الحراك الثقافي الفلسطيني في سوريا: من النكبة حتى الثورة السورية

Zuhdi Adawy, water colour on paper, 50 35 cm

يوسف م. شرقاوي

كاتب فلسطيني مقيم في سوريا

كان الحراك الثقافي الفلسطيني في سوريا، إذن، مرتهناً لما تشهده سوريا من أحداث السلم والحرب، وللحالة الوطنية والسياسية الفلسطينية أيضاً. وثمة أقوال إنّ الحركة الثقافية الفلسطينية في سوريا اغتيلت تقريباً بدمٍ بارد. إنّ أيّ استعادةٍ لها تتطلب استعادة لكل بُناها، وقراءة في هذه البنى، للبناء على ما يصلح منها وتقويض ما لا يصلح.

للكاتب/ة

مع ذلك، فإنّ التعويل اليوم على جيلٍ كاملٍ ضاع في سنوات الحرب، أو على ما بقي منه داخل سوريا، دون نسيان أنّ المشهد الحقوقي الفلسطيني، الذي يلفّه الضباب، هو الأجدى

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

12/01/2025

تصوير: اسماء الغول

يوسف م. شرقاوي

كاتب فلسطيني مقيم في سوريا

يوسف م. شرقاوي

صدر عن مؤسسة روزا لوكسمبورغ عام ٢٠٢٠ تقرير لكلٍّ من عبد الله الخطيب وتوم رولينز وعبد الرحمن شاهين، تحت عنوان "مجتمع فلسطيني جديد؟ انتفاضة وصراع سوريا من وجهة نظر المخيمات الفلسطينية". يركّز التقرير على ثلاثة مخيمات فلسطينية في سوريا، هي مخيم درعا في درعا، ومخيم اليرموك في دمشق، ومخيم النيرب في حلب. وقد تم اختيارها من أجل تحديد جدول زمني متصل على نطاق واسع للانتفاضة والصراع السوريين، ويبحث التقرير في كيفية إقحام المخيمات الفلسطينية نحو الصراع من قبل جهات مختلفة.

خلاصة التقرير في أنّه بعد عودة جميع المخيمات الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية الـ ١٢ إلى سيطرة الحكومة السورية في حينه (النظام الأسدي)، وبعد تدمير معظمها، كانت ثمة خطط لإعادة الإعمار مثيرة للجدل، ترجّح أن تجرّد قطاعات كبيرة من السكان الأصليين في المخيمات قبل الحرب من ملكيتهم عندما يتم تطبيقها. ويستخلص التقرير أنّ المجتمع الفلسطيني في سوريا تغيّر، وبلا رجعة؛ إذ تمّ تهجير غالبية السكان الفلسطينيين داخل سوريا واختفت حركات المجتمع المدني النابضة بالنشاط، وكذلك اختفى نشطاء الإغاثة والمبادرات الإنسانية، إضافة إلى صعوبات اقتصادية خطيرة. وكشف مسح أجرته الأونروا أنّ أكثر من ٩٠٪ من المجتمع الفلسطيني السوري الذي ما يزال داخل سوريا يعيش في "فقر مدقع".

ينسحب هذا القول على معظم النشاطات التي كان المجتمع الفلسطيني السوري يقوم بها وينشط من خلالها، لا سيما حراكه الثقافي الذي بدأ منذ وصوله إلى سوريا وظلّ مستمراً، على قلته، حتى بعد تهجيره من المخيمات. وبما أنّ البنى التحتية لمعظم المخيمات قد تدمرت، وليس ثمة إحصاءات رسمية عن نسب الدمار فيها ولا لعدد المتبقين من المجتمع الفلسطيني، ولا مخططات جادة لإعادة الإعمار، فإنّ أي حديث عن المشهد الثقافي الفلسطيني السوري سوف يكون تحت الضباب الذي يلفّ المشهد كلّه، الإنساني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والحقوقي، وليس ثمة سلاح غير التذكّر ينهض به الفلسطيني كي يتمكّن من القبض على حاضره والتعامل معه، محاولاً خلق المستقبل منه بمعالجة أخطائه. وعلى الرغم من أنّ لهذا المجتمع خصوصيته ومأساته المستمرة، فإنّ السلطتين البعثية والأسدية فتكت به قتلاً وتهجيراً واعتقالاً وتجويعاً، ولم يسلم من إجراءاتها التعسفية. إلّا أنّ انفصال مشهده الثقافي عنها، بوصفه مشهداً يُعنى بفلسطين، لا بنقد السلطة في البلد الذي هو فيه، فقد كان له هامش تعبيره ما دام لا يقترب من سلطة البعث أو الأسد، وقد ظلّ هذا الهامش متاحاً تقريباً طيلة الفترة التي كانت سلطة الأسد فيها تصدّر سياستها الخارجية بوصفها راعياً للقضية الفلسطينية، ولا يمكن قراءة المشهد الثقافي الفلسطيني بمعزل عن ذلك.

