زياد الرحباني

أنسنة الإيقاع وتجريد القضية: ماذا خسرنا برحيل زياد الرحباني؟

ناريمان ماجد

كاتبة من فلسطين

كان زياد يعرف قوة الكلمة، لكن في زمن الرقابة الصلبة والرقابة الناعمة، اختار أن يحوّل المذياع إلى مختبر للسخرية السياسية والوعي الطبقي. في برنامجه الشهير "بعدنا طيبين... قول الله"، نجح في كسر الحواجز بين الترفيه والتحليل، بين النقد السياسي والنكتة الذكية.

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

29/07/2025

تصوير: اسماء الغول

ناريمان ماجد

كاتبة من فلسطين

ناريمان ماجد

محامية وكاتبة في القانون والعلوم الاجتماعية

لم يكن زياد الرحباني مجرد فنان لبناني، بل كان تجربة ثقافية كاملة، هجينة ورافضة للتصنيف، تمشي بين الحقول الفنية والفكرية كما يمشي ساخرا في جنازة وطنه: يضحك بصوت مرتفع لأن الحزن بات مبتذلًا. في لحظةٍ فقد فيها العالم العربي صوته النقدي، وحلت البلاغة محل الألم، كانت تجربة زياد ضرورة وجودية: صوت يوقظ منام الكلام، ويعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والحدث، بين الإيقاع والمعنى، وبين القضية والانتماء.

برحيله، خسرنا أكثر من فنان خسرنا وجدانًا حادًا، كان يعرف كيف يحوّل النكتة إلى صرخة، والوتَر إلى منبر، والبرنامج الإذاعي إلى محاكمة للضمير العام

إعلان

موسيقى زياد: بين خيبات المدينة وإيقاع الخوف

في أغنيته "شو هالأيام"، لا تحتاج إلى أكثر من ثوانٍ لتدرك أن الموسيقى هنا ليست ترفًا جماليًا، بل وسيلة تعبير مكثفة عن زمنٍ منكسر، تبدأ بنغمات بطيئة، مترددة، تتخللها لمسات بيانو تشبه خطى من يحاول عبور شارع بيروتي في ساعة الذروة، بينما الكلمات تنزف قهرًا.

إعلان

"شو هالأيام؟ شو هالناس؟ ليه صاروا هيك؟ شو صار؟"

هي ليست أغنية، بل استجواب وجودي يُمارسه مواطن حائر. تنقل موسيقى زياد حالة البلاد أكثر مما تنقلها نشرات الأخبار: الخوف، الخيبة، تآكل الحلم، والغضب المكبوت الذي لا يجد مخرجًا إلا من ثقوب الموسيقى.

وليس عبثًا أن معظم أعماله كانت تعتمد على "اللا نهاية" في الجملة الموسيقية: كثير من مقطوعاته لا تنتهي بل تُترك معلقة، كما لو أن المصير نفسه قد تآكل، وكأن الختام أصبح مستحيلًا في واقع لا يختم شيئًا.

المسرح عند زياد: فضاء المقاومة اليومية

في "نزل السرور"، كما في "فيلم أميركي طويل" و"بالنسبة لبكرا شو؟"، لم يكن المسرح بالنسبة إلى زياد مكانًا للعروض، بل مساحة فضح ومواجهة، فشخصياته ليست نماذج نظرية بل انعكاسات مشوهة للمجتمع: الموظف المقهور، السمسار، المثقف المتخاذل، الثوري الكاذب، المواطن الذي يحلم بالهجرة... كلهم أبطال مهزومون لا يملكون أدوات النجاة، لكنهم يستمرون بالثرثرة والعيش.

في "بالنسبة لبكرا شو؟"، نسمع من أحد الشخصيات

أنا بعرف إنو ما في مستقبل، بس ما عم بقدر اقتنع. في شي عم يخلي الواحد يكمّل... يمكن الحكي، يمكن الحب، يمكن الولا شي.

هكذا كان زياد يكتب: يفضح كل شيء ثم يترك فسحة صغيرة لبصيص عبثي من الأمل، لا بوصفه حلاً بل بوصفه ضرورة للاستمرار، ولعل أهم ما يميز مسرح زياد هو تداخله مع حياة الناس. لا حاجز بين الخشبة والشارع. الشخصيات تتكلم بلهجة الناس، تسبّ مثلهم، تضحك وتبكي مثلهم. إنها "الدراما اليومية" التي رفض أن يسلّمها للمسلسلات الرديئة، فحوّلها إلى مسرح صادق لا يُرضي السلطة ولا يتملّق الجماهير

الإذاعة: حين يصبح البث مقاومة

كان زياد يعرف قوة الكلمة، لكن في زمن الرقابة الصلبة والرقابة الناعمة، اختار أن يحوّل المذياع إلى مختبر للسخرية السياسية والوعي الطبقي. في برنامجه الشهير "بعدنا طيبين... قول الله"، نجح في كسر الحواجز بين الترفيه والتحليل، بين النقد السياسي والنكتة الذكية.

