللواتي كن يغنينها. الألبوم الأول كان للأغاني الأشهر بين النساء وخاصة في ليالي الأفراح والأعراس بشكلٍ خاص وعدد الأغاني قليل نسبيًا، أما الألبوم الثاني فهو الأغاني النادرة الي التي بدأت بالاندثار والتي تتناول موضوعات متنوعة وعديدة مثل الحصاد والحج والطهور والاحتفاء بالبنت وكرم أهل المنطقة وقد اخترنا تسميته باسم ليوان كونه يمثل المكان الذي اعتاد الناس أن يجتمعوا فيه لمناقشة أمور الحياة اليومية والمختلفة”.
وتضيف حول الألبوم الثاني أن هناك حديث عن حياة اجتماعية متكاملة فيه مثل السفر والحج والألم والعذاب والموت في السفر والتواصل مع شعوب أخرى، وتتابع أن النسوة لم يكن يتذكرن كل الأبيات، ومع ذلك هناك إمكانية لتجميع الأغنية بمواصلة الاستماع إليها من أخريات والبحث عنها بين بيوت دير البلح إلى أن تكتمل.
وبالنسبة إلى عملية تسجيل الأغاني وصناعة الألبومين تقول “كنا نرغب بإنتاج الأغاني بجودة عالية لذلك توجهنا للعمل مع شركة جفرا في مدينة رام الله وكان التواصل عبر الوسائل التكنولوجية واستغرق ذلك وقتًا طويلًا خاصة عند الإعادة بسبب رغبتنا في الاحتفاظ بطريقة أهل دير البلح في كيفية لفظ الكلمات، وجميع الأغاني تم تسجيلها بصوت فِرَق ومغنيين محترفين، هذا بالنسبة إلى الألبوم الأول، أما في الألبوم الثاني فقد قمنا بإشراك مغنيين من غزة للتنفيذ وقد تم التسجيل في غزة والضفة الغربية معًا”.
وهنا سألت ريم إذا ما كان المشروع نسائي بشكلٍ كامل، لترد أن التفرد في الأغاني ظهر بشكلٍ جلي عند أغاني النساء بينما إلى حدٍ كبير تشابهت أغاني الرجال على مستوى فلسطين وهي أكثر عمومية، متابعة “لذلك أردنا أنْ نُوثّق التفرد والتنوع والاختلاف في أغاني النساء وهذا ظهر بشكلٍ واضح، وغالبًا السبب أن التجمعات النسائية عادة ما تحاط بكثير من الخصوصية والتي لا تسمح بطبيعة الحال بأن يشترك فيها الرجال فكانت ومازالت حكرًا على النساء”.
ولا تنكر ريم شعورها بالخوف إذ أن الشابات يملْنَ أكثر إلى الأغاني الحديثة ولا توجد رغبة او اهتمام بالحفظ والنقل أو الاستماع لهذه الأغاني التراثية في المناسبات العائلية، وهنا تكمن أهمية التوثيق وإنتاجه للناس بنفس اللحن الأصلي، كي يبقى محفوظًا وسط غلبة الأغاني الجديدة وانتشارها، بشكلٍ يجعل الأجيال الجديدة تستمع إليها وتستمتع بها متى أرادت، “فربما نسمع عن زوجين اعتمدا هذه الأغاني في حفل زفافهما يومًا ما”.
وتروي ريم “منذ عام 2017 بدأنا بجمع هذه الأغاني وعندما أنتجنا الألبوم الأول كانت معظم النساء انتقلن لرحمة الله، لكِ أن تتخيلي الكم الثقافي الذي كان من الممكن أن نفقده بفقداننا لهؤلاء النسوة، لقد أعطونا أغاني فيها قوة وفخر وشخصية متفردة وقوية تجعلك تتعرف على شخصية المرأة الفلسطينية ومصدر القوة داخلها”.
وحول اختلاف الأغاني بين الضفة الغربية وقطاع غزة، توضح أن هناك أغاني متشابهة كثيرة، لكن الجهود المبذولة في قطاع غزة لجمع الأغاني التراثية الفريدة، ضعيفة على الرغم من كونها منطقة غنيّة للبحث والدراسة.
وريم التي تنحدر من مدينة دير البلح الساحلية ومن هناك جاءت أغاني الألبوم تقول إنها على الرغم من أنها دقت أبوابًا كثيرة وجلست مع نساء كُثر بصحبة فريقها، إلا أنها لا تزال لديها رغبة أن تفهم لماذا مدينتها تحوي هذا الكم الغني والمحتوى من الأغاني دونًا عن بقية المدن الفلسطينية؟، حين تكتشف ريم ذلك، سنقابلها من جديد، وربما وقتها يكتمل مشروعها وحلمها لحظتها وجمعت أغاني فلسطين كلها قبل الاحتلال من الشمال إلى الجنوب، وبالعكس.