قبل الثورة السورية

يقول خليل الصمادي، صاحب "ذكريات من مخيم اليرموك: الشاهد والشهيد"، إنّ المشهد الثقافي الفلسطيني في سوريا بدأ مباشرة بعد النكبة سنة ١٩٤٨، إذ سُمِح للهيئة العربية العليا لفلسطين بافتتاح مكتب لها، ووُزّعت مجلة "فلسطين" الشهرية، وطُبعت بعض الكتيبات والمنشورات. ثم مع مرور الزمن أُسّست مؤسسة الأرض التي كانت تُعنى بترجمة كتب العدو والرد عليها، كما تأسس الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين الذي نشط في تجميع المثقفين الفلسطينيين على الساحة السورية.

بعد تأسيس مخيم اليرموك في دمشق منتصف الخمسينيات، وظهور التنظيمات الفلسطينية في أواخر ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي، ظهرت عشرات المؤسسات التي عُنيت بالثقافة والأدب، على سبيل المثال لا الحصر:

امتلأ المخيم والمخيمات الفلسطينية الأخرى على امتداد الجغرافيا السورية بمقرات حملت أسماء مثل: "نادي الشهيد غسان كنفاني" سنة ١٩٧٩، مقر "ماجد أبو شرار"، مركز "حلوة زيدان"، "جفرا"، "مؤسسة القدس للثقافة"، "مركز العودة الفلسطيني"، "مكتبة الجيل الجديد"، "المركز الثقافي الفلسطيني"، "المركز الثقافي العربي". ومن المنتديات والنوادي الثقافية برز "المنتدى الثقافي الديمقراطي الفلسطيني" سنة ١٩٩٦، "المنتدى الثقافي التقدمي الفلسطيني" سنة ١٩٨٣، "منتدى القدس الثقافي" سنة ٢٠٠٠، "النادي الفلسطيني للسينما" سنة ٢٠٠٠، "نادي جنين الثقافي" سنة ٢٠٠٦.

ومن المكتبات برزت مكتبة الشهيد عز الدين القسام، والمكتبة الثقافية الوطنية الفلسطينية، ومكتبة الأقصى والجيل الجديد. وبرزت من دور النشر دار الشجرة، ودار صفحات، ودار المسبار، ودار الأقصى، ودار الكرمل، ودار الموعد، ودار أفكار، ودار القدس للعلوم، ودار جفرا. فيما ظهرت مؤسسات أخرى مثل مؤسسة فلسطين للثقافة، وبيت فلسطين للشعر، والمركز الفلسطيني للثقافة والفنون، ومركز إبداع، وتجمع العودة الفلسطيني (واجب)، وظهرت مجلات مثل الهدف والحرية وفلسطين المسلمة والعودة.

ينسحب هذا المشهد على كافة المخيمات الفلسطينية في سوريا، إلّا أنّ لمخيم اليرموك كان النصيب الأكبر بوصفه مركزاً للمجتمع الفلسطيني وعاصمة شتاته كما يُطلق عليه. وحرص الأدباء والمثقفون المستقلون فيه على إثراء المشهد الثقافي، إذ برز منهم على سبيل المثال الراحل يوسف اليوسف، وأحمد برقاوي، وفيصل دراج، وابتسام الصمادي، وغيرهم كثيرون.

مع ذلك، لا تميز السياسة الثقافية التي كان ينتهجها البعث والنظام الأسدي في ممارساتها المجتمع الفلسطيني عن السوري، فقراءة لدراسة بدر الدين عرودكي بعنوان "الثقافة في سورية"، الصادرة عن حرمون للدراسات، يمكن تعميمها على سياسة السلطة البعثية والأسدية على المخيمات في آليات الرقابة وتمظهرات السياسة الثقافية. إلّا أنّ سياسة "احتكار" القضية الفلسطينية و"رعايتها" التي صدّرتها المنظومة الأسدية عن نفسها، تركت، كما قلنا، للعمل الثقافي في المخيمات هامشاً تعبيرياً ما دام لا يقترب منها لا من قريب ولا من بعيد. 