أحد أبرز مقاطع البرنامج يبدأ بصوت زياد يقول ببرودة مريرة:

"كل يوم منفتح الجريدة، منفكّر في شي جديد، بس منلاقي ذات الخبر: لبنان ينتظر. طيب ناطر شو؟ ما حدا عارف."

هنا، تصبح الإذاعة أداة تحليل نفسي لجمهور فقد علاقته بالزمن وبالأمل؟ صوته لا يسعى للتهدئة بل للتنبيه، لا لتمرير الوقت بل لاستفزازه.

وكان زياد يقصد من برنامجه أن يقول: "أنا أعرف أنكم تعرفون، فلماذا لا تقولون؟".

فلسطين: حضور لا يُعلن، لكنه لا يغيب

من النادر أن نجد فنانًا تعامل مع فلسطين ليس كرمز أو أداة، بل كأرض ومأساة وشاهد وشهيد. لم يُكثر زياد من كتابة الأغاني لفلسطين، لكنه حملها في تفاصيل مشروعه. من أغنية "بعد في عنا" التي غنّاها مارسيل خليفة، إلى تعقيباته المسرحية على "المفاوضات" والأنظمة، ظل يرى أن فلسطين لا تحتاج إلى التغنّي ببطولتها بقدر ما تحتاج إلى كشف خيانة الصمت عنها.

في إحدى مقابلاته، قال:

"مش بس السلطة خانت فلسطين... نحنا كلنا، بطريقة أو بأخرى، صرنا عم نعيش وكأنو فلسطين حدوثة، مش جغرافيا."

وفي مسرحية "فيلم أميركي طويل"، يأتي أحد المشاهد ليكشف حجم التناقض في تعامل المواطن العربي مع القضية، حين يقول أحدهم:

"بكرا بفوتوا الإسرائيليين على لبنان متل ما فاتوا على فلسطين، منقول: آه، شو كان معنا حق... بس منكون خلصنا."

هو لا يدين "إسرائيل" بقدر ما يديننا، نحن المتورطين بالهروب من فلسطين عبر الخيال، والركون إلى الخطابات.

زياد: خائنٌ للأمل الزائف

ربما كانت أكبر خسارة في رحيل زياد هي خسارة من رفض أن يبيع الأمل الزائف. هو لم يكن مع الثورة ولا ضدها، مع الحرب ولا ضدها، بل كان مع الحقيقة أينما ظهرت. ضد البلاهة، ضد التبعية، ضد الاستسهال. كان يعشق لبنان، لكنّه يكرهه. يتعاطف مع الفقراء، لكنه لا يغفر لهم ضعفهم أمام الزعيم. لم يكن "محايدًا"، بل كان ضد الجميع، لأن الجميع بلا استثناء أسهموا في صناعة المأساة.

وربما هذا ما يفسر لماذا لم يصبح زياد "أيقونة" رغم عبقريته: لأنه لم يُرضِ أحدًا، ولم يقدّم نفسه كبطل. بل ظلّ في الظل، يكتب لفيروز، ويضحك على نفسه، ويهاجم من يُصفّقون له.

في غياب الصوت الأخير

في رحيل زياد، لم يمت شخص، بل تكسّرت مرآة كانت تعكس صورتنا بلا مساحيق. موسيقاه كانت صدى مدننا المكسورة، مسرحه كان نداء عارٍ ضد الرداءة، صوته الإذاعي كان نهرًا من الأسئلة التي نتهرّب من الإجابة عنها.

ماذا خسرنا؟
خسرنا من كان يجرؤ على أن يقول لنا الحقيقة ونحن نضحك. من كان يجعلنا نحبّ الأغنية التي تفضحنا، ونحفظ المونولوج الذي يسخر منا. خسرنا من عاش معنا دون أن يُهادِن أحدًا، من فضّل الشكّ على التصفيق، والموسيقى على المدائح، والخيبة على التواطؤ.

لكن زياد لا يموت، لأن الوجع الذي كتبه لا يزال فينا. لأن فلسطين التي غنّاها لا تزال جرحًا حيًّا. ولأن السخرية التي أطلقها لا تزال قادرة على أن تهزّ أكثر من مئذنة ومذياع.

الكاتب: ناريمان ماجد

هوامش

موضوعات

للكاتب/ة

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع