ينتقد إلياس خوري، أو يسخر من، عمل المؤرّخين في أكثر من صفحة على طول روايته «أولاد الغيتو»، بكتبها الثلاثة. فالمؤرخ، بخلاف الأديب، لا يصدّق القصص ما لم تكن بوثائق ملموسة تكون رسمية، في حين تشدّ الروائيَّ قصصٌ متناقلة شفاهةً لكارثة لم تترك مجالاً للمنكوبين لـ «ترسيمها».
يمتد هذا الانحياز الحكائي لدى خوري إلى ما قبل الرواية الثلاثية، إلى روايته «باب الشمس» (١٩٩٨) التي بُنيت على مقابلات طويلة أجراها الروائي اللبناني في المخيمات الفلسطينية، شاتيلا تحديداً. بنى حكايته على ما حكاه شهود تهجّروا من الجليل الفلسطيني إلى لبنان عام النكبة، وأسّس روايةً شخصية على أساسها، فروايته هذه قصّة حب كما عرّفَها دائماً.
القصة هي أساس الأدب، أما التأريخ فيجد ضالته في المعلومة. لكن، من قال إن كتب التاريخ أشدّ مصداقية من كتب الأدب!
التاريخ لدى خوري -كما أفهمه على الأقل- هو تراكم قصص شخصية، تتشابه القصص لتشابُه الظرف، فيودي التراكم إلى ظاهرة، أو كارثة، كانت النكبةَ في فلسطين عام ٤٨. ألّف خوري في «باب الشمس» واحدة من أعمق التمثيلات و"أجملها" لهذه الكارثة، لم يتجاوزها من بعدها سواه، في الأعوام الأخيرة قبل رحيله، في روايته «أولاد الغيتو»، العمل الروائي الشاسع، للكارثة الفلسطينية.
لم تنَل الرواية بكتبها الثلاثة، بعد، نقدياً على الأقل، ما يفيها حقّها. باستثناء كتابها الأول «اسمي آدم» (٢٠١٦). أما «نجمة البحر» (٢٠١٩) و«رجل يشبهني» (٢٠٢٣)، فلم تنالا، إلى اليوم، مساحاتهما النقدية المستحَقّة، خاصة الختامية منهما، لجدّتها. ولعلّي كنت بين كثيرين ممن نظّموا المسألة: قرأتُ الكتاب الأول عام صدوره. صدر الثاني فاقتنيته وانتظرت، فالأول يوحي بتتابع لصيقٍ ضمن أجزاء الرواية الثلاثية. صدر الكتاب الثالث واقتنيته بقرارٍ مسبق في إعادة قراءة الأول، ٨ أعوام بعد القراءة الأولى، مستتبعاً إياه بالكتابين التاليين، وهو واحد من أفضل القرارات القرائية التي يمكن أن أقول إني اتخذتها.
أعوام قليلة قد نحتاجها لندرك أن «أولاد الغيتو» تتخطى «باب الشمس» في مكانتها الأدبية والتأريخية، لتكون العملَ الأدبي الفلسطيني الأشمل. لكن خوري الروائي بقي مخلصاً إلى الأدب رغم تلك الشمولية. بخلاف أعمال أدبية عربية سعت إلى الشمولية في ثلاثيات ورباعيات وغيرها، لنجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وآخرين، فزاحت الشموليةُ الروايةَ من الفرد إلى المجتمع، لتكون أقرب إلى دفتر العائلة منها إلى دفتر اليوميات.
بخلاف ذلك، وازنَ خوري بين العنصرين، منحازاً إلى دفتر اليوميات، بحساسية الأديب تجاه الأفراد، وانتباهه تجاه المجتمع. نحن هنا أمام رواية عمّرت سرديةً فلسطينية، تامة في اجتماعيتها وتاريخيتها، من خلال فرد، وشخصيات قليلة تحيط به. لسنا أمام رواية دوستويفكسيّة أو ماركيزيّة أو بروستيّة تتشعب فيها الشخصيات مشكّلةً شبكة، وتالياً، عيّنةً اجتماعية، وتالياً وبالتراكم، شهادةً لشعب في سياق مُحدّد.
وصل خوري إلى الغاية ذاتها إنّما من خلال فرد لم يطمح، لا هو ولا مؤلّفُه ربما، لأن يكون عيّنة، بل كان، من خلال استثنائيته الحكائية، الفردية، واحداً من أصحاب القصص الفلسطينية المتشابكة فلا تنفصل واحدتها عن الأخرى. خوري في ذلك، مثل باموق، أقرب إلى الرواية الحديثة الغربية، إلى كونراد وسارتر وأوستر. وكان خوري ينقلنا في أعماله الطويلة، برشاقة الروايات القصيرة، من قصة، أو فصل حكائي من حياة آدم، ختمها بعبارة «فتلك حكاية تستحق أن تروى»، ينقلنا إلى أخرى، كأننا لا أمام رواية بنحو ١٤٠٠ صفحة، بل أمام -لنقُل- عشر روايات يحملنا خوري من واحدتها إلى الأخرى. وفيها، عشرتها، جاذبية «ألف ليلة وليلة» وسحر «كتاب الإمتاع والمؤانسة»، حيث ليالي الكلام تتواصل موصلةً القصةَ بالتالية.
غاص خوري بصفحاته الـ ١٤٠٠ في تاريخٍ فلسطيني جمعيّ، بالإخلاص إلى فردانية شخصيته الرئيسية، وخصوصياتها، وقلقها، منذ وُجد آدم مرمياً على صدر أمه الميتة، على قارعة طريق الخارجين يوم النكبة، إلى غيتو اللد، مروراً بحيفا ووصولاً إلى مطعم الفلافل في نيويورك. شخصية واحدة، ملحميّة، رسم من خلالها خوري الشخصية الجمعية للفلسطينيين، المودية أخيراً إلى منفى أوصل الموت بالولادة، الموت احتراقاً في الشقة النيويوركية بالولادة في بلاد تحترق منتكبة.
الرواية التي جعلت من القصة الفردية سرديةً جمعية، ما كان لها أن تفعل، ولا لنا أن ننجذب وننسحر، ما لم تكن تتنقّل بنا في بساط سندباديّ، من حكاية تستحق أن تُروى، إلى أخرى تستحق كذلك، أن تُروى، إلى سرديةٍ لشعب تحقّقت بهذه الملحمة الأدبيّة.