ولا بد من الإشارة إلى أنّ نشاطات كاملة توقفت، لا في سنوات الحرب وحدها، بل قبل ذلك. مثل تجربة المسرح الفلسطيني التي كانت تجول المخيمات الفلسطينية في سوريا، وتوقفت سنة ١٩٩١، كما توقفت فرقة القدس المسرحية عن العمل سنة ٢٠٠٥. ما يعني أنّ حقلاً فنياً كاملاً، هو المسرح، على أهميته، لم يكن حاضراً في المشهد الثقافي الفلسطيني السوري كعملٍ مؤسساتي أو منظم قبل عشرين سنة من الحرب، إلا بعض المبادرات الفردية والخاصة، إذ عرض زيناتي قدسية عدة مونودرامات مسرحية، مثل "أبو شنار" الذي يشتهر بها، في سنوات الحرب، وعرضها في دمشق وحمص وحماة. 

سنوات الجمر والنار

مع سنوات الثورة، والحرب، ضاع كل شيء تقريباً. حُرقت المكتبات المنزلية التي تُعدّ بالآلاف، وتبعثر ما بقي منها، كما هُدمت المراكز الثقافية. اغتيل غسان الشهابي صاحب دار الشجرة، وحوصر فوزي حميد. خرج يوسف اليوسف إلى مخيم نهر البارد، ومات هناك دون مكتبة، وهو ما سوف يبعث الحسرة في قلب أخيه حسن سامي يوسف حتى مماته هذه السنة. غادر أسامة الأشقر إلى السودان، والبرقاوي إلى الإمارات، ومؤسس بيت فلسطين للشعر سمير عطية إلى إستانبول، والشاعر محمود السرساوي إلى قبرص، وعلاء الدين رحمة إلى ألمانيا، ومؤسس مركز العودة طارق حمود إلى لندن، وأحمد الباش ومأمون الشايب إلى السودان، ومحمود الصمادي مؤسس مكتبة الطلاب الحديثة إلى القاهرة، ومحمود مفلح إلى القاهرة أيضاً. ظلّ في دمشق نفرٌ قليل، وفي باقي المخيمات، لكنّ فعاليتهم تعطلت، ولم يكن بوسعهم التحرك بعد أن هُدِمت المؤسسات أو أُفرغت، وبعد أن حوصر بعضهم. 

يمكن القول إنه، مع الحرب، صار المجتمع الفلسطيني في سوريا مجتمعاً سورياً خالصاً، له ما له الأخير وعليه ما عليه، دون أن ننسى التدمير الممنهج الذي اتبعه النظام السوري بحق المخيمات، لا سيما مخيم اليرموك، وظلّت النكبة مستمرة.

شتات فلسطيني سوري جديد

مع ذلك، فقد أفرزت التجمعات الفلسطينية الجديدة خارج المخيمات، بفعل النزوح، نشاطات ثقافية فنية؛ إذ استمر عمل اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين في معرضه السنوي يوم ٣٠ آذار، يوم الأرض. إضافة إلى معارض فردية ونشاطات فنية تراثية، مثل "نادي فتيات فلسطين" الذي نقل مقره من مخيم اليرموك إلى أحد البيوت الدمشقية القديمة، وضمنه فرقة "نداء الأرض" للمسرح الراقص. كما نشأ "منتدى كوشان" في مخيم خان دنون في دمشق تحت شعار "فلسطين تستحق - المخيم يستحق". وظهر في مخيم جرمانا في دمشق "الملتقى الثقافي"، وفي مخيم الحسينية في دمشق "ملتقى الشهيد زياد أبو خولة الثقافي"، وفي مخيم الست زينب في دمشق "ملتقى مخيم الشهداء الثقافي"، ولا نعرف النشاطات التي ظهرت في باقي التجمعات الفلسطينية في سوريا بسبب غياب تغطيتها إعلامياً، على أنّ الرأي الشعبي بكل هذه النشاطات كان متفاوتاً.

بالتوازي مع ذلك، برزت أفلام سينمائية كثيرة، وثائقية أو روائية، لمخرجين فلسطينيين سوريين ونالت جوائز، ولكنها لم تُعرض داخل سوريا أبداً. 

المصير

كان الحراك الثقافي الفلسطيني في سوريا، إذن، مرتهناً لما تشهده سوريا من أحداث السلم والحرب، وللحالة الوطنية والسياسية الفلسطينية أيضاً. وثمة أقوال إنّ الحركة الثقافية الفلسطينية في سوريا اغتيلت تقريباً بدمٍ بارد. إنّ أيّ استعادةٍ لها تتطلب استعادة لكل بُناها، وقراءة في هذه البنى، للبناء على ما يصلح منها وتقويض ما لا يصلح.

مع ذلك، فإنّ التعويل اليوم على جيلٍ كاملٍ ضاع في سنوات الحرب، أو على ما بقي منه داخل سوريا، دون نسيان أنّ المشهد الحقوقي الفلسطيني، الذي يلفّه الضباب، هو الأجدى.

هوامش

للكاتب/ة

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع